فيلم «كابوريا»: خيري بشارة وإعادة اختراع الذات
افتتحت سينما زاوية بالقاهرة في الخامس من يناير 2023 برنامج عروضها الاستيعادية لسينما المخرج المصري الكبير خيري بشارة، الذي امتد حتى نهاية شهر يناير، بعرض فيلمه «كابوريا».
يعد «كابوريا» الذي عرض للمرة الأولى نهاية أغسطس 1990م مدخلاً مناسباً للكتابة عن تجربة بشارة السينمائية التي يمكن تقسيمها لمرحلتين، ما قبل كابوريا وما بعدها وكذلك للنظر للفيلم بعيون جديدة بعد أكثر من 30 عاماً على عرضه الأول. حضر المخرج مع الجمهور عرض الفيلم، الذي أعقبته جلسة نقاشية للمخرج مع عمر الزهيري مخرج فيلم «ريش»، الذي يعتبر خيري أحد ملهميه.
ممتناً للمحبة التى غمره بها الحاضرون فتح قلبه وتحدث: «كنت أقول لنقادي دائماً، أنا لا أصنع أفلاماً لكم ولكن للأجيال القادمة». تذكر معنا وقائع العرض الخاص الذي سبق العرض الجماهيري للفيلم، لم يصافحه أحد من النقاد، تحاشوا حتى النظر في عينيه. كان محبطاً تماماً. اقترح عليه صديقه «هانى يان» أن يدعو من يشاء ويقضوا الليلة لديه في مطعمه الصيني. المطعم ظهر في أحد مشاهد كابوريا. سيصدر لخيري قريباً رواية بعنوان «الكبرياء الصيني» عن حكاية والد صديقه. أخمن أن خيري كتبها أولاً على شكل سيناريو، لكن ربما لأنه لا أحد يريد أن ينتج فيلماً عن رجل صيني في قاهرة الثلاثينيات قرر أن يكتبها أخيراً في شكل روائي. نعود لليلة العرض الخاص لكابوريا. ذهب خيري مع الأصدقاء لمطعم صديقه كان نصفهم غير معجب بالفيلم. أحس بالفشل، وليلتها سكر وبكى.
أظن أن خيري شعر بالرفض على مستوى شخصي هو الذي يقول «أنا طول عمري كابوريا» وأن هذا الفيلم تحديداً أقرب لحقيقته من أفلامه الأولى. كابوريا هو الفيلم الخامس في مسيرته. كان الأمر يشبه شخصاً قرر أن يكشف لك عن جزء من ذاته كان محجباً من قبل ثم أشحت بوجهك عنه.
لم يتبدل إحساس الإحباط سوى يوم العرض الجماهيري الأول للفيلم بسينما بيجال بشارع عماد الدين. هذه السينما لم تعد موجودة الآن. في طريقه من «التحرير باتجاه «عماد الدين» كان شيئاً يشبه الأمل يتسلل إليه، اذ كان يصادف على مسافات متقاربة شباب يغنون في سعادة «أنا في اللابوريا». كانوا جمهور حفلة الساعة السادسة الخارجين من فيلمه. لم يصدق ما رآه حتى وصل أمام السينما وقابله حسين الإمام منتج الفيلم وأحد أبطاله صارخاً في سعادة «حفلة تسعة كومبليه يا خيري».
نجح الفيلم كما لم يتوقع أحد. صار خيري بعدها المخرج الأعلى أجراً في سوق السينما ودشن الفيلم بداية مرحلة جديدة في سينماه، مرحلة أكثر خفة وألقاً وتحمل بصمته الخاصة بشكل أوضح حتى من أفلامه الأولى.
عدت للمتاح من المقالات النقدية التي كتبت عن الفيلم وقت صدوره. كانت كتابات يقف أغلبها على السطح، لا تشتبك تقريباً مع عالم الفيلم ولا شخصياته. ما استنتجه الآن أنها كتبت تحت تأثير صدمة ما، هذا ليس خيري الذي نعرفه وكأن لسان حالهم، «مش عايزين خيرى ده، عايزين خيري الذي أخرج الطوق والأسورة»، فيلمه الأكثر مديحاً من النقاد وذروة مرحلته الواقعية. كان هناك رفض مبدئي للطريق الجديد الذي يبدؤه خيري مغامراً. كتب ناقد كبير في نهاية مقاله الرافض للفيلم مطالباً خيري بالعودة للمياة العذبة التي سبق وسبح فيها منذ بداية مسيرته. ناقد كبير آخر افتتح مقاله مستاء لأنه لا يعرف معنى «اللابوريا» التي يتغنى بها بطل خيري، عاجزاً عن التقاط الجانب الساخر والعبثي للحكاية.
