كازاخستان: نمو بلا تنمية وثورة على الطريق
يُفاضل كثير من مُنظري النيوليبرالية بين النمو والعدالة، كخيارين أحلاهما مر. فعلى مدار 30 عامًا –منذ سقوط الاتحاد السوفييتي وتواري الفكر الاشتراكي- سادت معادلة «النمو بديلًا عن العدالة»، كمقايضة لا تقبل الشك، حيث حرصت أنظمة الحكم وأجنحتها الاقتصادية على التأكيد عليها في كل مناسبة وإبان كل أزمة اقتصادية وسياسية، ودائمًا ما رسّخت قاعدة التخلف الاقتصادي والتبعية الممزوجة بمعدلات هائلة من التفاوت في الثروة.
خلال شهر يناير/كانون الثاني 2022، شهدت كازاخستان موجة من التظاهرات الشعبية ضد قرارات الحكومة برفع أسعار الغاز المسال، وهو وقود السيارات الأساسي بالبلاد. وسرعان ما تحوّلت تلك التظاهرات إلى مصادمات كبيرة بين الجماهير وقوات الشرطة، نتج عنها مقتل العشرات، فتصاعدت المطالبات بإسقاط الحكومة بل والنظام السياسي الحاكم بأكمله، خاصةً بعد سيطرة المحتجين على مبانٍ هامة بالبلد، كوزارة الداخلية والمطار، واجتياح مكتب عمدة مدينة «ألماتي» العاصمة السابقة للبلاد.
أعلن الرئيس الكازاخستاني «قاسم جومارت» حالة الطوارئ بالبلاد، وحلّ الحكومة، وتراجع عن القرارات الخاصة بالإجراءات التقشفية، وتراجع عن رفع الأسعار. كل ذلك يدفعنا أكثر للتعمق في فهم أبعاد الأزمة في كازاخستان.
نظرة على الاقتصاد الكازاخستاني
الشكل السابق يوضِّح لنا الاتجاه الصعودي –في مجمله- لمنحنى النمو الاقتصادي بكازاخستان خلال الفترة من عام 1990 حتى عام 2019، أي منذ سقوط الاتحاد السوفييتي واستقلال كازاخستان، وحتى قبل اندلاع جائحة كورونا العالمية عام 2020، والتي ألقت بظلالها على الاقتصاد الكازاخستاني.
حيث شهد معدل التضخم تزايدًا مضطردًا، صاحبه تناقص حاد في عائدات الصادرات التي تتشكل أساسًا من بيع النفط والغاز الطبيعي (70% تقريبًا)، حيث تمثل 21% من الناتج القومي الإجمالي بالبلاد، وهو ما شكّل القاعدة الاقتصادية للاحتجاجات التي شهدتها البلاد، خاصةً في ظل أوضاع عدم العدالة واللا مساواة التي يتسم بها الاقتصاد الكازاخستاني، وهو ما يوضحه الشكل التالي:
يوضح الشكل السابق مدى اللا مساواة وغياب العدالة التي يتسم بها توزيع الدخل القومي بالاقتصاد الكازاخستاني، حيث حصل 1% فقط من السكان بالبلاد على نسبة 16.4% من الدخل القومي في عام 2021، وحصل 10% فقط من السكان على نسبة 42.5% من إجمالي الدخل القومي بالبلاد، بينما حصل 50% من السكان على 15.4% فقط من إجمالي الدخل القومي بالبلاد، وهو ما يمكن إرجاعه إلى طبيعة النمو الاقتصادي المنحاز إلى الطبقة الرأسمالية المتحالفة مع الخارج «الاستثمارات الأجنبية بقطاع الطاقة بالبلاد»، وذلك على حساب المنتجين المباشرين من العمال والموظفين.
ترسّخت هذه السياسة بفعل الانفتاح الاقتصادي الذي تبنّاه الحزب الشيوعي الحاكم بقيادة «نور سلطان نزار باييف» الحاكم الفعلي للبلاد منذ 30 عامًا، والذي قدم استقالته عن رئاسة الجمهورية في عام 2019 على خلفية احتجاجات شعبية ضد سياساته وسياسات حزبه الذي يحكم بالحديد والنار، إلا أنه ما زال يشغل منصب رئيس مجلس الأمن القومي، وهي مؤسسة فوق رئاسية، بحيث يصبح هو الحاكم الفعلي للبلاد، وهو ما وعته الجماهير الغاضبة بالشارع، فرفعت شعارات تطالب بسقوطه بصفته الحاكم الفعلي للبلاد.
