نظرية كالوزا ومقياس هيرمان فايل: «جَمال» البعد الخامس
انتهينا في المقال السابق إلى أنه بظهور الكمية الهندسية المعروفة بانحناء ريتشي القياسي من نظرية نوردشترم القياسية، رأى آينشتاين أهمية تطوير نظريته عن الجاذبية كنظرية هندسية -تنسورية وليست قياسية- قائمة على الهندسة الريمانية. فظهرت النسبية العامة للنور، واحتكرت تفسير ظواهر الجاذبية بشكل حصري بالرغم من ظهور العديد من الاعتراضات الفلسفية والفيزيائية والرياضية وحتى الزائفة[1].مقياس فايل: فشل في مشروع التوحيد، ونجاح في مشروع الكم.ومع تواري النظريات القياسية الأخرى لإبراهام، ومِي، ونوردشترم، وإيشيوارا، أصبح في فيزياء الجاذبية 4 مسارات رئيسية مبنية حصريًّا على النسبية العامة:1. تطبيق «آرثر إدنجتون – Arthur Eddington» للهندسة التآلفية/الأفينية «Affine Geometry» على النسبية العامة. وهو تطبيق يهدف إلى توحيد الجاذبية مع الظواهر الكمية المكتشفة قبل ظهور «تفسير كوبنهاجن – Copenhagen Interpretation».2. مشروع «إيلي كارتان – Élie Cartan» لتعميم النسبية العامة في إطار «التكوينات الرباعية – Tetrad formalism». وهو المشروع الذي عُمِّم لاحقًا في نهاية الخمسينيات -كنظرية توحيد فيزيائية- على يد «ريويو أُتِياما – Ryoyu Utiyama» كما سنرى في المقالة القادمة.3. نظرية «تيودور كالوزا خماسية الأبعاد – Theodor Kaluza’s five-dimensional theory»، نظريتنا الأساسية لهذا المقال، والتي وُسِّعت على يد «أوسكار كلاين – Oskar Klein» كما سنرى لاحقًا في هذا المقال.4. مشروع «هيرمان فايل – Hermann Weyl» المعروف بـ«الهندسة لامتناهية الصغر – Infinitesimal Geometry»، والذي سنتوقف عنده قبل مناقشة نظرية كالوزا-كلاين[2].
يحكي لنا «فريمان دايسن – Freeman Dyson» ما أخبره به فايل في أواخر أيامه عن فلسفته «الجمالية». كان فايل يرى ضرورة بناء النظريات على أساس الجمع بين وصف «الحقيقة» و «جمال» المعادلات. وإذا اضطر فايل للاختيار فيما بينهما فكان دومًا ما يختار الجمال! يوضح دايسن أن ما يقصده فايل بالجمال هو الالتزام بـ«التناظر – Symmetry» عند بناء النظريات. والتناظر ركن أساسي في الفيزياء النظرية كما ما سنرى في المقالات القادمة. فهو المفهوم الذي قاد الفيزيائيين لاكتشاف كل خبايا الجسيمات الدقيقة داخل «النموذج العياري – Standard model». كما قادهم أيضًا لاقتراح جسيمات أخرى -غير التي رُصِدت حتى الآن- «خارج النموذج العياري – Beyond the standard model».
وبدافع البحث عن «الجمال»، كان فايل مقتنعًا بإمكانية وصف الفيزياء ككل -نسبية وكهرومغناطيسية- في نظرية هندسية واحدة. لذا قادت قناعة فايل إلى اكتشاف مشكلة مفاهيمية في أساس استخدام النسبية العامة للهندسة الريمانية. كان فايل يعترض على قدرة الهندسة الريمانية على المقارنة بين المتجهات بالنسبة لبعضها البعض بغض النظر عن موضعها. ولفهم اعتراض فايل، نحتاج أولًا لاستيعاب العمليتين الرياضيتين اللتين تسمحان للهندسة الريمانية بالقيام بمثل تلك المقارنات بين المتجهات.
