كهربا: تجربة العودة من الموت
فوهة بركان مظلمة، أدخلوه فقط من الباب ثم فروا هاربين، سار وحده في سرداب طويل رطب، سمع صوت أنين متواصل وضحكًا واهنًا كأنه بكاء: أيها القادم التعس مرحبًا بك بيننا، في البداية ستتعذب قليلًا، ثم تتعود، ثم تذوي، ثم تموت.
هكذا يصف الروائي المنسي قنديل اللحظات الأولى للنعمان بن المنذر داخل سجون كسرى، المتفشي بها الطاعون حيث لا مجال للنجاة أبدًا.
تنبع درامية الموقف هنا من تحول مصير الرجل من المُلك والعز إلى النسيان الأبدي. قد يبدو هذا مبالغًا فيه لكن تلك الحبكة تصلح تمامًا لوصف لاعبي كرة القدم.
يمكنك ببساطة أن تبحث عن قائمة فريقك المفضل منذ سبعة أعوام وستكتشف أسماءً مُسحت تمامًا من ذاكرتك، رغم أنها كانت ملء السمع والبصر حينذاك، وإذا تتبعت مصيرها فستكون المفاجأة أكبر، هداف الدوري المصري لموسم 2017 أحمد الشيخ لاعب الأهلي السابق أصبح الآن نجم تيكتوك على سبيل المثال.
لكننا هنا بصدد قصة مختلفة. نحن هنا رفقة رجل استطاع أن يخرج من وادي المنبوذين حيًّا، رجل تضافرت كل خيوط قصته لكي يهوي دون رجعة، لكنه عاد وأصبح واحدًا من أهم لاعبي فريقه ومنتخب مصر. نحن رفقة محمود عبد المنعم كهربا.
ليس الأمر في النزاع بين الزمالك والأهلي حول أحقية التعاقد مع كهربا، بل ما يجعل القصة مثيرة هو إثارة الفرصة الأخيرة. استطاع كهربا خلال ثلاثة أشهر أن ينقذ رقبته من مقصلة النسيان بعد فترة إيقاف مهدت لنهايته كلاعب كرة قدم.
مثلما تعقدت كل خيوط القصة في البداية حتى أوشك كهربا أن يهلك، حدثت سلسلة من الأحداث انحلت بها كل العقد. أصبح دفع الأهلي غرامة تاريخية من أجل كهربا مطلبًا جماهيريًّا، وباتت عودة اللاعب لسابق عهده مسألة وقت.
نحن هنا نرصد كيف تشابكت خيوط القصة وكيف انحلت، لنبدأ من الفكرة الأساسية التي لازمت كهربا لسنوات قبل أن تتعقد كل الخيوط، كيف ارتبط دومًا اسم كهربا بالمشاكل.
الصورة الذهنية لكهربا
كانت الصورة الذهنية الأولية التي عرفت بها الجماهير كهربا هي صورة الموهبة الاستثنائية التي فرط فيها الأهلي في مراحل الناشئين، وكيف أن قصة مؤمن زكريا تعاد. لقد ترك الأهلي لاعبًا ممتازًا لتخطفه أعين إنبي الخبيرة ثم الاحتراف أوروبيًّا في سن صغيرة.
لم يمر إلا موسم وحيد حتى قرر نادي لوزيرن السويسري الذي انتدب كهربا فسخ تعاقده مع الأخير بسبب مشاكل تتعلق بالسلوك. خرج المدير الفني للفريق حينئذٍ ليؤكد أن النادي حاول كثيرًا توفير كل شروط الراحة لكهربا في سويسرا، حتى إنه تم استضافة عائلته بالكامل في سويسرا، ولكن كل هذا الجهد ذهب هباءً.
عاد كهربا إلى سويسرا مرة أخرى خلال الموسم التالي من بوابة نادي جراسهوبرز، لكن الأمور لم تتغير كثيرًا حتى إن كهربا نفسه صرح مازحًا أن النادي يوفر له مُدرسة لتعلم اللغة حتى ينخرط في قوام الفريق، لكنه لا ينتظم في تلك الدروس.
