بين خالد وعمر: لماذا اختلف عظيمَا الإسلام؟
توتَّرت الأجواء بشكل استثنائي في المسجد النبوي، وانحفر التحفُّز في وجوه الحاضرين. كان الغضب قد أخذ عمر بن الخطاب رضي الله عنه كلَّ مأخذِ بمجرد أن ظهر خالد بن الوليد رضي الله عنه في المسجد النبوي بعد قفوله من حرب المرتدين إثر استدعاءٍ عاجل من الخليفة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، بناءً على إلحاحٍ خاصٍ من وزيره عمر، للتحقيق مع خالد لقتله مالك بن نويرة اليربوعي -أحد الممتنعين عن دفع الزكاة بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام- وبعضَ أصحابه.
تذكر تلك الرواية التي ينقلُها مشاهير المؤرخين المسلمين، أن عمرًا انقضّ على خالد، وكسر الأسهم التي كانت في عمامته، وعاتبه بغلظة لقتله رجلًا مسلمًا -كان عمر يعتقد أن مالكًا ليس مرتدًا- والتزوُّج بامرأته، وهدَّده بالقتل رجمًا. لم يرد خالد على عمر، وتوجَّه إلى أبي بكر الصديق، الذي استمع إلى وجهة نظره في الأمر، فاعتبره اجتهد فأخطأ، فعاتبه، وأمر برد السبي الذي أُخِذَ من مالك وأصحابه، ودفع ديَّات القتلى من بيت المال، لكنه أقرَّ خالدًا على قيادة الجيش لمواصلة الحرب ضد المرتدين، مواصلًا سياسته التي ذكرها لعمر وغيره ممن عاتبوه في خالد، والتي لخَّصها في قوله أنه لن يُغمد سيفًا سلَّه الله ورسوله على المشركين، ليواصل خالد سلسلة انتصاراته الباهرة على المرتدين ثم في فتوحات فارس، والروم.
تنفَّس خالد الصعداء بعد أن تجاوز عنه الخليفة أبو بكر الصديق، فغادر مجلسه، ثم صاح متحديًا «هلمَّ إليَّ يا ابن أم شملة!»، وبدا أنه يوجه هذا النداء الغاضب المُبارز لعمر بن الخطاب، والذي لم يرد عليه، لاسيَّما وقد فهم من تلك اللهجة أن أبا بكر الصديق قد قبلَ عُذرَ خالد. يشكك بعض المؤرخين المعاصرين مثل الأستاذ محمد سهيل طقوش في تلك الرواية، لاسيَّما تلك العبارة «ابن أم شملة»، فالنداء بابن امرأة، ينطوي على إهانةٍ شديدة عند العرب، وهذا لا يليق بسلوك الصحابة كما يذكر طقوش.
أيًّا كان موقفنا من تلك الرواية وأمثالها، فالثابت أن اعتراض عمر بن الخطاب على أداء خالد بن الوليد في حروب الردة لم يكن ختامَ فصول الخلاف مع الرجلين العظيمين في تاريخ الإسلام، والذي سيصل إلى ذروةٍ جديدة عندما سيُصبح عمر خليفة عام 13 هـ.
جيلُ الصحابة القريب البعيد
لا مِراء في أن تاريخ جيل الصحابة هو الفصل الأهم في تاريخ الأمة الإسلامية، فهم عظماء الإسلام الذين ارتووْا مباشرة من الينبوع النبوي الصافي، وشقُّوا بدمائهم ونضالهم وصفاتهم للدعوة الإسلامية طرقها الأولى نحو مشارق الأرض ومغاربها.
لعل هذا هو السبب في هالة التقديس التي تُسبَغ على الصحابة من قبل الكثير من المسلمين، لاسيَّما من معتنقي المذاهب السنية، والتي تدفعهم إلى نظرٍ أحادي الجانب لصحابة الرسول رضي الله عنهم، يجعلُهم أقرب إلى المعصومين المتعالين عن البشرية. ولذا فإن هؤلاء غالبًا ما يتبنّوْن موقفًا دفاعيًا متحفزًا عندما يتعرَّضون -إن تعرَّضوا من الأساس- لما وقع بين الصحابة الكرام من خلافاتٍ في صدر الإسلام، محاولين بهذا الموقف أولًا إنكار وجود مثل تلك الخلافات، أو تبسيطها، أو تسطيحها.