أولى العمليتين هي قياس التغير في أطوال المتجهات الرباعية التي نصف بها الظواهر الفيزيائية. وما نقصده بقياس طول المتجه في الزمكان هو أن نقيس المكونات المكانية الثلاثة بالمسطرة، بينما نقيس المكون الزماني بالساعة. وبتحدد التغير من خلال مقارنة المتجهات بالمتجه المماس لأقصر مسار بين نقطتين زمكانيتين، وهو المتجه الذي سماه منكوفسكي بالمتجه «Lor» كما رأينا في المقال السابق.هذا التغير لا يتأثر باختلاف مواضع المتجهات بالنسبة لبعضها البعض. ولهذا يمكن نقل المتجهات والتنسورات عبر أي مسار بين نقطتين زمكانيتين. لكن أفضل طريقة توفر مجهود الحسابات هي اختيار المسار ليكون أقصر خط بين النقطتين، وهو ما يعرف بالجيوديسي geodesy. وليس ضروريًّا أن يكون الجيوديسي مسارًا مستقيمًا كذلك الذي ترسمه بالمسطرة، فهو عادة ما يكون منحنيًا بسبب تأثير المادة والجاذبية.أما العملية الثانية فتشترط تصحيح تأثير نقل المتجهات من نقطة إلى أخرى، بما يضمن ثبات الطول الذي نقيسه. هذا التصحيح يُعرف رياضيًّا باسم «التواصل – connection». وقد ظهر هذا التصحيح لأول مرة على يد الرياضياتي «توليو ليفي-تشيفِتا – Tullio Levi-Civita» عام 1917 بعد ظهور النسبية بعامين. ويوجد عدة أنواع من التواصل، وتختلف تلك الأنواع بحسب طريقة المقارنة بين الكميات الفيزيائية. لكن ما يجعل تواصل ليفي-تشيفتا مفضلًا على باقي التواصلات، هو أنه يراعي عدم تغير أطوال المتجهات المماسة للجيوديسي في حالة نُقِلَت تلك المتجهات على طول الجيوديسي في الزمكان. ويدعى هذا النوع من نقل المتجهات بـ«النقل المتوازي – Parallel transport». ورغم أنه «متوازٍ» لفظًا، إلا أنه لا يعني بالضرورة الحفاظ على زاوية المتجه أثناء النقل مقارنة بالنقطة التي بدأ منها الحركة. وإنما يعني الحفاظ على بقاء المتجه مماسًا للجيوديسي أثناء النقل.
والآن نعود إلى اعتراض فايل على النسبية. كان فايل يرى أهمية ثبات زوايا المتجهات أثناء نقلها، ولا يرى ضرورةً لتثبيت طريقة مقارنة أطوال المتجهات خلال النقل. كان مبرر فايل أنه من المتوقع أن يتغير طول المتجه بتغير موقع الرصد كما تخبرنا تحويلات لورنتز. لذا كان الأولى أن يُبنى تواصل هندسي خاص بزوايا المتجهات. ولعلاج المشكلة، ابتكر فايل تواصله المعروف باسمه «Weyl connection». فصَّل فايل تواصلًا يصحح التغيير الطارئ على «التنسور المتري – metric tensor» المميز للجاذبية/الهندسة الريمانية بما يسمح بتغير طول وعرض «مربعات» الزمكان، ويكون التغير بمقدار مضاعفات التنسور. ويُسمح للمضاعفات أن تكون أي كمية قياسية، بحيث يصبح معدل تغيرها/تفاضلها في الزمكان هو التصحيح الذي يمنع تغير زوايا للمتجهات. وإذا أضفنا معدل تغير تلك الكميات إلى متجه الجهد الكهرومغناطيسي، فسنحصل على تنسور يحوي معلومات عن «الإجهاد – stress» المطبق على الزمكان. أي أننا نضيف كمية قياسية بشروط معينة إلى كل من التنسور المتري وتنسور الإجهاد، فيتغير التنسور المتري بمضاعفات، ولا يتغير تنسور الإجهاد. وتعرف هذه العملية بـ «تحويلات فايل الامتثالية – Weyl conformal transformation».