هنا خرج كهربا من صورة موهبة الأهلي المفقودة إلى صورة ذهنية أخرى، وهي اللاعب المستهتر الذي لا يقدر حجم موهبته. هنا عدنا لكليشيه الأهلي المنضبط، ها نحن عرفنا الآن لماذا تركه الأهلي وهو صغير. لأن نظام الأهلي لا يقبل إلا اللاعب المنضبط حسن السير والسلوك، مهارة اللاعب لا تكفي لكي يرتدي قميص الأهلي.
عاد كهربا إلى إنبي، فلم تشعر إدارة الأهلي بأنها فقدت لاعبًا مهمًّا، فكان المنطق أن ينتقل للزمالك ضمن كتيبة لاعبين يأتي بها مرتضي منصور سنويًّا.
كهربا الزمالك: ميت عقبة تختلف عن سويسرا كثيرًا
نحن هنا رفقة علاقة لاعب ونادٍ، هي الأغرب بين لاعبي الجيل الحالي. لكن دعنا أولًا نتذكر آخر كلمات مدرب لوزيرن قبل أن يعلن استغناء النادي عن اللاعب نهائيًّا، كانت تلك الكلمات أنه تمنى لو أن كهربا كان ناضجًا بقدر ما كان يمتلك من موهبة، وتلك الكلمات هي مفتاح القصة تمامًا.
في البداية أكد مشاركون من المشهد أن كهربا قريب من رئيس النادي نفسه؛ لأنه يتولى الدفاع عن أخيه في قضية خطيرة. هكذا بدأت القصة بين لاعب كرة شديد الموهبة ونادٍ هو البيئة الخصبة للمشاكل والغرائبيات، خاصة في ظل رئيس له من النفوذ ما يمكنه من استغلال كل المواقف بشكل عنيف.
على أرض الملعب أبدع كهربا وساهم في الفوز بالدوري بعد ستة أشهر فقط، ثم حدث ما توقعه الجميع. عاد الشاب غير الناضج للمشاكل مع الإدارة الفنية للفريق.
كان الأمر مختلفًا، نحن هنا لسنا في سويسرا بل في ميت عقبة، قرر مرتضى منصور الاستفادة من كهربا بأكبر شكل ممكن، فتمت إعارته لاتحاد جدة السعودي لمدة موسمين في مقابل وصل لأكثر من 3 ملايين دولار.
عاد كهربا إلى الزمالك وعادت الخلافات بالطبع. فلا كهربا أصبح ناضجًا، ولا حال الزمالك يتغير بتغير مدربين ولاعبين.
هنا قرر كهربا أن يخرج من المشهد كله كما اعتاد أن يفعل صغيرًا. هرب كهربا أو انتهى عقده فقرر الرحيل من تلقاء نفسه أو اتفق مع الأهلي أن يترك الزمالك قبل نهاية الموسم، فيتضرر الزمالك ويعود كهربا للأهلي، لا يهمنا هنا ماهية خروج الرجل، لكن الأهم أنه خرج كما دخل، لاعب كرة شديد الموهبة غير ناضج على الإطلاق.
ارتدى كهربا قميص الأهلي أخيرًا، واختفى كليشيه «الأهلي المنضبط»، وعاد كليشيه «الأهلي غير».
من المؤكد أن اللاعب يعي ذلك، إلا أن كهربا سرعان ما مارس عاداته، فعوقب بغرامة كبيرة، وتوقع الجميع مصيرًا مماثلًا لصالح جمعة، لكن شكوى الزمالك غيَّرت من سيناريو القصة، حيث احتل كهربا مربع اللاعب الذي اشترى الأهلي وتحول كل الضغط إلى موقف الأهلي لا موقف كهربا.
