أفلام خيري بشارة: شاب يحمل في قلبه أغنية
في محادثة مع الجمهور بعد عرض النسخة المرممة من فيلمه «الطوق والإسورة» 1986 ضمن فعالية أقيمت في بداية يناير 2023 بسينما زاوية بوسط مدينة القاهرة، يبدأ خيري بشارة بتعليق على أجواء عرض الفيلم في عام صدوره، حيث بحسب ملاحظته خرج الرجال من دار العرض منكسرين مطأطئي رؤوسهم بينما خرجت النساء مرفوعات الرأس، ذكر بشارة تلك الملاحظة للتأكيد على ميله العام لنصرة المستضعف في تلك الحالة النساء، خصوصاً مع وقوع أحداث فيلمه المبني على رواية ليحيى الطاهر عبدالله في ثلاثينيات صعيد مصر حيث العادات البطريركية القبلية في أوضح صورها.
في فيلمه التالي «يوم مر ويوم حلو» 1988 الذي تدور أحداثه حول مجموعة من النساء تلعب أدوارهن مجموعة من أكثر ممثلات مصر موهبة يظهر بطل رجل واحد بشكل رئيسي (محمد منير) في دور عرابي مع حفنة من الرجال الثانويين، لا يضيف وجود ذلك الرجل غير الخراب على بيت النساء اللاتي لا تكاد تحصد أقوات يومهن في حكاية أشبه برواية نساء صغيرات لماري ألكوت، وفي تعليقه على ذلك الفيلم يستدعي بشارة تيار وعي من ذكريات طفولته، يعزي قسوة شخصية الرجل المستغل تلك لأبيه الغائب، تظهر في تلك الافلام الأولى نزعة ربما تكون انتقامية فرويدية من غياب الأبوة واستغلال الرجال، لكن هؤلاء ليسوا هم الرجال الذي يشتهر بهم خيري بشارة، عند سماع اسمه يتبادر إلى الذهن شباب رقيق حالم، يتسم ببعض العنف والاستحقاق الذي تفرضه تحديات اجتماعية صعبة، لكن يقف كل شاب أمام مصيره وفي قلبه أغنية، يريد تغيير عالمه الصغير ومن ثم العالم كله، غالبًا ما يكون مستضعفًا أو من خلفية فقيرة طامح للترقي الطبقي.
يمكن تقسيم مسيرة خيري بشارة لعدة أقسام فهو بشكل ما انتقل من رؤية قاسية واقعية لأبطاله خاصة من الرجال إلى رؤية أكثر حنوًا وعطفًا، بعد أفلامه الأولى الغارقة في النقد الاجتماعي والجماليات الوثائقية وربما الجدية المفرطة انتهج بشارة منهج أكثر خفًا وطوفًا فوق الواقع، اتسمت تلك الأفلام باشتراكها في بطل شاب في منتصف العشرينيات، يواجه واقعًا مغلقًا، يكسره بالغناء أو بالسعي وراء إمكانية ما غالبًا ما تتضمن مهارة أو موهبة، وتشترك كلها في حضور الغناء والموسيقى سواء أكان جزءًا رئيسيًا من السردية والشخصية الرئيسية كأن يكون الشاب نفسه مطربًا أو من خلال الشريط الصوتي للفيلم والتعبير الغنائي داخل النوع نفسه بغض النظر عن طموحات الأبطال، في كل تلك الأفلام بداية من «العوامة رقم 70» إلى «أمريكا شيكا بيكا» يمكن دراسة رؤية بشارة الذي يرى الفن كمخلص والتعبير الفني كمقاومة ضد انغلاق الواقع، كما يمكن رؤية تطور رؤية بشارة للحياة من استحالة التغيير وحتمية تكرار الماضي إلى التمسك بالأمل حتى ولو كان كاذبًا.
