كاثي كولفيتز: المرأة التي صنعت من الموت فنًا
في كتابها ليس للحرب وجه أنثوي، تجمع الأديبة والصحفية الروسية سفيتلانا أليكسيفيتش تصريحات واعترافات نساء اشتركن في الحرب أو كن جزءًا خارجيًا منها، تتأمل كيف تنظر النساء للقتل والفقد بعيدًا عن النظرة الرجولية للحرب التي تعنى بالانتصار والتأريخ، تتقاطع الاعترافات الصادمة والقاسية مع تعليقاتها وملاحظاتها عن ماهية الحرب والتواجد الأنثوي داخلها وخارجها، تقول أليكسيفيتش في أحد مقاطع كتابها إنها لا تهتم كثيًرا بكتابة تاريخ الانتصار ولكنها تعنى بتأريخ المشاعر.
ربما يمكن تطبيق ذلك بشكل كامل على أعمال الفنانة التشكيلية الألمانية كاثي كولفيتز، التي اشتهرت أعمالها بالتأمل في مفاهيم مثل الموت والحرب والفقد، وبشكل خاص فقد الأبناء في الحرب، ولدت لعائلة مسيسة عام 1867 أثرت فيما بعد على رؤيتها الفنية واتجاهاتها الفكرية، درست كولفيتز الفن في مدرسة للنساء في ميونيخ، واهتمت منذ طفولتها بالتقاط رسوم سريعة وبارعة للعمال والفلاحين والبحارة الذين رأتهم في مكتب أبيها الذي كان يعمل كعامل بناء، كانت تلك لقاءاتها الأولى مع الفن ولم تتركها النزعة الواقعية الاجتماعية حتى نهاية حياتها.
وجدت كاثي كولفيتز الغنى في حياة الطبقة العاملة، بينما كانت حياة البرجوازيين بالنسبة لها فقيرة لا تقوى على حمل التعبير الذي يملأها، ففنها مزيج بين الواقعية الاجتماعية والتعبيرية الألمانية حتى وإن لم يكن هذا مقصدها المباشر، فالواقعية الاجتماعية تكمن في انتصار فنها للطبقة العاملة، للمهمشين ومن لا يملكون صوتًا، وتعبيريتها التي يمكن تسميتها بالألمانية نظرًا لنشأة المدرسة هناك أو لمجرد حملها لتلك الجنسية يمكن استشعارها في أسلوبها الحاد السوداوي، لكنه ليس سوداويًا بأسلوبية التعبيريين المفرطة أو تحويرهم الشديد للواقع لصالح إظهار المشاعر القلقة الداخلية، بل هو التوازن المثالي بين نقل الواقع وشخصنته وبث الروح الفردية للفنان بداخله.
بين العام 1902 و 1908، انهمكت كولفيتز في صنع مجموعة فنية عن حرب الفلاحين الألمانية التي قامت في القرن السادس عشر، وانتهت بمذبحة مروعة في حق الفلاحين الذين خرجوا للمطالبة بحقوقهم، نفذت كولفيتز تلك المجموعة بوسيط الحفر والطباعة، وهو أسلوب فني يقوم فيه الفنان بالحفر على لوح من الزنك ثم تحبيره بحبر أسود وطباعته على الورق، ارتبط الأسلوب بالتعبيرية بسبب حدته وقدرته على التعبير، وظهر ذلك في تلك المجموعة، تباينات حادة بين الضوء والظلال، وبين الحياه والموت، نرى جثة أحد الضحايا في إحدى الطبعات، امرأة تم اغتصابها وقتلها، تحدها الورود من كل جانب وكأنها تنمو خلالها، يمكن رؤية موقف كولفيتز من الموت وتناقضاته الصادمة في مشهد مثل هذا، لا يمكن وصفه بالشاعرية أو محاولة إضفاء طابع رومانسي على المأساة، لكنه في نفس الوقت لا يمثل رؤية أحادية صارمة، ففيه تتضافر رموز الحياه والموت لأنه يصعب فصلهما من الأساس.
تعقيدات الموت والحياة
اختبرت كولفيتز الموت في طفولتها وكبرها، أصبح جزءًا من تكوينها وعدسة ترى العالم من خلالها، أخذ إخوانها عندما كانت صغيرة، مما تسبب في إصابتها بقلق قيل إنه كان مصحوبًا بهلاوس وتهيؤات، وبعدما نضجت كفنانة وزوجة وأم عاد ثانية ليأخذ أصغر أبنائها كضحية للحرب العالمية الأولى عام 1914، مما وضعها في حالة من الاكتئاب المطول، ترى كولفيتز الموت في تمثلاته العديدة من حزن وألم شديدين إلى تقبل واستسلام للحقيقة الأكثر وضوحًا في الحياة، في فترة محاولة استيعابها للفاجعة بدأت في نحت نصب تذكاري لبيتر كولفيتز صغيرها وشهيد الحرب، لكن سرعان ما هدمت ما بنته في عام 1919، ربما لم يكن تخليد حقيقة أنها أم ثكلى بالأمر السهل، لكنها بدأت في النحت ثانية عام 1925 وأنهته أخيرًا عام 1932، النصب يمثل أبًا وأمًا باكيين على فقد ولدهما وأسمته الوالدين المكلومين.