لم يحاول الأهلي أبدًا أن يظهر بموقف واضح تجاه الرجل؛ لأن الحقيقة تقتضي أن كهربا وحده هو المسئول عن إحياء مسيرته، وكل ما اقترفه كهربا في الماضي هو تحديدًا ما أحيا مسيرته بعد الموت.
يمكنك قلب كل أحداث القصة التي سردناها لتحصل على حاضر كهربا المشرق الحالي، انفكت عقد كهربا لأنه ببساطة هو من عقدها ويعرف كيف يحلها جيدًا.
كيف تغير كل شيء خلال ستة أشهر
ألقت دراما الفرصة الأخيرة بظلالها على نفس كهربا، فغيرت ما بداخله بشدة. نضج الرجل – ولو جزئيًّا – فيما يتعلق بتقدير الفرصة التي يحظى بها. عاد من الإيقاف ليجد أن كل شيء ممهد لعودته. فالأهلي يعاني من مركز المهاجم، والمدير الفني الجديد يحرج الإدارة طالبًا مهاجمًا أجنبيًّا في العلن. هنا ظهر كهربا معتمدًا على موهبته التي لم تتغير أبدًا، ولكن ليس موهبته فقط.
ما تغير حقًّا هو إدراكه أن تلك الموهبة لا تكفي لتقرير مصيره، وأنه لا مجال لأفعال الصبيان والمشاكل مع المدربين وكل ما اعتاد عليه. قضى كهربا كل عمره الكروي وهو يعتقد أن الجميع في احتياج له؛ نظرًا لموهبته الكبيرة. وعندما تبدلت الأدوار ووجد كهربا نفسه في وضع المحتاج لكل دقيقة ولكل ثناء ولكل هتاف، أدرك أن موهبته ترتبط بعقله أيضًا لا قدميه فقط.
على الجانب الآخر وجدت إدارة الأهلي نفسها مع الوقت في موقف خطر، كيف ستحمي لاعبًا اشترى النادي وترك الغريم، ما المبرر الممكن لدفع أكثر من 70 مليون جنيه بشكل مباشر للغريم الأبدي من أجل لاعب مصري.
هنا رمت الإدارة الكرة في ملعب كهربا. لقد انتهت فترة الإيقاف وخلال الشهور القادمة، وأنت وحدك من ستقرر مصيرك. إذا قدمت كل شيء فسيطالب الجميع بعودتك ودفع الغرامة والاعتماد عليك، وإلا فالنتيجة الأخرى أن تنسى أنك لاعب كرة قدم للأبد مع الأخذ في الاعتبار أن أي إيماءة تعيد إلى الأذهان فكرة اللاعب المشاغب ستكون بمثابة رصاصة رحمة في جسدك.
فعلها كهربا بعد أن خدمته الظروف وحُلَّت كل العقد. وجد كهربا نفسه في مركز المهاجم، حيث مجهود أقل من الجناح وإشادة أكبر مع كل هدف. ثم ساعده الحظ أن العودة كانت إبان عهد كولر الذي يفضل دومًا الاعتماد على اللاعبين أصحاب المهارات. هذا بخلاف قسوة التجربة التي أكسبته نضجًا واضحًا، فلا مجال الآن لاعتراض على زميل أو قائد أو مدرب.
هذا لايعني طبعًا أنه ودع اللقطات الجدلية للأبد، فهناك بعض اللقطات مثل سرقة الكاميرا بالتنبؤ أمام الجميع بهدف لزميله محمد شريف خلال مباراة الديربي أو مشاركة الجماهير هتافًا مسيئًا بعد الانتصار. ربما يدل ذلك على أن هذا النضج رهن تخلصه من المشكلة التي تحيط به، وأنه ربما يعود إلي سابق عهده بعد دفع الغرامة، لكن يبقى الرهان أن مرارة التجربة جعلت منه شخصًا آخر، لقد اقترب كهربا من فوهة البركان، ومن المؤكد أنه أدرك أن طريق العودة من الموت أصعب كثيرًا من طريق الذهاب.