كليم صديقي: الطريق إلى الثورة الإسلامية
لقد ولج [1] تاريخ الإسلام والمسلمين حِقبةً جديدةً من التغير السريع. فقد اشتبك المسلمون في كُل مكان في صراعاتٍ لإقامة الدولة الإسلامية، وهذه مقدمة دراسة قصيرة تهدِفُ لتعيين الأفكار الكامِنة والمناهج المستخدمة، ولم شعثها [2] وهي تُسلط الضوء على الحاجة لثورة ثقافية داخل الإسلام، وذلك قبل أن يتمكن المسلمون، كرةً أخرى، من التحكم الكامل في تاريخهم ومصيرهم. وتذهب هذه الدراسةُ إلى أن مثل هذه الثورة تجري وقائعها بالفعل، فقد اتخذت هذه الثورة، في طورها المُبكّر، صورة فكرٍ سياسيٍ جديد، وإجماعًا عالميًا بين المسلمين في كل أرجاء المعمورة. كذا كان انتصار الثورة الإسلامية في إيران عامِلاً أسهَم في تبلور وضع تحول تاريخي، وثمَّ عدد من الثورات الإسلامية وشيك الحدوث.
إذ تُعتبر الثورة الإسلامية لحظة تاريخية تتلاقى فيها كُل قوى التغيير الشامل في مجتمع ما. إن البأس الذي تولده الثورة الإسلامية، تحت قيادة تقية، يدحر ويُفكك الدولة القومية، التي تسلطت علينا في الحِقبَة ما بعد الكولونياليّة؛ ليُقيمُ مكانها الدولة الإسلامية. وأغلب المسلمين في أركان اﻷرض الأربعة يُشاركون بالفعل في هذه الحركة، لكن المسارات المستخدمة لإشعال الثورة الإسلامية، والتي تؤدي لإقامة الدولة الإسلامية، ما زال يشوبها قصورٌ في الفهم حتى اﻵن، وذلك رغم أن الحاجة للثورات الإسلامية، في كل بلدان المسلمين، يتم الإعراب عنها على نطاق واسع، وبتعبيراتٍ مُتشابهة على نحوٍ لافتٍ.
جلي أن تاريخ الإسلام قد بلغ طورًا اكتشف فيه المسلمون قُدرتهم على المبادرة بإحداث تغيير كبير في مجتمعاتهم، وتوجيه هذا التغيير والتحكم فيه، ناهيك عن لعب دور محوري في السياسات العالمية. ومن المهم أن يكون سعيهم للتغيير في المجتمعات المسلمة، ناهيك عن العالم، موجهًا من خلال فهمٍ عميقٍ لحركيات التغيير. لقد طورت العلوم الاجتماعية الغربية عدة نظرياتٍ مُركبةٍ للتغيير في المجالات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
وقد استحدث الغرب شبكة واسعة من المؤسسات الأكاديمية والبحثية التي تتتبع وتُسجل وتُحلل التغييرات التي تقع في أية بقعةٍ على وجه البسيطة. إن عملهم يُزودنا بتقييمٍ مُستمر للسياسات القديمة والمعاصرة، على السواء، فضلاً عن استعراض الخيارات الجديدة للسياسات المتاحة للحكومات، والمنظمات الحكومية المشتركة، والأحزاب السياسية، والكيانات الصناعية والتجارية، وقياداتها. وهذه هي إحدى مكامِن قوة الغرب. والحقيقة أننا جميعًا نواجِه أوضاعًا تاريخية جديدة كُل يوم. الدول، والمنظمات، والثقافات، والحركات، بل والحضارات اﻷكثر نجاحًا؛ هي وحدها التي بمقدورها استشراف، والتأثير في، والتحكم في، وإدارة، وقيادة، وتوجيه، والتلاعب بقوى التغيير.
