«خبيئة العارف»: مواجهة الإرهاب بالقوى الناعمة الغائبة
ربما يكون أو ما يتبادر لذهن قارئ «خبيئة العارف» أنه إزاء نصٍ أدبي يستقي مادته الأساسية من عوالم الصوفيّة مرة أخرى، تلك العوالم التي بدت ثريّة ومغويةٍ في السنوات الأخيرة، منذ انتشرت بين الناس رواية «قواعد العشق الأربعون» لإليف شفق، وحاز الروائي السعودي «محمد حسن علوان» على جائزة الرواية العربية «بوكر» عن روايته «موتٌ صغير» التي يستلهم فيها سيرة ومسيرة حياة الإمام الأكبر «ابن عربي»، ولكن المفاجأة ستكون من نصيب القارئ لا شك، إذ سيجد نفسه إزاء تجربةٍ مختلفة كليّا عن كل ما سبق، إذ هو في حكاية من واقعنا المعاصر، وإن كانت تُروى بطريقة الكتابة القديمة المميزة تلك، وتدور عوالمها حول خبيئةٍ مجهولة تركها أحد المتصوّفة المعاصرين، وهو الشيخ والمتصوّف المصري «محمد ماضي أبو العزائم» اقرأ أيضًا: موت صغير: عن حياة إمام المتصوفة «ابن عربي»
ولعل مفاجأة أخرى ستكون أمام القارئ الذي يتعرّف على سرد «عمار علي حسن» للمرة الأولى، إذ سبق للرجل أن كتب أكثر من نصٍ يستلهم فيه الحكايات والأجواء الصوفية، لعل أبرزهم روايته التي حاز بها على جائزة اتحاد كتّاب مصر عام 2013، وهي رواية «شجرة العابد» التي تدور في أجواء صوفية وفانتازية في الوقت نفسه، وتتناول الأحداث الراهنة بشكلٍ مختلف، ويبدو أن ذلك ما يبرع في تناوله «عمّار علي حسن» في كثيرٍ من أعماله، نجد ذلك أيضًا في رواية «جبل الطير» التي تناول فيها الصراع الخفي بين المتصوفة وعلماء الدين الأصوليين من جهة، والغوص في التاريخ المصري الفرعوني الضارب بجذوره في تكوين الشخصية المصريّة من جهة أخرى.
بل وإن المطلع على كتابات «عمّار علي حسن» الذي ذاع صيته كناقدٍ وباحثٍ في العلوم السياسية، سيعرف أنه قد أعد رسالته الماجستير عن «التنشئة السياسية للطرق الصوفية في مصر»، تحديدًا تلك الرسالة العلمية التي دفعته بعد 20 عامًا للعودة إلى سيرة «محمد أبو العزائم» واستلهام حكايته لبناء تلك الرواية، وذلك لما كان له من دورٍ سياسي في مصر أيام الاحتلال الإنجليزي وما تلاها. كما أن له دراسة أكاديمية شديدة الأهميّة سمًاها «فرسان العشق الإلهي»، تناول فيها رموز التصوّف بشكلٍ عام وعوالمهم الثريّة تلك.
هكذا، لا يبدو «عمّار علي حسن» بعيدًا عن عوالم المتصوفة، وهو ليس غريبًا على الأدب كذلك، إذ صال فيه وجال، وقدّم للمكتبة العربية عددًا من الأعمال الروائية الهامة، وهي إن لم تتصدّر المشهد الأدبي، ولكنها حفرت عميقًا في المجتمع المصري ومكوناته وجمعت بين الرؤية الاجتماعية والأدبية في الوقت ذاته، ليس أدل على ذلك من عناوين رواياته نفسها، إذ تناول الذين يحتكرون الحديث عن الإسلام وأثرهم في المجتمع في روايته «السلفي»، وتحدث عن «سقوط الصمت» مثلاً لكي يتناول أحداث ثورة يناير/كانون الثاني 2011 وما بعدها، بل إن «عمّار علي حسن» يبدو من الكتاب موسوعيي الثقافة غزيري الإنتاج، فلا تكاد تنتهي سنة من السنوات حتى يكون قد انتهى من كتابٍ في حقل من حقول المعرفة، سواء كان أدبيًا أو علميًا واجتماعيًا.