يُذكر في هذا الصدد أن «نزار باييف» يبلغ من العمر 81 عامًا، ويدير مؤسسات الدولة من العاصمة الجديدة (المُسماة باسمه)، والتي أنشأها إبان فترة حكمه، حيث أحدث بها طفرة عمرانية، وغيّر العاصمة التاريخية للبلاد «ألماتي»، التي تمثل قلب الاحتجاجات الحالية.
سيناريو المؤامرة والحل بالقمع
منذ تفجر الأزمة بالبلاد، دأبت السلطة عبر أبواقها الإعلامية إلى توصيف ما يحدث بالمؤامرة الخارجية المدعومة من الغرب، واللجوء إلى العنف والقمع للقضاء على الاحتجاجات الشعبية التي رفعت خمسة مطالب أساسية:
- تغيير حقيقي للحكومة.
- انتخابات مباشرة لحُكّام الأقاليم، بدلًا من تعيينهم من قبل رئيس الجمهورية.
- عودة دستور 1993، والذي حدّد فترات الرئاسة وسلطات الرئيس.
- عدم اضطهاد الناشطين المدنيين.
- السماح بشغل مناصب لشخصيات لا تنتمي للنظام الحالي.
قابلت السلطة هذه المطالب بالرفض –عدا إقالة الحكومة- حيث طلب رئيس الجمهورية دعمًا من منظمة معاهدة الأمن الجماعي (وهي تحالف دولي يضم عددًا من دول الاتحاد السوفييتي السابق تقوده روسيا)، وذلك للتدخل عسكريًا لإعادة الاستقرار بالبلاد.
الدروس المستفادة وخيارات المستقبل
من العرض السابق نستطيع أن نخرج بعدد من الدروس السياسية نُجملها في الآتي:
أولًا: أن تحقيق نمو اقتصادي ببلد ما لا يعني إنجاز تنمية اقتصادية حقيقية، طالما لم يقترن النمو الاقتصادي بتوزيع عادل للدخل والثورة، يضمن للجميع الاستفادة من ثمار النمو المحقق.
ثانيًا: يظل النمو الاقتصادي في مهب الريح طالما أنه غير مُستند إلى قاعدة شعبية وتكاتف مجتمعي خلف القيادة السياسية بالبلاد، وهو ما لا يمكن أن يتحقق سوى بوجود عملية ديموقراطية حقيقية وتبادل للسلطة عبر آليات الديموقراطية، من وجود أحزاب سياسية قوية ومناخ للعمل السياسي وانتخابات حرة.
ثالثًا: النجاح في جذب الاستثمار الأجنبي المباشر لا يعني بالضرورة الحل السحري لكل مشكلات الاقتصاد والسياسة في بلد ما، حيث نجح الاقتصاد الكازاخستاني في جذب 330 مليار دولار خلال الثلاثين عامًا الماضية، وهو ما يعني 10 مليار دولار سنويًا في المتوسط، وذلك بعدما قدّمت كازاخستان كافة الحوافز والمميزات للمستثمرين الأجانب عبر إنفاق الدولة الضخم على مشروعات البنية الأساسية وإنشاء الطرق بالإضافة إلى تقديم الإعفاءات الضريبية وضمان سهولة تحويل الأرباح إلى الخارج.
تركزت الاستثمارات الأجنبية في قطاعات النفط والغاز الطبيعي، وارتفع متوسط الراتب الشهري للعاملين بتلك القطاعات إلى 500 دولار شهريًا في المتوسط، إلا أن تلك النجاحات الاقتصادية لم تمنع حدوث الهبات الشعبية المتكررة خلال سنوات 2011 و2019 و2022، لأن الغالبية العظمى بالبلاد لم تستفد من تلك النجاحات، خاصةً في ظل مستويات الفساد المالي والإداري المرتفعة. يكفي معرفة أن 162 شخصًا فقط في كازاخستان يملكون 50% من الثروة بالبلاد.
رابعًا: إن غياب الديموقراطية الشعبية المتمثلة في التنظيمات الجماهيرية (أحزاب ونقابات حقيقية ولجان رقابة شعبية) يحوِّل التجارب الاشتراكية إلى نقيضها، فشتان بين الأحزاب الاشتراكية التي قادت نضال شعوب أمريكا اللاتينية ضد الاستعمار، وبين أحزاب تحمل فقط مسمى الشيوعية والاشتراكية، وتجثم على صدور مجتمعاتها بالحديد والنار، لتظل بعيدة كل البعد عن جوهر ومبادئ الاشتراكية، التي حاربت –عبر العصور- كل صور الاستغلال.