إن التغيير الذي يقع بين عشية وضُحاها عادةً ما يكونُ سطحيًا طفيفًا؛ إذ أن التغييرات في الموقف التاريخي تُصبِحُ أكثر وضوحًا خلال آماد خمس، أو عشر، أو عشرين، أو ثلاثين عامًا. إن التغيرات المُفاجئة والكارثية نادرة الحدوث، وحينما تقع، فعادةً ما تكون نتاج تراكمٍ غير ملحوظ للضغوط خلال فترات زمنيّة طويلة. إن غياب التغيير، أو المقاومة الطويلة للتغيير؛ قد تؤدي كذلك لتغييرٍ مُفاجئ أو «ثوري». وليس كُل تغيير بالضرورة ذي طابعٍ ماديٍ يؤدي لتغيير الأوضاع على اﻷرض. فالتغير في المعرفة والإدراك والفهم، وفي تقييم الواقع، غالبًا ما تكون له نفس آثار التغييرات المادية. ولهذا، فإن التطورات النظرية والتحليلية والرياضية والتقنية، أو حتى الفلسفية، قد تُغير طريقة إدراكنا للواقع، في حين يظل الواقع المادي قائمًا على هيئته دون أن يُمَس.
إن أغلب الدعاية الموجهة تهدِفُ لبناء حواجز عقليّة لاعتراض الأفكار والمعتقدات والمعلومات، التي يعتبرها القائم بالدعاية غير مرغوبٍ فيها. والدعاية الغربية المُعاصرة، والموجهة ضد الإسلام و«الأصوليّة الإسلامية»، هي من هذا النوع. والغرب يعلم أن للحركة الإسلامية العالمية قاعدةً فكريةً قويةً، لكنه يبغي الحيلولة دون انتقالها إلى مُجتمعه. فهو لا يُريد أصلًا أن يُصغي لصوت الإسلام. وقد كان رد الفعل البدهي للعقل المسلم هو اعتبارُ السياسات والسلوكيات والدعايات الغربية إعلانًا لحربٍ عالميةٍ على الإسلام.
إن لتغيرات الإدراك أثر لا يقل ضخامة على التاريخ والسلوك الإنساني من التغييرات المادية. لقد ظلت ثمار التفاح تتساقَط على الأرض زمانًا طويلًا قبل أن ينتبه نيوتن للظاهرة، وسوف نواجه كل هذه الصور من التغيير خلال دراستنا. لكن يُمكن أن نفترض مُطمئنين، أن كل جيل يواجه وضعًا تاريخيًا جديدًا، وكل أنظمة الاعتقاد والقيم الأخلاقية والمعرفة والفكر والسلوك يجب أن تكون قادرة على تنظيم وإدارة وتدبير التغيير مع مرور الوقت، واستيعاب قُدرة الإنسان اللامحدودة على التعلم من تجربته.
إن العقل الإنساني آلة جد عفية وخلاقة، لدرجة أنها تقذِفُ بالأفكار الجديدة طوال الوقت. إن الإسلام معرفة فضلًا عن كونه إبستمولوجيا، أو هو مصدرٌ ثابتٌ لمعرفةٍ أبدية الاتساع في كل المجالات. ويُمكن للإسلام أن يُطوِّر ويُنظِّم ويحكم المعلومات والمعرفة الجديدة. كذا، يحكم الإسلام التغيير ويوجِّهه، ويستوعِب المعرفة الجديدة التي ولِدَت من رَحِم النظريات والتجارِب والخبرات الجديدة، وتمخَّضت عنها الأوضاع التاريخية المتغيِّرة. لهذا، يُصِرُّ الإسلام على بسط حُكم المسلمين، كل المسلمين الذين يحيون في زمانٍ مُعيَّنٍ؛ على الوضع التاريخي السائد في زمانهم. إذ يتطلَّب الإسلام توظيف كافة مصادر العالم المادية سعيًا لتحقيق الأهداف التي حددها الإسلام للإنسان جمعاء.
وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم وسُنَّته هما المثالان الأساسيان اللذان يُجسِّدان خصائص منهج الإسلام في التحول التاريخي. إذ بدأ الرسول بحفنةٍ من الأفراد، ونظَّمهم في مجموعاتٍ صغيرة، ثم في شبكاتٍ أكبر لتحقيق الأهداف؛ حتى آل بهم المسار إلى إقامة الدولة الإسلامية. وقد اقتضى هذا بوضوح تطوير مسار سياسي طليق القدرات، وعلى قدرٍ مُذهلٍ من التعقيد والفعالية.