من القسوة إلى الخفة
في مشهد من فيلم «حرب الفراولة» 1994 يتنكر كل من ثابت (سامي العدل) وحمامة (محمود حميدة) في أزياء نسائية سعيًا نحو اختبار العالم بشكل بديل والبحث عن سر السعادة، يختبرون لأول مرة ظلمًا لم يتعرضوا له من قبل، تنهار الاستحقاقات عندما يرتدون حذاء الآخر هنا بشكل حرفي، تتعاطى أفلام بشارة سواء بقصد أو من دون مع ثنائيات جندرية دائمة، تتراوح بين التعاطف مع الذات كفنان يحاول التغيير والكراهية التامة لصفات مثل الاستحقاق، الاستغلال والهيمنة، يظهر أكبر مثال على ذلك في شخصية عرابي في «يوم مر ويوم حلو»، هو مثل كل شباب بشارة رجل يمتلك موهبة ضائعة تلك الموهبة ليست في سياق الفيلم من الداخل بل من خارجه، فالتيمة الرئيسية للشخصية موسيقيًا تسمع بصوت محمد منير نفسه، تضفي الدفء على شخصية من أقسى ما يكون، يتدخل عرابي في منزل النساء فيفسد تناغمه، يمتص كل ما يفيده ويلفظ ما لا يهمه، هو بشكل ما ضحية مجتمعية لكنه لا يمتلك التعاطف أو الكرامة في مواجهة الفقر الذي يميز نساء الفيلم، تلك النظرة تتلاشى حين يضع بشارة الشباب في مقدمة أفلامه كأبطال مستحقين للتعاطف رغم طباعهم الاستحقاقية، كأشخاص يمكن أن ينتصروا على صعوبات مجتمعاتهم حتى في الإطارات الصغيرة غير المرئية.
في بداية أفلامه كان دور الرجال في عالم خيري بشارة هو خلخلة الاستقرار، إفساد العوالم المتناغمة للنساء، مع تطور أسلوبه وتوجهه من الثقل إلى الخفة أصبح الرجال أبطال أفلامهم وعوالمهم الخاصة، شباب يبدأون حياتهم، ينضجون متأخرًا، يتعاطون مع واقعهم الاجتماعي والقومي والفني، يختبرون الحب والخسارة أو التعرض للاستغلال، ينتقل بشارة من النقد المجتمعي القاسي لتقاعس الذكور إلى تفهمهم واحتوائهم كرجال صغار، يحاولون ويفشلون، يريدون كل شيء ويشعرون أنهم يستحقون أن تتحسن دنياهم نظرًا لطيبة قلبهم ومعاناتهم. يصنع بشارة شخصيات أيقونية، نماذج لما يتبعه الشباب في عمر أبطاله، من طبيعة الأزياء التي تستخدم الرائج وتنوع الثقافات البصرية والسمعية في وقت صناعة الأفلام.
بدأ اهتمام بشارة باستخدام الفنان الشاب كحامل لأفكاره وتصوراته من فيلمه الثاني «العوامة رقم 70» 1982 الذي يدور حول مخرج وثائقي يدعى أحمد (أحمد زكي) ، ليس مثاليًا أو حالمًا بل يملك جينات شخصيات بشارة القاسية، «مستغل وأناني»، يحلم بتغيير العالم لكن فقط عن طريق الرؤية، عن طريق النظر وليس الفعل، يعلي من قيمة الوسيط السينمائي على قيمة الحياة الحقيقية، يستخدم الجميع للحصول على الصورة المثالية، ويصبح الأخذ والقبس من طاقة الآخرين هو مساره الرئيسي.