هذا التركيب الرياضي «الجميل» يشبه تركيبًا يعرفه الفيزيائيون جيدًا منذ أكثر من خمسين عامًا، إنه «نظرية المقياس للكهرومغناطيسية – gauge theory of electromagnetism»! وتدعى تلك المضاعفات في الكهرومغناطيسية بـ«دوال المقياس – gauge functions». بينما يُفسَّر «تنسور الإجهاد – Electromagnetic stress–energy tensor» بأنه تعميم لـ«تنسور الكهرومغناطيسية – Electromagnetic field strength tensor»، والذي قدمه منكوفسكي كما ناقشنا في المقالة السابقة. وكما تُغير تحويلات لورنتز في متجه الجهد ولا تغير تنسور الكهرومغناطيسية، كذلك يفعل اقتراح فايل. طبقًا لفايل، لدينا الحرية المطلقة في «اختيار المقياس – gauge freedom» لتعريف متجه الجهد الكهرومغناطيسي. ومع فارق التشبيه على المستوى الرياضي، فهي عملية قريبة من اختيار مقاييس مختلفة لتحديد درجة الحرارة -سيليزية أو فهرنهايتية- مع بقاء الإحساس بالحرارة ثابتًا. فقط قم بإضافة معدل تغير المقياس الذي اخترته إلى متجه الجهد فتحصل على متجه جهد جديد. ولكن لا تتوقع أن تحصل على تنسور كهرومغناطيسية جديد لأنه الكمية التي تميز النظرية. وتُعرف مثل تلك الكميات الثابتة -بالنسبة لتغير المقياس- بـ«الكميات لا متباينة المقياس – gauge invariant quantity»، وهي تلعب دورًا أساسيًّا في إثبات صحة النظرية لكونها الكميات التي نقيسها في التجارب[3].الآن لدينا نظرية تصف الكهرومغناطيسية، ولكن تنقصها الجاذبية، ولهذا نحتاج إلى تعديل النسبية بما يتناسب مع النظرية الجديدة. تعتمد النسبية العامة على وصف انحناءات الزمكان بواسطة قياس مدى تقارب أو تباعد «المسارات الجيوديسية – geodesic deviation» من بعضها البعض. يُقاس ذلك باستخدام انحناء ريتشي التنسوري. فإذا كان الزمكان مسطحًا بانعدام وجود أي كتلة مادية، فستبقى المتجهات المماسة لتلك المسارت الجيوديسية موازية أو متعامدة مع بعضها البعض، ويختفي انحناء ريتشي. أما إذا كان لدينا كتلة، فسنحتاج إلى انحناء ريتشي وتواصل ليفي-تشيفتا وصف انحناء الزمكان. ونستخدم التواصل بغرض تصحيح تغير طول المتجهات المماسة عند مقارنتها ببعضها البعض بسبب عملية النقل المتوازي في الزمكان المنحني. ولذلك احتاج فايل استخدام المقياس لإعادة تعريف انحناء ريتشي التنسوري بما يسمح بقياس الانحناء مع الحفاظ على زوايا المتجهات المماسة للمسارات الجيوديسية، وذلك بدلًا من الاهتمام بأطوال تلك المتجهات. نجح فايل في الوصول إلى هدفه، وأصبحت النظرية قادرة على وصف الجاذبية والكهرومغناطيسية سويًّا. ولم يبقَ إلا أن يفحص فايل اتساق تلك الشروط مع بعضها البعض، فطلب مساعدة آينشتاين.بالرغم مرور أكثر من مائة عام على اكتشاف فايل للمقياس، فما زلنا نرى لمعة عينيه من فرط الحماسة التي كتب بها إلى آينشتاين -في الأول من مارس 1918- ليعلمه بالنظرية. غير أن آينشتاين لم يكلف نفسه سوى بطاقة بريدية يشرح فيها اعتراضه على حرية اختيار المقياس. فبالرغم من «جمال» النظرية -بحسب تعبير آينشتاين- فإنه سوف يترتب عليها تغير في قياس الزمن والأطوال بحسب اختيار المقياس حتى في حالة ثبات الجاذبية، وهو ما سيؤثر بالتبعية على الكهرومغناطيسية. فعلى سبيل المثال، ستؤدي حرية اختيار المقياس إلى تغير نتائج رصد التردد -أو الزمن الدوري- لطيف الكهرومغناطيسية الخاص بالأنشطة الذرية، وهو ما لا يظن آينشتاين أنه يحدث في الطبيعة. كان آينشتاين محقًّا في ذلك. لكن في ذلك التوقيت لم يكن إثبات تحفظ آينشتاين متاحًا بشكل عملي. ولذلك رد فايل بأنه يتوقع أن تغير المقياس سوف يغير من ديناميكا المادة بما يحول دون تغير نتائج الرصد. ولأنه لا توجد نظرية -في ذلك الوقت- لوصف سلوك الأنشطة الذرية للمادة تحت تأثير النسبية العامة، فإن اعتراض آينشتاين ليس إلا مجرد احتمال قد يكون صحيحًا أو خطأً [4].