إنَّ الدفاع العاطفي، والتقديس الزائف، هو الانتقاص من الصحابة بعينه، كما أنه يحرمنا من حُسن الاقتداء الواقعي بتلك الكوكبة من عظماء البشر، ويجعلنا كأجيالٍ متأخرة عنهم زمانًا ومكانًا ومكانة في اغتراب شديد يدفعنا للاعتقاد باستحالة القدرة على أن نحذوَ حذو هذا الجيل الأمثل، الذي لا يأتيهِ الباطل من بينِ يديهِ ومن خلفه.
والقارئ لسيرة الرسول عليه الصلاة والسلام، وتاريخ الصحابة، لا يجد أن تلك الروح كانت حاضرة في تعاملات الصحابة مع بعضهم البعض، إذ لم يَحُل الاحترام المتبادل، والإنصاف الكبير، دون اشتدادهم على بعضهم في مواقف عديدة، والإغلاظ في القول والفعل أحيانًا طبقًا لما يرونه الحق، وهم في نهاية المطاف بشر مهما كانوا عِظامًا، قد تغلبهم كغيرهم بعض الأهواء والنوازع الشخصية، وعاتبهم القرآن الكريم على تصرفات كهذه يومًا، بعد غزوة أحد، فقال «مِنكُم من يريدُ الدنيا ومنكُم من يريدُ الآخرة» سورة آل عمران 152.
في تلك الجولة، سنمرُّ على الخلاف الشهير الذي وقع بين رمزيْن فريديْن من الصحابة، هما عمر بن الخطاب، وخالد بن الوليد، وهو الخلاف الذي لا يزال محل جدل حتى اليوم بين طرفيْ نقيض؛ فبعض المغرضين يستخدمونه للإساءة للصحابة والتعريض بهم، فيما ينكره آخرون تمامًا ضمن جهودهم لتقديس أصحاب النبي عبر محاولة نفي حدوث هذا الخلاف جملة وتفصيلًا والتشكيك في معظم الروايات التاريخية التي نقلته، لاسيَّما تلك التي استعرضت لغةً شديدةً من الحوار بين الرجلين.
السيف المسلول .. بين أبي بكرٍ وعمر
أحاطت التحديَّات الكبرى بخلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه إحاطةَ السوار المعصم، ولعلَّ أبرزها كانت الردة العارمة التي اجتاحت معظم قبائل ومناطق الجزيرة العربية، باستثناء مكة والمدينة والطائف. لم يكتفِ المرتدون بالتخلي جزئيًا أو كليًا عن شعائر الإسلام ومظاهره، إنما قتلوا الكثير من المتمسكين بالإسلام بينَ ظهرانيهم، وحشد بعضهم الجيوش لغزو المدينة المنورة نفسها، والقضاء على الإسلام في معقله.
أطلق الصديقُ خالدَ بن الوليد في قيادة أحد أكبر جيوش المسلمين المُقاتِلة للمرتدين، وحقق انتصاراتٍ باهرة على مدعي النبوة طليحة الأسدي في موقعة بزاخة، ولم يعفُ عن القبائل التي عادت إلى الإسلام بعد هزيمة طليحة، كأسد وغطَفان وسليم .. الخ، إلا بعد أن سلَّموا من نكَّل منهم بالمسلمين في أول الردة، فأوقع بهؤلاء عقوباتٍ بالغة القسوة تتناسب مع إجرامهم، قتلًا وحرقًا ورجمًا وإلقاء من حالق.
ولما عجز باقي القادة عن قمع ردة مسيلمة الكذاب ومن معه من بني حنيفة في اليمامة، أرسل أبو بكر خالدًا، فأوقع بمسيلمة الهزيمة، بعد معارك طاحنة استشهد فيها العشرات من خيرة الصحابة. لكن قبل حرب اليمامة، وقع الموقف الذي عرضناه في صدر التقرير.
بعد هزيمة طليحة، بادر خالد بالتوجه إلى منطقة تعرف بالبطاح، وفيها مالك بن نويرة اليربوعي، ومعه جمع من قبيلة تميم امتنعوا عن الزكاة، كما حالف سجاح التميمية مدعية النبوة ودفع لها أموالًا طائلة. ما إن علم مالك بقرب جيش خالد، حتى فرَّق أصحابه، وفضَّل تجنب المواجهة الخاسرة، لكن نجح جُند خالد في أسره وبعض أنصاره، ثم قتلوه بعد الأسر.
تضطرب الروايات في ذكر سبب قتل خالد لهؤلاء، فبعضها يذكر أنه كان خطأ، حيث أمر خالد الحراس أن يُدفئوا الأسرى في ليلةٍ باردة، فظنُّوا أنها كناية عن القتل، بينما تذكر روايات أخرى أن خالدًا ناقش مالكًا، فاستخدم الأخير كلمة (صاحبكم) متحدثًا عن الرسول عليه الصلاة والسلام، فغضب خالد، وقال له أهو صاحبنا وليس صاحبك؟!، واعتبرها دلالة على ردة مالك، فقتله.
