«خالد حسيني»: الواقع الأفغاني في الأدب الأمريكي

الوطن، هذا المعنى المراوغ الذي لا تستطيع تعريفه في الغالب، والانتماء الأكثر مراوغة الذي حتى وإن استطعت أن تعرفه بكلمات سليمة لن تستطيع فهمه.

الانتماء الذي لا يزرعه أحد بداخلك، شيء أشبه باللعنة، تطاردك طالما حييت، وحتى لو تركت الوطن ووجدت حياة أفضل في مكان بعيد على الطرف الآخر من الكرة الأرضية، تظل مقتنعًا أن هناك في الوطن – الذي لم يعطك أي شيء – جزءًا منك، هو أكثر جزء صادق حتى لو كرهته.

«خالد حسيني» لم يعرف وطنه «أفغانستان» حق المعرفة فهو لم يقض فيه سوى ثماني سنوات متفرقات على مدار عمره، لم يلعب في شوارعها ولم يتعلم في مدارسها ولم يواعد فتاته في أزقتها، ثم أن «أفغانستان» آخر مكان على الأرض يأمل فيه الإنسان أن يعيش حياة طبيعية، أن يعيش حياة أصلاً، ولكنها وطنه.

وطنه الذي قدر له أن يحمل لعنته للأبد، حتى بعد أن يصير طبيبًا ناجحًا يعيش حياة جميلة في «الولايات المتحدة الأمريكية»، هناك في أعمق جزء في قلبه شيء ما، ربما ذرة تراب استنشقها عن طريق الخطأ فأنبتت شجرة في صدره، جزء من الأرض التي هجرته، والتي يعود إليها في كل حرف يكتبه.

الوطن.. الهم.. اللعنة

الحياة أحيانًا تعطي فرصًا أخرى للبشر ليكونوا طيبين، دون سبب محدد في الواقع، شيء أشبه بتسديد الديون المستحقة، ربما لأن هؤلاء الناس طيبون في الحقيقة وسوف يستغلون الفرصة لتسديد ما عليهم من ديون، وربما لأن الأمر عشوائي تماما.

في «عداء الطائرة الورقية» أول روايات «خالد حسيني» التي صدرت في 2003، منح الكاتب لبطل الرواية فرصة أخرى لتسديد ديونه، الرواية تحكي عن مشاكل التمييز العرقي في «أفغانستان» بين «البشتونيين» و«الهزاريين».

مشكلة دقيقة جدًا لا يستطيع الإمساك بها سوى الأفغان الحقيقيين، الذين تربوا في ظل هذا التوتر العرقي الذي يمشي جنبًا إلى جنب مع مشاكل الاحتلال السوفييتي وحركة طالبان وتدمير القرى الأفغانية والفقر الحقيقي الذي يعانيه المواطنين، ثم يأتي رجل لم يعايش كل هذا ليحكي بدقة شديدة قصة «أمير وحسن»، ويرسم أزقة وحواري وأسطح بيوت وحياة يومية كاملة لتخرج التفاصيل بكل هذه العذوبة والدقة لتحكي المأساة.

كان «خالد حسيني» وقتها لا يزال طبيبًا، وظل يمارس المهنة لعام ونصف بعد صدور الرواية وتصدرها لقائمة المبيعات في أمريكا، ثم أيقن «حسيني» أن دوره الحقيقي هو أن يعالج «أفغانستان» التي لا يعرفها والتي يحملها في قلبه دون أن يملك من أمره شيئًا حيال ذلك.

بعد صدور روايته الأولى بخمس سنوات وفي 2007 تم إطلاق فيلم «عداء الطائرة الورقية» المأخوذ عن الرواية، وفي نفس العام صدرت روايته الثانية «ألف شمس ساطعة»، والتي غاصت في قلب المجتمع الأفغاني مرة أخرى عندما حكت قصة «ليلى ومريم».