ثم ظهرت مشكلة أخرى في المقياس لم يكن آينشتاين على علم بها. فقد اتضح لاحقًا أنه لا يمكن فصل نظرية فايل إلى معادلات الجاذبية ومعادلات الكهرومغناطيسية في حالات الجاذبية القوية والكهرومغناطيسية الضعيفة، والعكس بالعكس. لكن هذه المشكلة ظهرت بعد أن تنحى فايل بمقياسه عن الجاذبية تجاه الكم. فقد تلقى اقتراح فايل ترحيبًا وتقديرًا كبيرًا من كبار الفيزيائيين المشتغلين بالظواهر الكمية في ذلك الوقت كـ «آرثر إدينجتون – Arthur Eddington» و«أرنولد سومرفِلد – Arnold Sommerfeld» و«إيرفن شرُدنجر – Erwin Schrödinger». وأثار الفيزيائي/الرياضياتي «ولفجانج باولي – Wolfgang Pauli» بعض التحفظات على نظرية المقياس، لكنه تقبل الفكرة من حيث المبدأ. لذلك تجاهل فايل اعتراض آينشتاين، وقطع شوطًا كبيرًا في تعديل نظريته بما يتماشى مع الظواهر الكمية. كما تعضَّدت ثقة فايل أكثر وأكثر في المقياس نتيجة معرفته لاحقًا بأن التحويلات الامتثالية التي اقترحها قد سبق بالفعل دراستها قبل عشر سنوات في الكهرومغناطيسية -بعيدًا عن الجاذبية- على يد «إبِنيزر كننجهام – Ebenezer Cunningham» و«هاري باتيمان – Harry Bateman». وأصبح للمقياس معنى جديد وأبعاد إضافية أخرى غير تلك التي تصف الزمكان. ولعبت تحفظات باولي دورًا أساسيًّا في إعادة صياغة مفهوم المقياس، وذلك بغرض إنتاج نظرية «كم للكهرومغناطيسية – Quantum Electrodynamics» بعيدًا عن الجاذبية. وهو ما بشَّر بنقلة ضخمة في علاقة الكم بالتناظر والأبعاد الإضافية -وبالتبعية فيزياء الجسيمات الأولية- كما سنرى في المقالة القادمة [5].عَلِق جزء من نظرية المقياس داخل النسبية العامة. فقد اعتمد إدنجتون وكارتان وكالوزا في مشاريعهم لتطوير النسبية العامة على فكرة المقياس، لكنهم صمموا مقاييسهم الخاصة ولم يلتزموا بتعريف فايل. ونما داخل الفيزياء اتجاه يقترح تفسير الجاذبية بنظرية مقياس. وهي باختصار تقترح العودة لتمثيل الجاذبية كنظرية مجال. لكن المجال في هذه النظرية «مجال كمي – quantum field» وممثَّل في صورة الجسيم الافتراضي المعروف بـ«الجرافيتون – Graviton». غير أنه لا يوجد إجماع بين الفيزيائيين على المقياس المناسب لتفسير سلوك هذا الجسيم. بل إنه يوجد عدة نظريات حديثة تقترح استخدام أكثر من مقياس سويًّا لوصف الجرافيتون. ويرتكز اقتراح الجرافيتون على اكتشاف الفيزيائيين لضرورة وجود مقياس آخر يصف موجات الجاذبية بشكل كلاسيكي، ويُعرف بـ «مقياس دي دوندغ – de Donder gauge». وهو مقياس ذو طبيعة مختلفة عن مقياس فايل الأصلي، حيث لا يشتبك مقياس دي دوندغ مع الكهرومغناطيسية. ورغم أنه يُنسب إلى دي دوندغ، فإن الذي ابتكره كان فايل أيضًا[6]. ومن سخرية القدر أنه رغم رفض آينشتاين لفكرة المقياس ككل، فإن بعض الفيزيائيين يسمي مقياس دي دوندغ «مقياس آينشتاين-هيلبرت Einstein-Hilbert gauge»، وبقي أن نذكر أن هناك اتجاهًا يدرس تطبيق تحويلات فايل الامتثالية على النسبية العامة. ومن أشهر نتائج ذلك الاتجاه هو وصف الزمكان باستخدام ما يعرف بـ«رسومات بنروز البيانية – Penrose diagrams»، والتي كانت تملأ سبورة بروفيسير براند في فيلم «Interstellar».