عندما وصلت أنباء الواقعة إلى المدينة مع بعض جند خالد ممن اعترضوا على قتل مالك، غضب عمر بن الخطاب بشدة، لاسيَّما وقد سبق له مراجعة الصدّيق كثيرًا فيما يراه قسوةً مفرطة من خالد في حروب المرتدين، نجم عنها إسالة بعض الدماء التي كان يراها بريئة.
بعد وفاة الصديق، وإقرار المسلمين لوصيته بخلافة عمر، كان من أوائل القرارات التي أصدرها الخليفة الجديد، أن نفَّذ ما عارضه فيه أبو بكر طويلًا، فعزلَ خالد بن الوليد من قيادة الجيش الإسلامي المواجه للروم في موقعة اليرموك، وإسناد القيادة لأبي عبيدة بن الجراح، والذي اتَّخذ موقفًا نبيلًا، فلم يُبادِر بإعلام خالد بالأمر، حتى انتهت المعركة بانتصار المسلمين الساحق تحت قيادة خالد.
كان هذا القرار تطبيقًا عمليًا لرؤية عمر بن الخطاب العامة في تقديم أهل السابقة في الإسلام، على من تأخَّر إسلامهم كخالد، وإن كانوا من أهل الكفاءة، فالمبادئ عنده أسبق من المصالح. وكذلك لاعتراضه على أساليبه الاستثنائية في القيادة والقتال، والتي يبرز فيها الشدة والاستهانة بدماء العدو كما برز في غير موقفٍ في حروب الردة وفتوح فارس، وكذلك الجرأة وبعض التهور، كما فعل عندما عبر من العراق إلى الشام بجيشه في صحراء قاحلة لاختصار المسافة، ومفاجأة الروم.
في المقابل، كان عمر يفضل كثيرًا أسلوب قيادة عمرو بن العاص، رغم أن خالد كان أنجعَ منه على كافة المقاييس العسكرية، لأنَّ عَمْرًا كان يميل إلى الحيلة والسياسة أكثر من السيف، فكانت حربُهُ لينة، على حد وصف عمر بن الخطاب.
استمرَّ خالد بعد عزله عن القيادة العامة مقاتلًا في حروب الشام تحت لواء أبي عبيدة، وكان له أدوار مشهودة في فتح دمشق وحمص وقِنِّسرين وغيرها، فولاه أبو عبيدة بن الجراح إمارة قنسرين.
أما وابن الخطّاب حيٌّ فلا!
عام 17 هـ، أغار خالد على الروم وعاد بغنائم ثمينة، فالتفَّ حوله الناس والشعراء طمعًا في بعض العطايا، فأكرمهم. وصلت الأنباء إلى المدينة، بأن خالدًا قد منح أحد الشعراء 10 آلاف درهم، فاستشاط عمر غضبًا، إذ كان يراقب سلوك ولاته بمنتهى الحزم والتدقيق، فأرسل إلى والي الشام العام أبي عبيدة بن الجراح أن يعزل خالدًا، ويستدعيه، ويخلع عمامته من رأسه ويربطه بها، ثم يحقق معه في مصدر تلك الأموال.
امتثلَ أبو عبيدة لما أمره به الخليفة على غير رغبةٍ منه، لتوقيره لخالد، وأعانه خالد على ذلك بعدم مقاومته. أجاب خالد على سؤال رسول عمر عن مصدر المال باقتضابٍ، قائلاً «من مالي»، فاعتذر منه أبو عبيدة، فقبل منه خالد، وقرر الذهاب إلى المدينة ليواجه الخليفة بنفسه.
في المدينة عاتب خالد عمرًا، وأكد مرة أخرى أن الأموال الكثيرة التي بحوزته هي من نصيبه من الغنائم، وأخبر الخليفة أنه سيحتفظ بستين ألفًا منها فحسب، وما فوق الستين فلبيت المال. وبالفعل استصفى عمر 20 ألفًا زادت في أموال خالد وردها إلى بيت المال، ثم تودَّد إلى خالد لما عاتبه قائلًا:
تذكر بعض الروايات أن خالدًا قبل خروجه من الشام خطب في الناس غاضبًا يذكر أنه أرسل إلى الشام عندما كانت ساحة حرب ضروس، فأحسن القتال، فلما استقرَّت وآتت أُكلها، عُزِل منها، وحلَّ محله غيره، فصاح به بعض الحاضرين محذرًا إياه من الفتنة، فرد عليه خالد بقولته المشهورة «أما وابن الخطاب حيٌّ فلا». وتلك المقولة تدل على أن خالدًا في قمة حنقه لعزل عمر له، كان يظن في عمر الخيرَ، ويراه صمام أمان الفتنة في الأمة، وهذا إنصافٌ فريد في ساعة الخصومة.