هذا المسار بأجمعه يُمكن أن نُطلِق عليه: الحكمة، أو منهج الرسول صلى الله عليه وسلم. والخواص الروحية والفكرية والمادية المتأصِّلة في الحكمة هي جزءٌ لا يتجزأ من سيرة النبي وسُنته. لكن إلى اﻵن، ركز دارسو السيرة والسُنة جُل انتباههم، بشكلٍ حصري تقريبًا؛ على البحث والتوثيق المتقنين لكل ما فعله الرسول وقاله وأمر بفعله وأقرَّه. وهذه الأدبيات مُستفيضة وترفع نبي الإسلام إلى مكانةٍ فذة في التاريخ. إذ لم تحظ حياة أي إنسي آخر عاش على ظهر البسيطة بمثل هذا البحث والتوثيق شديدي الدقة على أيدي أتباعه، بما فيهم معاصروه، الذين عرفوه عن قُرب؛ وسلسلة لا انقطاع فيها من العلماء في شتى أنحاء الأرض منذ زمانه صلى الله عليه وسلم وإلى قيام الساعة. لكن إلى اﻵن، ما زال شُغل هذه الجماعة العلمية الشاغِل هو دقة توثيق الحقائق والأحداث والأفعال والأقوال، لدرجة تأخُّر ظهور الأدبيات التحليلية والابتكارية في هذا الحقل المعرفي المهم.
إن الوضع التاريخي الذي يواجهُ الإسلام والمسلمين اليوم، يتطلَّب اتجاه عناية الدارسين واهتمامهم إلى صياغة القيم الأساسية الكامنة وتجريد الصيغ البنيوية لحكمة النبي: منهجه صلى الله عليه وسلم. هذه المساحة من السيرة تُمثِّلُ كنز الإسلام المطمور، ونموذجه الموحى به. والطريق إلى كنز الإسلام هذا يمتد في ثنايا تطوير قطاع جديد بالكلية من الأدبيات، والتي ترتكز على السيرة النبوية. وليس ثم ضرر في تطبيق منهجٍ تأمُّلي على الأدبيات الوصفية المسهبة للسيرة، التي بين أيدينا. إذ ينبغي أن نُدرك أن محمدًا، خاتم الأنبياء والمرسلين؛ صلى الله عليه وسلم هو قامة لا نظير لها في تاريخ الإنسانية. ومن المستحيل عمليًا تشويه حياته ورسالته، كما اكتشف المستشرقون ذلك بعد أن تكبَّدوا الكثير. أضِف إلى ذلك أن السيرة معصومة بالقرآن، ويحميها توثيق التحول المنهجي للوضع التاريخي الذي دشَّنهُ النبي.
والطاقة الفكرية الهائلة التي أنفقها المستشرقون في الغرب، في محاولة مُنظَّمةٍ لتدمير سُمعة النبي، لم تُثمر شيئًا. إذ أن الله سبحانه وتعالى يعصمه صلى الله عليه وسلم، فعليًا وبكل ما تحمله اللفظة من معانٍ. إن استخدام المناهج التأملية في البحث بواسطة دارسين مُسلمين مُلتزمين وأتقياء، تحدوهم غايات وأهداف معروفة ومُحددة بوضوح، قد يُثبِتُ قُدرةً مُثمرةً إلى درجةٍ كبيرةٍ في فتح مغاليق الكنز المهول الذي تُمثله سيرة نبي الإسلام وسُنته، صلى الله عليه وسلم.
وما نُلمِحُ إليه هنا، هو أن التجريد وصياغة المفاهيم هي عملياتٌ ضرورية يُمكن اﻵن تطبيقها على الأدبيات الهائلة الحجم للسيرة والسُنة، بوصفها مستودعًا للبيانات التي أثمرتها عمليات البحث والتحقيق شديدة التدقيق. وهذا يقتضي نوعًا جديدًا من الإدراك والمهارات العلمية، والتي يُمكنها استخدام هذه البيانات المستقاة من السيرة والسُنة لتوليد صياغاتٍ نظرية في المجالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية المُشكِلة التي يواجهها المسلمون اليوم، والإنسانية جمعاء بطبيعة الحال. كذا يلزمنا توليد بدائل جديدة للسياسات، وبنى تنظيمية، وأنماط سلوكية متوافِقَة مع السيرة والسُنة. ويتعيَّن علينا اﻵن كذلك استخدام السيرة والسُنة لإنشاء تخصُّصاتٍ جديدةٍ من المعرفة المنتِجَة لحلول المشكلات على المدى القصير. وهذه يُمكِنُ مراجعتها لتحتفظ بقُدرتها على التقدُّم جنبًا إلى جنب مع الوضع التاريخي المتغيّر. ذلك أن الشعوب التي تحيا في مناطِق مُتباعِدة من العالم، وتمر بظروف مادية وأوضاع تاريخية جد مختلفة؛ سيكون بوسعها آنئذ استنطاق السيرة والسنة لتوليد معرفةٍ ذات علاقة بإشكالياتها وأوضاعها التي تتفرَّد بها.