يمكننا أن نرى رؤيتها المعقدة تلك للموت في مجموعتها المطبوعة التي أسمتها ببساطة (الموت)، تحمل الطبعة الأولى اسم (امرأة تعهد نفسها للموت)، ثم تأخذ المجموعة أجواء مختلفة ومباغتة، نرى الموت يسطو على مجموعة من الأطفال بعنف، ثم نراه ينزع روح امرأة حاملة ولدها، لكن في خاتمة المجموعة نرى يد الموت تدعو من نحسب أنها كولفيتز نفسها في هدوء، وكأنه ضيف عارض يربت على كتفها لينبهها بما نسيت أن عليها القيام به.
أن تكون داخل الحرب وخارجها
ترى كولفيتز الحرب من وجهة نظر المتروكين في الخلف، أي النساء والأطفال في الغالب، وعلى الرغم من ميولها السلمية، إلا أنها ترى أن كونها امرأة يخولها لتحمل ألم التفريط في من وهبته الحياة إذا كان ذلك من أجل الحرية، فكرة فقد الابن تكررت أكثر من مرة في أعمال كولفيتز، فمتناقضة إعطاء الحياة والاضطرار لفقدها هي مفارقة نسائية بشكل ما، فالفقد تجربة إنسانية لكن فقدان شخص نما وتكون بداخل شخص آخر وارتبطت حياته بحياة حامله هي تجربة خاصة للغاية، وهو ما يمكن تأمله في كلام سفيتلانا أليكسيفيتش عن فكرة القتل في الحرب عند النساء، على الرغم من أن كلاً من كولفيتز وأليكسيفيتش تقعان في طرفين مختلفين جغرافيًا من الصراع وفي حقب مختلفة، إلا أن فكرة الوجه الأنثوي للحرب لا تنحاز لطرف ضد آخر، إنها تجربة إنسانية مجردة وهو ما يجعل فن كاثي كولفيتز مؤثرًا بدرجة تكاد تكون غير محتملة.
فكرة التعبير عن أهوال الحرب في الأعمال الفنية ليست بالجديدة، لكنها بشكل أو بآخر متعلقة بالرجال لكونهم محور الفعل نفسه، والأعين الشاهدة عليه، سواء كانت تلك الأعمال تمجد الحرب وبطولاتها أو تشجب عنفها وتجربتها اللا إنسانية. هناك أمثلة معاصرة لكولفيتز مثل أوتو ديكس، الذي اختبر الحرب وعاد ليحكي. لكن ولأن الحرب لا تدع أحدًا يخرج منها كما كان، ظهرت صدمة ديكس وقلقه في مجموعة أعماله عن الحرب، والتي نفذها بأسلوب الحفر والطباعة على غرار الأقدم منه مثل الإسباني فرانشيسكو جويا، لكن هل تقلل حقيقة أن هؤلاء الرجال اختبروا الحرب بأنفسهم مباشرة من قدرة أعمال كولفيتز على التعبير عن نفس الحدث؟
بينما تتأمل مطبوعات ديكس وجويا الموت والدمار، الصدمات المباشرة والقتل العبثي، فإن أعمال كولفيتز تستكشف مفاهيم إنسانية أوسع من الحرب متمثلة في التضحية والفقد، وطبيعة مفاهيم مثل الوطنية والاختيار، فبينما يتطوع الرجل للدفاع عن وطنه أو يتم إدراجه إجباريًا للسبب ذاته، فإن المرأة تشهد ذلك على الشاطئ الآخر بعيدة منتظرة مصيرًا مجهولاً للأقرب إليها سواء كان زوجًا، أخًا أو ابنًا. فكرة أن الأمهات يرسلن أبناءهن للهلاك بأيديهن هي في قلب تعبير كولفيتز عن شناعة الحرب، وفي مجموعتها التي أسمتها «الحرب» مثل مجموعة ديكس، لا تدلف كولفيتز بخيالها فيما يحدث في ساحة المعركة، بل تستقي من تجربتها الشخصية وتوسعها لكي تصبح كونية، وكأن فقد أم واحدة هو فقد جمعي متعلق بمفهوم الأمومة ذاته وبوهب الحياة وسلبها. في إحدى الطبعات بعنوان «أمهات»، تحفر كولفيتز على الخشب برقة وقسوة في آن، مشهدًا لمجموعة من النساء في كتلة سوداء ملتحمة تحتضن إحداهن الأخرى وبينهن وجوه وأيادٍ لأطفال تشارك كتلة العناق، الصورة لا تملك أثرًا للحرب، لكنها تعبير شفاف عن الألم والرغبة في عدم التخلي، يمكن أن تكون في أي حرب أو أي أمة و أي جنسية.
بعيدًا عن المواضيع الاجتماعية والإنسانية، تملك كاثي كولفيتز قدرة على التعبير عن ذاتها بشكل مباشر ومجرد، يمكن رؤية ذلك في مجموعة صورها الشخصية التي تمثل سجلاً لما مرت به، لما شعرت به وبما بإمكانها أن تبث في روح كل متلقٍ بنظرتها الثاقبة، تتعامل كولفيتز مع وسائط فنية قاسية ونادرًا ما تتعامل مع الألوان، تحلل كل شيء إلى خطوط وظلال بما فيها وجهها ذاته، نفذت كولفيتز حوالي مئة صورة شخصية في حياتها، استكشفت فيها ملامحها الخاصة دون محاولات للتزييف مثلما مثلت بوضوح إحساسها تجاه الحرب والموت والأمومة، يمكن تلخيص جاذبية أعمالها في الوضوح الصادم الذي لا يخلو من حساسية صادقة.