الرواية مليئة بالقهر الذي لم يعشه «حسيني» في الحقيقة ولكنه آثر أن يجلد نفسه به ألف مرة في كل كلمة في الرواية، وكأنه يسدد ديون بعده عن تلك المآسي وعدم انغماسه الحقيقي فيها بجسده. تدور الرواية في نفس زمن روايته الأولى، وفي هذه المرة يناقش ما تعانيه المرأة الأفغانية التي لم تكن أخته ولا أمه ولا زوجته، ولكنه يحمل همها لأنها تنتمي لنفس التراب الوطن الذي يحمله في قلبه وفوق كاهله.

ليست أفغانستان فقط

في روايته الثالثة الصادرة عام 2013 تحت اسم «ورددت الجبال الصدى»، ظل الوطن خطًا عريضًا يؤطر كتابات خالد حسيني، رغم أن الإنسان في حد ذاته هو البطل هذه المرة، الإنسان الذي يمكن له أن يحمل النقيضين داخله، لا خير مطلق ولا شر مطلق، ظلت «أفغانستان» تحرك الأحداث كعادة حسيني ولكن ثراء الرواية بالشخصيات هذه المرة لا يمكن أن يفوت دون أن يلاحظه القارئ.

رواية «ورددت الجبال الصدى»

الإنسان في كابول، وفي فرنسا، وفي اليونان، وفي أمريكا، هو ذات الإنسان، بخيره وشره، بعقده ومشاكله التي لا تنتهي، حتى لو لم يكن الشر هذه المرة رشاشات السوفييت ولا لحى طالبان، الشر يمكن أن ينبت في تربة قرية أفغانية خيالية، أو على شاطئ يوناني فقير، وكأن «خالد حسيني» أيقن أن البشرية كلها منكوبة ليس وطنه فقط، الأرض كلها ترتعد خوفًا، هنا في هذه الرواية لم يسدد المديونون جميعًا ديونهم، ولم يعطهم حسيني فرصة ثانية ليكونوا طيبين.

نضج شديد طال شخصياته رغم أنه متمكن من البداية، إلا أن روايته الأخيرة تلك تعكس معرفة حقيقية وحارقة بواقع العالم، الأشرار لا يكفّرون عن خطاياهم، والطيبون لا يحصلون على كل الأشياء الجميلة في النهاية، بل تستمر الحياة الواقعية حتى لو رحل بعض الأنانيين وهم سعداء.

الهوية الحقيقية للإنسان

كانت هوية «خالد حسيني»، وما زالت، مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بوطنه، ينطلق في عالم الكتابة من أرض أفغانية ومآسٍ أفغانية وكلمات أفغانية، بل وشعر أفغاني، ورغم أنه لم يتربّ في هذا البلد إلا أنه اهتم في كل رواياته بإظهار الجانب الجميل من أفغانستان وسط كل ركام الحرب والفقر والغبار.

في كل رواية تجده يذكر ولع الأفغان بأشعار «الرومي» وترديدها، وأن جميعهم يحفظون ولو أبياتًا قليلة من شعره وحتى الأطفال الفقراء في أبعد القرى يعرفون شاعرهم الشهير ويحفظون بعضًا من كلماته، اهتمام صادق بتجميل صورة بلاده التي شوهها الزمن، فالشعر من أرقى الفنون وهو يحب أن يمتلك قومه شيئًا من الرقي حتى لو لم ير منهم العالم سوى صور قبيحة.

هوية حقيقية لدرجة غريبة تجعلك تتساءل: كيف يتشكل وعي الإنسان؟، وهل لحكايات الأهل والجالية في المهجر كل هذا التأثير على من يكبر بعيدًا عن أرضه ليأخذ على عاتقه مهمة الحفاظ على وطنه لدرجة أن ينشئ مؤسسة خالد حسيني للمساعدة الإنسانية في أفغانستان وأن يصبح مبعوثًا للنوايا الحسنة مع المفوضية العليا لشئون اللاجئين؟، هو الذي عاد لوطنه لأول مرة في عام 2007 بعد تركه لها مع أبويه في 1976.

فأي سحر هذا الذي يربط الإنسان بوطنه برباط خفي لا يمكن أن تراه ولا يمكن أن تعرف منطقه؟.

أم أن خالد حسيني ذو الموهبة الاستثنائية يمتلك انتماءً استثنائيًا أيضًا؟.