هل ظلم الفاروقُ خالدًا؟
لعلَّ أبرز ما اتّصف به عمر بن الخطاب -أيقونة العدل في تاريخ الإسلام- هو شدته في تطبيق ذلك العدل بما كان يراه الحق، وتوزيع أنصبة تلك الشدة على الناس وفقَ مقاديرهم وقوتهم وسطوة عشائرهم وقبائلهم. ولاشكَّ كما استعرضنا أن خالد بن الوليد قد نال الكثيرَ من عمر وفق تلك القاعدة السابقة، على قدر تفرُّد شخصيته، وقوة جانبه.
كان من جرَّاء تلك السياسة الصارمة لعمر، أن توقَّفت المسيرة الهادرة لخالد، القائد العسكري الفذ الذي لو تُركَ له العنان كما كان الحال في سنتيْ أبي بكر لعقدٍ أو عِقدين، ومضى على نفس سيرة الانتصارات المبينة، لأنسى كتب التاريخ من سبقوه ومن لحقوه من الفاتحين، كالإسكندر الأكبر، وجنكيز خان، وتيمور لنك، وشارلكان … إلخ. لكن كما ذكرنا، كانت مصلحة الأمة في منظور عمر أهم من مصلحة أيٍّ فردٍ من أبنائها.
ببصيرةٍ طالما امتُدِح بها ابن الخطاب، كان الرجل شديد الحذر تجاه كبار الصحابة، وزعامات قريش، الذين نشأوا في بيوت السيادة بها كبني أمية وبني مخزوم -قبيلة خالد- فكان يخشى أن تتفرق الأمة شبَعًا، وأحزابًا حول نجم هذا أو مجد ذاك، أو سابقة ذلك. فكان شديد الحساسية تجاه أية بادرة علوٍ أو تسيُّد تظهر من أيٍّ من هؤلاء النخب. وألزمَ أكثرهم بالإقامة إلى جواره في المدينة.
ولذا، فلا غرْوَ أن كان خالد بن الوليد ممن يضعُهم ابنُ الخطاب تحت مجهره الدقيق لمراقبة ما يراه من سلوكيات خطرة توحي بتنامي الرغبة في الصدارة والزعامة، أو تفاقم افتتان الناس بصفاته وإنجازاته. وكان عمر يخشى من خالد اعتدادَه الزائد بنفسه، وحبّه للقيادة والصدارة.
يحاول بعض المتربصين أن يختزل كل تلك الخلفيات المتشعبة والمُركَّبة لخلاف هذيْن الرمزيْن، في بعض النوازع الشخصية، والخلافات القديمة بينهما أيام الجاهلية (كمباراة مصارعة في شبابها، كسر فيها خالدُ ساقَ عمر) والتي إن صحَّ افتراض وجودها -وهما بشر يجوز عليهما الخطأ والنقص – فلا تمثل إلا هامشًا من المشهد.
لو كانت تلك النوازع هي الغالبة، لتمرَّد خالد على عمر، وكان يمكن بمكانته وبإنجازاته العسكرية الهائلة، وبنفوذ عشيرته وبأمواله أن يكسب ولاء الكثيرين ضد عمر، فيحدث فتنةً هائلة، أو كان عمر استمرَّ في التشنيع على خالد، بدلًا من إنصافه أمام الرأي العام بعد تحقيقه معه في الشبهات المالية، واستصفاء بعض أمواله ورعًا.
وعندما وافت المنية خالد بن الوليد عام 21 هـ، نعاه عمر بن الخطاب وبكاه، ونُقل عنه الندم على شدته الزائدة على خالد وإن رأى فيها مصلحة الأمة. وكان من اللافت آنذاك أن خالدًا أوصى أن يشرف عمر بن الخطاب على توزيع تركته، والتي كانت قد تضاءلت كثيرًا لكثرة ما أنفق في سبيل الله في سنوات عزلته الأخيرة، ولعل خالد كان في ذلك الموقف يعاتب عمر بن الخطاب بلغة الوقائع عتابًا رقيقًا لكنه كحد السيف، مثبتًا حتى الرمق الأخير نزاهة يده، وشاكيًا بلا ضجيج عدلَ الفاروق الصارم إلى جماهير المسلمين الحالية واللاحقة، والتي سترى عمل الرجليْن، وترفعهما إلى مقام النجوم في ليلِها عسير الفجر.