وأخيرًا، كان لنظرية فايل الفضل الأساسي في مساعدة «تيودور كالوزا – Theodor Kaluza» على ابتكار مقياسه الفريد للجاذبية في بعد إضافي خامس. وُلد كالوزا وفايل في نفس اليوم ونفس العام، وجمعهما القدر أيضًا في الاعتقاد بأهمية المقياس للجاذبية. ولذلك سعى كالوزا لتأسيس نظريته بناء على تركيب «جميل» مشابه لذلك التركيب في نظرية فايل.ما الحاجة إلى مقياس فايل في كل الأبعاد الأربعة إذا كان من الأفضل حصر تأثيره على بعد خامس فقط؟
لتجنب مشكلة حرية المقياس التي أشار إليها آينشتاين من قبل، صمم كالوزا مقياسًا ذي تأثير محصور في بُعدٍ خامسٍ غير متفاعلٍ مع الأبعاد الأربعة التي تقطنها الجاذبية. وحصر كالوزا تأثير مقياسه بما يحول دون اعتماد التنسور المتري على البعد الخامس. وبالتالي يمكن نقل ومقارنة التنسور المتري بالطريقة التي يفضلها آينشتاين عبر البعد الخامس دون أن نلاحظ تغير التنسور. ولضمان عدم التفاعل بين الأبعاد، طبق كالوزا «الشرط الأسطواني – cylindrical condition» على البعد الخامس الذي اقترحه نوردشترم سابقًا، مع العلم أن كالوزا لم يسبق له أن رأى نظرية نوردشترم من قبل. كان تواصل كالوزا مبنيًا على تعريف تواصل ليفي-تشيفتا كـ«تنسور» مكون من تغيرات التنسور المتري بمراعاة الشرط الأسطواني. فإذا رأينا تباعد/تقارب للجيوديسيات في الزمكان رباعي الأبعاد، فسنلحظ نشاطًا في المجال الكهرومغناطيسي في البعد الخامس. ويمكن قياس هذا النشاط في الزمكان رباعي الأبعاد. وبهذا أصبح التواصل في نظرية كالوزا مشابهًا لتنسور الكهرومغناطيسية من حيث كون التنسور الكهرومغناطيسي مبنيًا على تغيرات مجال الجهد. أي أن تغيرات التنسور المتري وتغيرات مجال الجهد تجعلان تواصل ليفي-تشيفتا وتنسور الكهرومغناطيسية متشابهين. وبعكس نظرية فايل، فإنه يمكن فصل تنسور كالوزا إلى تنسور رباعي الأبعاد للجاذبية ومتجه جهد لتوليد الكهرومغناطيسية.