ويبدو أنه طوال حقب ممتدة من تاريخنا، كان العلماء، فضلًا عن الأسر الحاكمة، يُخوِّفون من أي نوعٍ من التغيير ويُثبِّطونه. وهذا يُفسر التحريم شبه الكلي للاجتهاد، والذي ما زال يجثم على التقليد السُني. وقد اصطلى التقليد الشيعي هو اﻵخر، أول الأمر، بتحريمٍ مُماثلٍ في تعنُّته للاجتهاد. وببطء، وتحت ضغط الظروف والمغالطات والتناقُضات، التي لم يعُد ممكنًا الدفاع عنها على أرضية كلامية؛ فُتِحَت الأبواب الشيعية عنوة، لتسمح ببعض الاجتهاد المقيَّد يضطلع به حفنة من المجتهدين. هذه البداية البطيئة تحت التيار الأصولي الجديد قادت في النهاية إلى تغييرات جعلت الثورة الإسلامية في إيران ممكنة.[3] فطوال معظم تاريخهم، قَبِل المسلمون التغيير طالما كان مؤقتًا، ولم يتطلب تغييرات كلامية بصورةٍ مباشرة. وفي العصر الحديث، فقد قَبِلنا بالتحول الكامل، الذي قد يرى البعض فيه تدنيسًا؛ للبيئة المادية للحجاز وللحرمين في مكة والمدينة. إذ دمَّر الحكام
السعوديون، تحت غطاء اللاهوت الوهابي الملفَّق؛ مساحات شاسعة من الآثار الإسلامية المادية. إن أكثر التغييرات التي نقبل بها اليوم قد فرضها علينا حكام وراثيون مسلمون أو مُستعمِرون أجانب؛ تلبية لمقاصدهم الخبيثة. ولم يُستقَ التغيير أو يوجَّه، أو تُحدَّد طبيعته ووجهته ومداه؛ بواسطة السيرة والسنة النبويتين في أية مرحلة. كذا لم يتبع التغيير الذي فرضه الحكام أية معايير للحق والباطل، والخير والشر، والمرغوب والمرفوض. لقد كان التغيير في المجتمعات والدول والإمبراطوريات المسلمة نتيجة شططٍ أو تعبيرًا عن الاحتياجات السياسية والشخصية للحكام في زمانهم. ولنضرب مثالًا على هذا، يُمكن للمرء مقارنة التغييرات المتزامِنة تاريخيًا، والتي وقعت في الإمبراطوريات العثمانية والصفوية والمغولية. وباختصار، لم يتولَّد التغيير ويتم التحكم فيه أو توجيهه بواسطة حركة فكرية انبثقت هي الأخرى من نظام سياسي للإسلام، أو على الأقل من حركة إسلامية. وقد أسهم هذا العامل مُنفردًا، أكثر من أية عوامل أخرى؛ في تقويض دار الإسلام آخر الأمر، ووقوعها في يد قوى أجنبية.
والأدبيات التي تتناول السيرة والسُنة تمنحنا فيضًا موفورًا من التفاصيل عن الأوضاع والأحداث والتواريخ والمواطن والأسماء والأعمار والأنساب والسرايا والمغازي واتخاذ القرار والأقوال، وما إلى ذلك. وكل هذا يصُب في توصيفٍ على أرفع مستوى. لكن التوصيف الأمين للحقائق مُجرَّدة يقود لفهمٍ محدود، خصوصًا إذا كان هذا الفهم محوريًا ليحدو الفعل والسياسات المستقبلية.
وعلى سبيل المثال، فمعروف أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أخرج ما لا يقل عن ثلاث وستين غزوة وسرية من المدينة. حفنة من هذه السرايا فقط كانت دفاعية محضة في طبيعتها، وقد شارك الرسول نفسه في أقل من نصفها. وفي أكثر المواطِن، كان الرسول يدعو مجموعة من صحابته، لا يزيد عددهم على عشرين في العادة؛ ويُزودهم بالخيل والسلاح، ويؤمِّر أحدهم عليهم؛ ثم يأمرهم بالمسير إلى قبيلةٍ مُشاغبةٍ أو قافلةٍ تُجارية قد تمثِّل تهديدًا للدولة الإسلامية الناشئة في المدينة.