كان السقوط في اللامعنى هو معنى الحكاية. حين يجلس سليمان/ حسين الإمام ثري الحكاية مع حسن هدهد/ أحمد زكي ويخبره أن مشكلته تكمن في أنه يزداد ثراء دون أن يعرف حتى كيف ولا لماذا بينما هدهد الملاكم الفقير يرى أن كل مشاكله ستحل إذا وصل إلى الأولمبية ومنحه اتحاد اللعبة 7 آلاف جنيه مكافأة لذلك ومع ذلك ظل الوصول للأولمبية طيلة الفيلم حلماً بعيداً.
كان رد خيري جاهزاً لنقاده «لا أستطيع أن أصنع لكم الطوق والأسورة إلى الأبد». كان قد سار هذا الطريق حتى نهايته وعليه أن يجرب في طريق آخر. المثير في حكاية النقاد مع خيري أن ما حدث يكاد يكون امتداداً لصراع أبطاله في سينماه، وهي شخصيات دائماً تحاول في عالم محكوم بالتقاليد والموروث أن تفك قيودها، وأن تكون نفسها ثم يحبطها الواقع وتبتلعها دوائر القدر التي تشدهم كالطوق إلى مصير مظلم. كان خيري يريد أن يتمرد على إرثه الخاص، أن يعيد اختراع نفسه كمخرج وكان النقاد يرغبون وضع طوق باسمه في رقبته.
في حوار مع خيري يحكي فيه أنه كان يريد صنع الطوق والأسورة على شكل استعراضات وأغان. عليك تخيل ذلك وتخيل موقف النقاد آنذاك. كانت لدى خيري دائماً رغبة مكبوتة في التحرر من الذهنية والرصانة التي تطبع أفلامه الأولى وكانت هذه الرغبة تعبر عن نفسها بشكل عابر في أفلامه الأولى قبل أن تستسلم لسلطان الرصانة والثقل. يمكنني أن أفكر في أكثر من مشهد في «العوامة رقم 70» و«يوم مر.. يوم حلو» تحمل هذا التوق. لحظة كابوريا لم تنبثق من العدم إذا، كانت لحظة شجاعة قرر فيها أن يطلق العنان لصخبه الداخلي، أن يرخي قليلاً قبضة وعيه الحاد قافزاً خارج الخط الواقعي الصريح الذي ساد في أفلامه الأولى. لم يكن تخلياً عن الواقعية بقدر رغبته في لمس جوانب جديدة تدخل معادلة الواقع الجديد، مناطق يمتزج فيها العبث والغرابة بفانتازم ما هو مكبوت. أراد أن يفعل ذلك عبر صيغة جماهيرية.
من البداية يبحث خيري وجيله عن صيغ شعبية للمس وعي المتفرج وطالما عبروا عن رؤيتهم للسينما بوصفها ظاهرة جماهيرية. كان هناك داخل هذا الجيل، جيل الواقعية الجديدة، خيري، خان، الطيب، وداوود عبد السيد، نوع من الصراع بين التعبير عن أنفسهم وأفكارهم الخاصة والوصول للجمهور الذي اعتاد على سينما تقليدية ترسخت في وجدانه، لذلك ستجد أن أغلبهم له فيلم أو اثنان تحقق لهما نجاح جماهيري كبير. هذا النجاح ليس مصادفة بل تعبير عن رغبة أصيلة في ذلك ومحاولات متكررة.
نعود الآن مجدداً لكابوريا في محاولة لتلمس ملامحه ووضعها في سياقها داخل سينما مبدعه كجزء غير منفصل عنها وكبداية لمرحلة جديدة هي الأكثر تأثيراً وإلهاماً لصناع الأفلام من الأجيال التالية. كانت فكرة قدرته على صنع سينما مغايرة ومختلفة ومغامرة حتى على مستوى السينما الفنية السائدة في مصر هي تميمة خيري التي مررها لمن أتوا بعده.