أطلع كالوزا آينشتاين على ما توصل إليه عام 1919. وكان آينشتاين وقتها مشغولًا بمتابعة الإعدادات لتجربة إدنجتون لإثبات انحناء الضوء تحت تأثير الجاذبية. لكن حماس آينشتاين -غير المتوقع- للفكرة جعله يرد سريعًا بأنه متفق مع كالوزا في اقتراحه، مع حاجة الاقتراح إلى قليل من التعديلات. وبدا أن الجاذبية والكهرومغناطيسية في طريقهما إلى التوحيد.غير أن ذلك كان وهمًا سقط فيه آينشتاين وكالوزا، ولم يعلمه أحد إلا بعد ثلاثين عامًا. فعندما نناقش في المقالات القادمة نظرية المقياس المعروفة بـ«نظرية يانج-ميلز – Yang-Mills theory»، سوف نعرف أن تواصل ليفي-تشيفتا أقرب لأن يتصرف كمتجه جهد بدلًا من أن يتصرف كتنسور الكهرومغناطيسية كما ظن كالوزا. ولكن ينبغي التأكيد أن التواصل ليس متجهًا، وليس تنسورًا. وعلى أي حال، كان فشل نظرية كالوزا درسًا من الطبيعة تعلم الفيزيائيون منه أن «جمال» النظرية لا يعطي ضمانًا تلقائيًّا بصحة وصف «الحقيقة». وقبل أن يعي آينشتاين وكالوزا الدرس، ظهرت مشكلتان أخريان تسببتا في رفض النظرية.في المقالة السابقة أشرنا إلى أهمية أن تكون النظرية الجديدة مصدِّقة لما سبقها من توافق بين النظريات القديمة والتجارب العملية، ومهيمنة عليها في تفسير ما فشلت القديمة في تفسيره. لذا حاول كالوزا أن يفحص قدرة نظريته على إنتاج معادلات الجاذبية والكهرومغناطيسية في حدود النظريات القديمة النيوتونية والماكسويلية. وللتأكد من ذلك، كرر كالوزا منهجية فايل التي اتبعها للوصول إلى معادلات موجات الجاذبية، فحصل كالوزا على مراده. ولكن عند الأخذ بعين الاعتبار تأثيرات الجاذبية خارج حدود النظريات القديمة، فإنه يتعذر الحصول على حلول لمعادلات الجاذبية والكهرومغناطيسية.تمثلت الإشكالية الأخرى في وصف النظرية لخواص الإلكترون. فقد اتضح أن النظرية تؤثر على قياس النسبة بين الشحنة والكتلة الخاصة الجسيمات التي تحتل البعد الخامس. وتفرض النظرية على تلك النسبة أن تكون صغيرة بالمقارنة بنفس النسبة الخاصة بالجسيمات الموجودة فعليًّا في الطبيعة. وبالتالي يستحيل تطبيق نظرية كالوزا على حركة الإلكترون لكونه الجسيم الأولي صاحب أكبر نسبة بين شحنته وكتلته، وهو ما يجعل النظرية غير قابلة للقياس العملي. فتلك النسبة الخاصة بالإلكترون هي الكمية الفيزيائية الوحيدة التي يمكن قياسها بشكل مباشر، ومنها تُستنبط باقي الكميات التي تصف الجسيمات الأولية. وبذلك أصبحت النظرية عاجزة عن وصف تفاعل الجسيمات الموجودة في البعد الخامس -خاصة تلك المشحونة كهربيًّا- مع مثيلاتها التي تعيش في عالمنا رباعي الأبعاد [7].كان كالوزا معترفًا بهذه الإشكاليات في رسالته إلى آينشتاين. غير أنه كان يعتقد أيضًا أنه من الممكن التغلب على تلك العقبات في المستقبل. ربما كان ذلك هو سبب تردد آينشتاين لأكثر من عامين في مساعدة كالوزا لنشر البحث. وعلى أي حال، في ديسمبر/ كانون الأول 1921، أعلن آينشتاين عن نظرية كالوزا ضمن تقارير اجتماعات الأكاديمية البروسية للعلوم «Sitzungsberichte der Preussischen Akademie der Wissenschaften». كان رد فعل الفيزيائيين فاترًا تجاه نظرية كالوزا، فقد بات معظمهم يفضلون مقاييس فايل على أي اقتراح آخر. وتوارت نظرية كالوزا في الظل، إلى أن انتبه «أوسكار كلاين – Oskar Klein» لأهميتها، فأعادها للواجهة من جديد [8].
- Milena Wazeck, Einstein’s Opponents, Chapter: The debate on the content of the theory of relativity, p.90-175.
- Goenner, On the History of Unified Field Theories. Part I, 2004.
- K. Maurin, The Riemann Legacy: Riemannian Ideas in Mathematics and Physics, section: 1.4 Riemannian connection. Levi-Civita connection; Pauli, Theory of Relativity, p. 193.
- Hsu, Fine, 100 Years of Gravity and Accelerated Frames, p.539-543.
- Ryckman, The Reign of Relativity: Philosophy in Physics 1915-1925, Chapter: The “first version” of Weyl’s Theory
- Adler, Bazin, Schiffer, Introduction to General Relativity; section: 9.3 The Weyl Solutions to the Linearized Field Equations, p.310.
- Donger, Einstein’s Unification, section: 6.2 Kaluza, Klein and Einstein, p.132-139.
- O’Raifeartaigh, Straumann, Early History of Gauge Theories and Kaluza-Klein Theories, with a Glance at Recent Developments.