يأخذ أحمد من الشخصيات التي يصورها القيمة التي يريدها لأفلامه لكنه يجبن حين يواجه بإمكانية التدخل في الصورة، وحل مشكلات حقيقية داخل مجتمعه كما يأخذ من نساء حياته ما يرغب فيه فقط ودورهن هو الاحتمال وانتظار الحنان من بعد القسوة، ولا يحوز على نهاية تفاؤلية وحالمة بل نهاية منتقعة في القسوة، يمثل أحمد الجانب المظلم من الفنان الحالم في ظروف اجتماعية قاسية، الجانب الذي هجره بشارة لصالح صنع أيقونات عن الأمل، يتحرك بعدها من ذلك الاطار القاتم إلى شباب أكثر خفة، يستخدمون الفن كأداة وليس غاية، وتصبح الأفلام أقل تعقيدًا وعمقًا من «العوامة 70» لكنها بالطبع أكثر شعبية وجماهيرية
شاب يحمل في قلبه أغنية
بدأت أيقونات بشارة بشخصية سيف (عمرو دياب) في «أيس كريم في جليم» 1992، بستراته الجلدية التي يحاول بها أن يعيش كجيمز دين معاصر في القاهرة إلى سماعات رأسه التي تعمل كإكسسوار وأداة لصناعة شريط غنائي منوع من الأغاني الغربية والشرقية التي تحدد شخصيته وتخلق عالمه، سيف هو الأكثر قدرة على الحلم من بين شباب بشارة الجدد، لكنه مثلهم ومثل رجاله القدامى لا يخلو من قسوة واستحقاق يظهر تجاه خطيبته التي احتملت أوضاعه ثم ضاقت بها معيشتها فسعت للدخول في علاقة صداقة مع رجل غني يكبرها سنًا، يصور الفيلم التخلص من درية (سيمون) كانتصار وبداية للسعي وراء الحلم، تنقلب الأدوار التي اعتاد بشارة كتابتها سابقًا أي الطبيعة البطريركية الاستغلالية من سيف إلى درية، فالفيلم بسيط جدًا وربما ساذج في حبكته الرئيسة وتصوراته عن الفن ودوره.
يرغب سيف في احتراف الغناء وتغيير وجه المشهد الموسيقي في الإطار الذي يعرفه فيرتبط وجوده بالغناء كما إن كون عمرو دياب مطربًا في أوج شهرته ساعد في وضع الفيلم في مكانته الأيقونية، فكلمات الأغنيات تصنع الصراعات الرئيسية وترسم الشخصيات، تلك الطبيعة الغنائية تمتد إلى شخصيات أخرى لا تسعى لامتهان الغناء بل يسعون بشكل رئيسي لتغيير أحوالهم المادية الصعبة وفي طريقهم لذلك يتعاطون مع معنى الوطن في داخلهم وإمكانية التغيير المجتمعي والترقي الطبقي، يمثل محمد فؤاد شخصيتين من هؤلاء أولهما (ريعو) في فيلم أمريكا شيكا بيكا 1996 والأخرى «المنسي» في فيلم إشارة مرور 1993 الاثنين من تأليف مدحت العدل الذي أضاف على أفلام بشارة طابعًا مباشرًا وأكثر محافظة وعاطفية من ذي قبل لكنه اشترك في كتابة أغاني تلك الأفلام التي تتعاطى بشكل مباشر مع معنى الوطن وجدوى الهجرة.
مثل عمرو دياب تتماس أغنيات محمد فؤاد مع مكانته كنجم مطرب شاب في الحقيقة، فهو ليس مطربًا في تلك الأفلام لكن من ضمن إمكانياته المهدرة أنه يملك صوتًا جيدًا، صوت يستطيع أن يعبر به عن نفسه في أي مكان حتى لو ذلك المكان هو زفاف غرباء في بلدة صغيرة في رومانيا، يمكن رؤية النزعة الغنائية كذلك في فيلم كابوريا 1990 أحد أشهر أفلام بشارة في ذلك الفيلم يقوم بدور البطولة أحمد زكي (حسن هدهد) الذي لا يعمل كمطرب في الواقع أو في الفيلم، ولا يملك صوتًا عذبًا يعبر به عن آلامه وأفكاره الشخصية، لكن يستخدم الغناء كوسيلة لاستحضار طاقته وطبقته في عالم غريب عنه، يمثل غناء حسن هدهد متعة إكزوتيكية لطبقة الأغنياء التي يسعى للترقي إليها كما أن تلك الأغنيات بصوت زكي الحيوي غير المحترف جعلت الفيلم أكثر أيقونية وعاشت مشاهده بالنظارات الشمسية وسط حلبة ملاكمة كتعبير حيوي عن شخصيته التي لا يمكن تقييدها.