كابوريا كامتداد لذاتية بشارة
خيري ربما هو أكثر مخرجي جيله ذاتية في سينماه. يردد خيري في أكثر من حوار أنه يعيش على ما يسميه «فضيلة التعبير عن الذات» كأنه لا يستطيع أن يصنع فيلماً لا يعبر عنه أو بعيداً عن ذاته. ينطلق دائماً من ذاته، أفلامه مهما تغيرت حكايتها أو ملامح أبطالها، تظل تحمل شيئاً منه. كان قريباً جداً من ذاته في العوامة رقم 70 حيث أحمد الشاذلي/ أحمد زكي مخرج الأفلام التسجيلية المشوش بين التزامه بالحقيقة وتطلعاته ورغباته الخاصة والأقرب لسيرة ذاتية له ولجيله. كذلك سيف/ عمرو دياب في «أيس كريم في جليم» المغنى الذي يحلم بأغنيته الخاصة، أغنية تعبر عنه حتى لو كانت بلا معنى. الإيحاء بالذاتية في هذين الفيلمين كان أكبر بحكم أن بطليهما يمارسان الفن، مخرج ومغن، لكن هدهد ملاكم الساحات الشعبية هو أيضاً امتداد لذاتية خيري، بطل آخر ضائع في مدار الحيرة والغربة والحلم.
حين يحاصر هدهد بأسئلة المحيطين به، لماذا لا يعمل في صنعة والده أو يلتزم بعمل منتظم أو حتى في تدريبات الملاكمة؟ يجيب «في دماغي حاجات، فيه في دماغي فكر» أو «أنا اللي في دماغي شديد قوي» الإشارة للرأس كسبب للمعاناة شارة أبطال خيري. معاناة مع الرأس المثقل بأحلام يكسرها الواقع الشخصي والعام.
هناك أيضاً جانب التمرد على الإرث الأبوي والرغبة في السير في طريقه الخاص. يقول له صديقه حين يرى تأزم أحواله «ارجع لأبوك وكل من تحت رجليه، آديك شفت البهدلة من ساعة ما سبته». لكن هدهد كبقية أبطاله لا يغويهم أبداً مثل هذا الطوق حتى لو بدا مريحاً وجذاباً، سيفضلون صخرة سيزيف، يصعدون بها ويهبطون جبل أيامهم. يرغب أبطاله دائماً الخروج على هو مألوف وتقليدي. في أغلب أفلام خيري هناك دائماً مشهد زنزانة قسم الشرطة التي تنتظر بطله عند أول خروج عن حدود ما هو مسموح. في كابوريا بمجرد دخوله هدهد مع صديقيه لمركب الأثرياء، يحاول سليمان طردهم فينشب شجار وينتهي بهم المطاف في الحجز.
كابوريا كامتداد لواقعية بشارة
في كابوريا، يقدم خيري الواقع نفسه الذي سبق وقدمه في أفلامه الأولى لكن بصيغة جديدة مشبعة بروح السخرية واللعب والتجريب. لكن حتى هذه الروح الجديدة تحمل بداخلها جوهر أسلوبه الواقعي. خيري لا يتخلى هنا عن التزامه الواقعي. في أفلامه الأولى مثلاً لم يكن يلجأ للديكورات إلا فيما ندر، ففيلم مثل «العوامة رقم 70» نفذ بلا ديكورات. في كابوريا هناك ديكورات ولكن أيضاً هناك تصوير في الشارع وفي أماكن حقيقية بإضاءة طببيعية وهناك أيضاً الميل للقطات الطويلة نسبياً المميزة للسينما الواقعية. حتى الحس الوثائقي الممتد من بدايته في السينما التسجيلية، مستمر هن في استخدامه لممثلين يقفون أمام الكاميرا لأول مرة، حيث يجلبون للشاشة الكثير من البراءة والعفوية. انظر للمشهد الذين يزور فيه هدهد والده، تفاصيل المكان، فرن تشكيل الزجاج، ملامح الأب، الأم والأخت والجارة كأنك في فيلم وثائقي. كل شيء حقيقي وواقعي رغم روح الفانتازيا التى تغلف الحكاية. ينتهي الفيلم نهاية سعيدة لكنها لا تزيف الواقع. أنه فقط اختار أن أن يوقف جريان الصور عند هذه اللحظة المشبعة بالأمل لكنك تعرف أنه حين تستعيد الصور جريانها الطبيعي ستجد أن كل شيء كما كان. هدهد لا يزال فقيراً. ربما لن يصل إلى الأولمبية أبداً أو يتزوج محبوبته.
يعمل الفيلم كحكاية خرافية. تتبع الحكاية الفيلمية مسار ما يسمى رحلة البطل بحسب «جوزيف كامبل»، حيث يخرج البطل مغامراً من عالم الحياة اليومية العادي إلى عالم غريب وغير مألوف. عالم مغو وقاس، ينسيه حلمه ونفسه، لكن في لحظة استنارة متأخرة يستعيدهما مجدداً. في نهاية الفيلم يتسلق هدهد أجساد أصدقائه ليصل إلى شباك الحبيبة. ويدور بينهما الحوار التالي : كنت فين؟ كنت بحارب، وغلبت؟ غلبت. جبتلي ايه معاك؟ أنا. والفلوس؟ خدها الغراب وطار.