ومغازي الرسول مصدر ثري للحقائق ولمعلومات أخرى عن الأوضاع في المدينة وأرباضها آنذاك. لكن محاولات ضئيلة أو معدومة قد بُذِلَت لتجريد إطارٍ مفاهيمي يُمكن أن تُمثِّل فيه الغزوات النبوية اطرادًا مُنسجمًا مع منهج النبي ككل، بوصفه رجل دولة وقائدًا عسكريًا وداعيًا إلى الله. وما عدا الجهد الرائد للدكتور محمد حميد الله قبل جيل تقريبًا،[4] فثم القليل جدًا من الكتابات التأسيسية عن تدبير الدولة في الإسلام. ومن الصعوبة بمكان الوقوف على الشرائط والمسوِّغات، المستقاة من السيرة والسنة النبويتان؛ والتي تخرُج بمقتضاها الدولة الإسلامية للغزو، أو تنهج نهجًا مثل ذلك.
وأكثر المسلمين اليوم يُروَّعون لأقل إشارةٍ إلى أن غزواته صلى الله عليه وسلم قد تكون لعبت دورًا في منهج دعوته إلى الإسلام. إذ يُدرِك ذراري المسلمون الدعوة اليوم بوصفها نشاطًا «سلميًا»، في توافِقٍ مع الصورة المصقولة بعناية لبعثات التنصير المسيحية. وقد توصَف تفاصيل غزوات الرسول الكبرى، مثل بدر وأحد والأحزاب؛ في شئ من التفصيل كثير، لكن محتواها «السياسي» وآثارها «السيكولوجية»، على أهل الصدر الأول من جهة وعلى أعداء الإسلام من الجهة الأخرى؛ لا يتم التطرُّق إليها إلا باقتضابٍ شديد. أما كيف وحَّدت هذه الغزوات المجتمع المسلم، وأوهَنَت الولاءات القبلية للعرب؛ فهي موضوعات تُحصَرُ على مضضٍ في سطور معدودة في أدبيات السيرة. وبالمثل تُعامَل مسألة «السُلطة».
فجلي أن النبي قد لزمه سُلطة. لكننا إن حكمنا بالظاهر، فقد افتقر صلى الله عليه وسلم للسُلطة، على الأقل في مكة. فما هو مفهوم النبي صلى الله عليه وسلم لـ«السلطة»؟ وكيف أصاب ووظَّف ونمَّى وولَّد سلطة جديدة؟ وكم هي نسبة القوة العسكرية إلى إجمالي سُلطة النبي صلى الله عليه وسلم؟ وما الدور الذي لعبته المغازي في توليد مزيد من السُلطة؟ وهل اقتسم النبي سُلطته مع آخرين؟ وإن كان؛ فكيف حدث ذلك؟ هذه الأسئلة لم تُسأل من قبل أبدًا، ولا أجيب عنها بطبيعة الحال؛ في الأدبيات المستفيضة عن السيرة والسُنة. إن العلاقة بين الأحداث المبكرة والمتأخرة في حياة النبي يُمكن فقط تبيُّن معالمها من خلال المفاهيم التي تجمعها. فوحدها التصورات والمفاهيم هي التي تُعيننا على تبيُّن الحقائق وعقد الصلات بين الحقائق والأحداث التي وقعت في أوقاتٍ مُختلفة.
كذا تُعيننا المفاهيم والتصورات على استخلاص الدروس والمعلومات والأفكار الجديدة، من أكوام الحقائق التي قد تبدو من زاوية أخرى غير مُترابطة. إن تنظيم ونمو المعرفة، وتدوينها؛ يقتضي تصورات وافتراضات وخططًا شاملةً ونظريات كبرى. هذه أدوات أساسية لعملية البحث والفهم والتواصُل عَبر فتراتٍ ممتدة من الزمن. وما من تخصُّصٍ أكاديمي قد يَصِحُ له وجود بغيرها. وقد اعترف المؤرخون مؤخرًا فحسب، وعلى مضض؛ بأنه ما من وجودٍ للتاريخ بغير تصورات تُعينُ على تحديد الحقائق.وهو ما يقتضي منظومةً للقيم، لترتيب الحقائق في سردية مكتوبة. واتساق الأدبيات في حقل السيرة والسنة عبر مئات الأعوام دليلٌ على إحكام قبضة المؤرخين المسلمين، الذي حافظوا عليه طوال توظيفهم للمفاهيم وتنظيمهم لأُطرها. بل وحتى انحراف التاريخ الإسلامي عن الصراط الذي عيَّنه النبي صلى الله عليه وسلم، وظهور حكم ملكي وراثي يرفع راية الإسلام؛ فإن ذلك كله قد فشل في أن يحدث ثلمة في سلامة الأدبيات التي تتناول السيرة والسنة.