الحياة على ظهر دراجة
تقع حكايات الشباب غالبًا على خلفية من الزحام والزخم المديني، كل شيء يحدث طول الوقت وفي كل مكان، العربات ووسائل المواصلات وعابري الميادين، تتضاد تلك العمومية الشديدة مع الخصوصية الشديدة لحكايات الأبطال، تقع كل تلك الشخصيات في فضاءات بصرية واسعة، يرتبط كل منهم بمنطقة معينة أو مدينة، ويتم تسجيل تحركاتهم وسط عابري الشوارع بنزعة توثيقية تضعهم داخلها كأنهم أبطال قصصهم لكنهم في الوقت ذاته جزء من تجربة كل شخص آخر، تقع تلك العوالم في مدن صاخبة يستخدم بشارة جمالياتها العضوية كخلفية لقصصه، من أضواء النيون والعلامات التجارية الاستهلاكية الملونة والتصوير في الشوارع الحقيقية أثناء ذروة المرور والزحام، تعمل تلك الثنائية بين الفرد والمدينة في تأطير الشخصيات بصريًا، جعلهم جزءًا من بيئة محددة تميزهم، سيف وسط الأضواء الملونة الصناعية في جراج وسط المعادي في القاهرة، والمنسي في مدينة أوروبية لا تشبهه وسط الغابات العالية والطرق اللامنتهية، وهدهد في انتقاله من مصر القديمة بأبنيتها الخالدة القديمة إلى فيلا غريبة تستخدم جماليات القدم لإضفاء أصالة مصطنعة على ساكنيها.
تتكرر لمحات شاعرية تمنح فسحة للشخصيات للتنفس وسط المدن الخانقة، بدأ بشارة في استخدام الدراجة كتيمة بصرية للحب في أفلامه بداية من فيلمه يوم مر ويوم حلو، حيث صور نور الطفل الصغير يقود دراجته وتتقدمه محبوبته الوهمية التي تكبره سنًا في شوارع وسط البلد وللحظة في حياته يشعر أنه يمتلك زمام أموره، يتكرر المشهد الذي غالبًا ما يحدث على خلفية موسيقية تجعل منه مقطعًا غنائيًا صغيرًا داخل الفيلم في عدة أفلام، كوسيلة للتعبير عن بدايات الأمل وإضفاء صبغة انعتاقية على الأبطال، لكنها عادة ما تكون لحظة عابرة، تحمل قصص حب غير مكتملة، يمكن رؤية المنسي يقود دراجة مع الفتاة الرومانية التي أحبها في أمريكا شيكا بيكا، التي خذلها ولم يكمل علاقتهما لكن للحظة بدا كل شيء على ما يرام، يتكرر المشهد بنفس الموتيفة على دراجة سيف البخارية في «أيس كريم في جليم» الذي على الرغم من الخذلان الذي تعرض فإن رؤيته في شوارع المعادي الخضراء يشارك حبيبته الطريق يؤجل الإحباطات إلى وقت آخر.
تتضاد تلك الموتيفة الرقيقة بشكل ما مع الجانب المظلم لهؤلاء الشباب، تلك الشخصيات غالبًا ما تكون مستضعفة وتزرع في منتصف القصة لكي تكون بديل المتفرج داخل الفيلم فالبطل هو الشخصية التي يجب أن نتعاطف معها لكن إذا نظرنا إلى تعامل كل من المنسي «في أمريكا شيكا بيكا» وسيف في «أيس كريم في جليم» وريعو في إشارة مرور مع واقعهم ومع الآخرين في دوائرهم يتضح بسهولة طبيعتهم الاستغلالية، ويعيدنا ذلك إلى النظرة القاسية للرجولة في الأفلام الأكثر اجتماعية وجماعية، نتيجة لضغوط مجتمعية قاسية لأبعد حد، وضغوط بطريركية تضر صانعيها قبل الواقعين تحتها، بسبب طبيعة حياتهم الاجتماعية المادية الصعبة يشترك هؤلاء الشباب في الشعور باستحقاق الحب رغم إظهار القسوة، في أن يحنو العالم عليهم أخيرًا فيقدم إليهم فسحة من الجمال تتمثل في حبيبة تحتمل أحوالهم وتخفف عنهم قسوة الحياة حتى وإن عاملوها هم بقسوة ومن دون تفهم، لكن يختار بشارة أن يصور هؤلاء بكل تعقيداتهم وعيوبهم، لذلك عندما يحصلون على لمحة مما يريدون يصبح انتصارهم أكثر قربًا لمن يضعون أنفسهم مكانهم.