ما إن يطالع القارئ غلاف رواية «خبيئة العارف» حتى يدرك أنه بصدد روايةٍ تتحدث عن عالم الشيوخ والأفندية، ذلك العالم الذي يحدونا إليه الحنين، بل ربما يعتقد أن الشيخ المعمم هنا هو «الشيخ محمد عبده» لكن الرواية والبحث سيعرفه على رجلٍ جليل لم ينل حظه من معرفة الناس به وبجهوده، رغم دوره الكبير في الحفاظ على هذه البلاد، ورغم ما لوحق به من اتهاماتٍ في عصره، وما لوحق به أتباعه من تجاهل وتهميش حتى عصرنا الحالي، هو الشيخ «محمد ماضي أبو العزائم»
تسير الرواية على خطوطٍ ثلاثة، وتدفع القارئ دفعًا لمواصلة قراءتها لاستكشاف عالمها والتعرف على «خباياها»، ليس من أجل الرحلة حول ذلك «الكنز/الخبيئة» فحسب، ولكن لكي يتعرّف عن قرب على عالم ذلك الشيخ الذي يتحدث الناس عنه، ولا يعرف أحدٌ من تاريخه شيئًا، والروائي الذكي يجيد إثارة فضول القارئ إلى عالمه دون أن يكشف له كل أسراره ومعلوماته وخباياه، وذلك ما يفعل «عمّار علي حسن» باحترافٍ في هذه الرواية.
يقودنا الراوي من خلال حكاية أبطال الرواية «ماهر»، و«عبده» اللذين يعملان بوزارة الأوقاف ويحاولان الكشف عن ذلك «الكنز» المخبوء تحت ضريح الإمام «أبو العزائم» من جهة، ثم حكاية أستاذ التاريخ والمخطوطات «الدكتور خيري محفوظ» ورحلته للتعرّف على أسرار الشيخ من خلال المناطق التي زارها وتعلم فيها من كفر الشيخ إلى صعيد مصر إلى السودان حيث منفاه، وبين هذا وذاك ما تكشفه رحلة البحث من أخبارٍ ومعلومات عن «أبو العزائم» وكيف حرصت السلطات الحاكمة المتتابعة على تنحية دوره وإبعاده عن المشهد والسيطرة على تأثيره على العوام، لكونه رجلاً وطنيًا مخلصًا لا يدعو إلا إلى صلاح هذه البلاد، بل ويحرص على نبذ العنف والتفرقة بين الناس على أساس ميولهم أو جنسهم أو دينهم!
ورغم أن الرواية تتحدث عن واقعنا المعاصر، بل وتتفاعل مع أحداثٍ سياسيةٍ معاصرة هامة، مثل مسألة «ترسيم الحدود» و«بيع أجزاء من الأرض» لدولةٍ شقيقة (في إشارة واضحة لقضية تيران وصنافير) كما تشير إلى استخدام وسائل التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي المختلفة، في إعداد الأبحاث وحفظ الملفات على «الكمبيوتر» وطباعتها وتناقلها بعد ذلك، إلا أن الكاتب حرص أن يصبغ ذلك كله بصبغةٍ تراثية في لغة السرد بشكلٍ عام، ولذا فقد استخدم الأسماء التراثية للدلالة على أصحاب الأمر والنهي في البلاد، فنحن إزاء «ناظر وقف البلد» و«جهاز أمن السلطة» و«صاحب القصر الكبير»، وهي طريقة جديدة وجذابة في السرد؛ ذلك أنها تجعل القارئ يقرأ عن واقعه المعاصر بطريقة القدماء، على عكس ما فعله الكثير من الروائيين حينما يستعيرون شخصيات القدماء للتعبير عن الواقع الراهن بشكلٍ فيه إسقاط رمزي غير مباشر.
استطاع «عمار علي حسن» أن يقدم روايته بطريقةٍ سردية مشوقة، جمع فيها بين استخدام الراوي العليم، الذي يعرف تفاصيل الحكاية ويسردها، وبين تقنيات سردية أخرى «كالرسائل» التي يستخدمها كل بطلٍ من أبطال الرواية لنقل ما توصل إليه من معلومات، أو ما عرفه من أسرارٍ عن شخصيةٍ أخرى، أو عن ذلك البحث التاريخي حول الكنز المزعوم.
كما استخدم أيضًا الحكاية بطريقة الراوي المتكلمّ في الجزء الخاص بالدكتور «خيري محفوظ» وذلك للحكاية عمّا يدور في نفسه من أفكار وما ينوي أن يفعله بعد ذلك في المستقبل بعد أن تعرف على حقيقة الشيخ «أبو العزائم» والكنز الحقيقي الذي يفترض أن يكتشفه الناس.
تجدر الإشارة إلى أن رواية «خبيئة العارف» هي الرواية العاشرة في مسيرة «عمّار علي حسن» الإبداعية، سبقها عدد من الروايات، والمجموعات القصصية وثلاثة كتبٍ في النقد منهم «النص والسلطة والمجتمع» عن القيم السياسية في الرواية العربية، وكتاب خاص عن نجيب محفوظ سمّاه «بهجة الحكايا» وغيرهما، هذا بالإضافة إلى كتبه وأبحاثه ومقالاته في علم الاجتماع السياسي.