يخبرها بحلمه: وأنا نايم قرصتني نحلة. وما دام فيها نحل يبقى النهارده جميل. جميل يا قمر ثم يقبلها. اللغة اللي يتحدثون بها في هذا المشهد الختامي تناسب الطابع السحري الذي يغلف الحكاية. تناسب فانتازيا الفيلم يبدأ وينتهي في اللحظات الأولى للنهار، على الحد الفاصل بين النوم واليقظة، الواقع والحلم. ما الذي أفضت إليه الرحلة إذاً؟
تنتهي الحكاية كما في كل الحكايات الخرافية والأساطير بانتصار رمزي، نوع من التجدد والميلاد. قبل الرحلة كان هدهد يائساً وكأنه وصل لطريق سد. هنا يعود بحماس وأمل، سيحاول مجدداً. النهاية السعيدة لمثل هذه الحكايات لا تتناقض مع الواقع الموضوعي القاسي بل ترتقي فوقه. يبقى العالم كما هو بكل قساوته لكن تركيز الفرد يتحول نحو ذاته، إلى داخله وتصبح الحوادث فانتازية لأنها تمثل انتصارات غير مادية وإنما نفسية.
اللابوريا والنفس ما بعد الحداثي للفيلم
هناك مشهد في الفيلم يستمر لأكثر من دقيقتين يغنى فيه سليمان وزوجته حورية/ رغده وضيوفهما قائمة طعام هي مزيج عشوائي من أكلات الطبقة العليا والفقراء. كانت هناك أغنية بالفعل مكتوبة للمشهد لكن خيرى صارح حسين الإمام «مش عايز كلام عميق يا حسين، أنا عايزك تلحن المنيو» ماذا يقول ذلك عن الفيلم؟
يحمل فيلم خيرى بشارة المصنوع بنفس ما بعد حداثي صدى سقوط الأفكار الكبرى التي سادت القرن العشرين، التي يلخصها سليمان في «فينيتو اشتراكية. سور برلين بقى يتباع تذكار» معلناً عن صعود نهائي للرأسمالية وبالتالي تأخذ العلاقة بين الطبقات شكل آخر بعيد تماماً عن صراع الطبقات التقليدي. هنا الناس اللي تحت لعبة لتسلية الناس اللي فوق. تعلق إحدى الحاضرات بالإنجليزية على مباريات الملاكمة التي يقيمها سليمان وحورية للتخلص من ملهما الزوجي وكأنها استعادة لزمن سبارتاكوس، حين اعتاد الرومان استخدام العبيد للترفيه عن الطبقة الأرستقراطية.
الفيلم أيضاً «ما بعد حداثي» عبر مزجه الأنواعي لعناصر من الكوميديا، الميلودراما ،الميوزيكال وأفلام الملاكمة. أيضاً تذويب الفاصل بين ما يسمى الذوق الرفيع للفن والهابط والكليشيه، حيث تتهافت المعايير النخبوية. في طريق هدهد إلى الأوبرا لمقابلة حبيته، يسأله أحد أصدقائه الصعاليك: ايه بقى الأوبرا دي؟ يجيبه الأوبرا دي اللي بتشتغل فيها قمر! وحين ينجح في الدخول وتجاوز أكواد الزي التي تفرضها الأوبرا نشاهده يرتدي زيا هجينا ويتقدم نحو قمر ليهديها وردة وفي الخلفية موسيقى لا ترافياتا لفيردي. بارودي واضح أثار عاصفة من الضحك في القاعة.
ينسلخ الفنان ما بعد الحداثي من جلد الأحلام الكبيرة، أحلام تغيير العالم. ما يهمه هو تقديم رؤيته الخاصة، ما يحسه دون تقيد بذوق أو معايير أو ضوابط. الذاتية هي التي يجب أن تصوغ ما يجب أن يفعله أو يختاره الإنسان. هنا حكمة الشارع، الصعلكة والالتصاق بالجماهير مقابل النخبوي، اللابوريا في مواجهة لاترافياتا. هنا الذات والتجمعات الصغيرة تبحث لنفسها عن مخرج في هذا العالم الغريب العبثي والقاسي.
تبدو سينما خيرى بشارة أقرب لأغنية واحدة ممتدة تمزج الحزن والفرح، الحلم والانكسار، الحلو والمر الحب والفراق، أغنية تضيق وتتسع كالحياة، تختلف أحياناً في نبرتها وإيقاعها لكنها تظل دائماً تحمل صدى ذاته.