كذا تتعين الإشارة إلى أن مئات الأعوام من كد ومثابرة صناعة الاستشراق العدائية، المخصصة ابتداءً لتقويض سيرة النبي وسُنته؛ قد حققت تقدُّمًا هزيلًا. وإذا كان بالوسع تدمير أو ثلم سُمعة النبي، أو تشويه سجله؛ لكان المستشرقون قد نجحوا في تحقيق ذلك منذ وقت طويل. لكن الشئ الوحيد الذي كاد يؤذي النبي، ويُسئ إلى سيرته وسُنته؛ هو فشل المسلمين على مسرح التاريخ.
والعالم اليوم يعتبر السجل التاريخي للإسلام شئ من قبيل “نظرية استراتيجية” قروسطية، لا علاقة لها بالعالم الحديث المعقَّد. أما ما يعنيهم، فقد يكون الإسلام أساسًا صالحًا لتطوير لعبة حاسوبية تنتصر فيها القلة دومًا على الكثرة. لكن هذه ليست «سياسة عملية» من وجهة نظرهم. إن كتابنا «نظرية الثورة الإسلامية» يحاول تقديم إطار تنتظم فيه إدراكاتنا لأصول وإنجازات وإخفاقات الحركة الإسلامية في كل أنحاء العالم. وقد تُعين هذه الدراسة الحركات الإسلامية على تحديد مواقعهم على خارطة التاريخ. إن معرفة المدى الذي تشعَّبت إليه بنا السُبل، والمدى الذي يتعيَّن علينا الاستمرار إليه؛ هو بداية كل الحكمة.
[1] هذا المقال هو مقدمة الدكتور صديقي لمؤلفه العمدة: «نظرية الثورة الإسلامية»، والذي نُشر للمرة الأولى عام 1996م، وستصدُر ترجمتنا له مطلع العام 2017م بمشيئة الله. (المعرِّب)
[2] يُزوِّدنا العالم العلماني بالعديد من «النظريات»المتصارِعة للتاريخ. لكن الإسلام يكشف أصل الإنسان، والمدى الرحب للتاريخ. كذا يُزوِّدنا الإسلام بمنهجية تاريخية؛ بمنهج للتغيير والتطور والنمو والنُضج والتقدم والإنجاز والانحطاط والسقوط والبعث والإحياء. وقد عالجتُ مسارات التغيير التاريخي في الإسلام في الورقة التي دوّنتها بين عامي 1988-1989م. وقد تخيّرت لها عنوانًا بالإنكليزية (مسارات الخطأ والانحراف والتقويم والتلاقي في الفكر السياسي الإسلامي) يُلخص محتواها. كذا يُمكن اعتبارها مُخططًا أوليًا لـ«نظرية»أرجحها للتاريخ والتغيير التاريخي في الإسلام. والتحليل المبسوط في كتابنا، «نظرية الثورة الإسلامية»، يرتكِزٌ بالأساس على «النظرية»التي طورتها في تلك الورقة.
[3] لاستعراضٍ مُختصر للتحولات التي طرأت على علم الكلام الشيعي، راجع:
– Hamid Algar, The Roots of the Islamic Revolution, London, The Open Press, 1983.
[ستصدر ترجمتنا لهذا الكتاب مطلع 2017م إن شاء الله، بعنوان «جذور الثورة الإسلامية في إيران»؛ بالتزامُن مع ترجمة كتاب صديقي المشار إليه. – المعرِّب]
[4] Dr. Muhammad Hamidullah, The Muslim Conduct of State, Lahore, Shaikh Muhammad Ashraf, sixth edition, 1973. (First published in Hyderabad, India, 1941).