تحولات العدالة والتنمية: هل انتهت أطروحة «الاعتدال»؟
كثيرًا ما يُقال إن الأحزاب تنظيمات محافظة بطبيعتها، أي أنها مقاومة للتغيير، إلا أن العوامل التي تتراوح بين خلافات داخلية وأزمات خارجية أو هزائم، تدفع بالأحزاب في اتجاه التغيير، وأحيانًا بشكل جذري، فيما يعرف بـ «التحول الحزبي» (Party transformation).
الاتجاه إلى الاعتدال بعد تطرف مبدئي هو أحد أنماط «التحول الحزبي» المتكررة. وتحتل أطروحة الاعتدال (Moderation) مكانة بارزة في دراسات الإسلام السياسي، حيث يرى الباحثون الذين يتبنون تلك الأطروحة أن الانفتاح السياسي والانتخابي الأكبر سيحث الأحزاب الإسلامية الراديكالية على أن تصبح معتدلة وديمقراطية. وعلى النقيض من ذلك، فإن ظاهرة «التطرف الحزبي» مفقودة من النقاش.
أغفلت الأدبيات التحول الحزبي نحو «التطرف»، حيث كان هناك دائمًا افتراض بأن التحول الحزبي يسير في اتجاه واحد نحو «الاعتدال»، وذلك على الرغم من تكرار ظاهرة «التطرف».
وفي هذا المقال نتطرق إلى مفهومي «الاعتدال» و«التطرف»، وفق التمييز الذي طرحه عبدالقادر يلدريم بين الاعتدال السلوكي والاعتدال الأيديولوجي. فالسلوكي يعني الدخول الإستراتيجي للحزب في السياسة الانتخابية لتحقيق أهدافه الأيديولوجية من خلال التسوية والوسائل اللا عنفية الأخرى. أما الاعتدال الأيديولوجي فهو تغيير يتبنى بالفعل مبادئ السيادة الشعبية والتعددية السياسية. ففي ظل الاعتدال السلوكي، يُنظر إلى الديمقراطية على أنها وسيلة لتحقيق غاية –تحقيق أهداف الحزب الأيديولوجية- في حين أن الاعتدال الأيديولوجي هو التخلي عن الالتزام الأيديولوجي الأصلي.
وعلى الرغم من أن الاعتدال السلوكي يجب أن يسبق الاعتدال الأيديولوجي، فإن الاعتدال الأيديولوجي ليس نتيجة حتمية للاعتدال السلوكي. يعتبر قرار الحزب بتغيير التزاماته الأيديولوجية قرارًا جادًا ومثيرًا للجدل وغالبًا ما يؤدي إلى انقسام الحزب، نظرًا لأن المعتقدات الأيديولوجية القوية صارمة إلى حد كبير.
ولسنوات عديدة كان يعتقد أن حزب العدالة والتنمية التركي ذو أهمية قصوى في الدخول في حقبة جديدة من الإسلام السياسي المعتدل في الشرق الأوسط، باعتباره «حزبًا مسلمًا ديمقراطيًا»، وبأن حزب العدالة والتنمية قد تجنب إرث التشدد، وأصبح معتدلًا من الناحية السلوكية والأيديولوجية. ومع ذلك، ففي السنوات الأخيرة عَكَسَ حزب العدالة والتنمية مساره بشكل مقلق. بداية من القمع العنيف لاحتجاجات جيزي عام 2013 إلى مزاعم الفساد في وقت لاحق من ذلك العام إلى محاولة الانقلاب الفاشل لعام 2016 والقمع اللاحق للمعارضة. فعلى أثر ذلك كله، فقد الحزب كل مظاهر الإسلاموية المعتدلة.
وتمثل أحداث السنوات الماضية لغزًا، فإذا كان حزب العدالة والتنمية مُعتدلًا حقًا، ومؤمنًا جادًا بالتعددية والسيادة الشعبية والقيم الديمقراطية الأخرى، كيف يمكن للحزب أن يتغير بهذه الطريقة الدراماتيكية في مثل هذه الفترة القصيرة من الزمن؟ وعليه، نقدم حجتين للإجابة على هذا السؤال. أولاً، نجادل بأن الادعاءات بأن حزب العدالة والتنمية معتدل أيديولوجيًا كانت قصيرة النظر وغير دقيقة. في حين أن الحزب قد جرب التعلم السياسي بالفعل، بعد أن شهد العديد من حملات القمع الكمالية على الأحزاب الإسلامية خلال فترة الثمانينيات والتسعينيات، إلا أنه لا يوجد دليل يذكر يشير إلى أن الأعضاء قد شهدوا «تغييرًا معرفيًا» حقيقيًا لصالح الديمقراطية. حيث إن حزب العدالة والتنمية تعلم العمل بشكل إستراتيجي، والسعي وراء أهدافه السياسية دون إزعاج جهاز الدولة العلماني.
ثانيًا، نجيب على سؤال مفاده: «هل مارس حزب العدالة والتنمية التطرف؟ وما الذي يفسر هذا التطرف؟ تطرف، نجادل بأن حزب العدالة والتنمية، من خلال تبني التكتيكات والخطابات المناهضة للنظام والديمقراطية والعنف، قد تبنى التطرف، وهو شكل من أشكال تغيير الحزب. بالإضافة الى أن اختفاء القيود البنيوية المحلية والدولية قد غير البيئة المؤسسية وخلق الظروف المطلوبة لتطرف الحزب. وبالإضافة إلى ذلك، نجادل بأن هناك سلسلة من أربع «صدمات خارجية» هددت الهدف الأساسي للحزب المتمثل في كسب الهيمنة وتسببت في تطرف الحزب. وكانت هذه الصدمات الخارجية هي احتجاجات جيزي 2013، وتحقيقات 17-25 ديسمبر في 2013، وانتخابات يونيو 2015، ومحاولة الانقلاب الفاشلة في عام 2016.
التعلم السياسي والتحول الحزبي
نتج النموذج المعتدل لحزب العدالة والتنمية عن تراكم الخبرات التاريخية، تعود إلى عام 1970 مع تأسيس حزب النظام الوطني الإسلامي. فعلى الرغم من اكتساب أتباع له بسرعة، إلا أن حزب النظام الوطني الإسلامي لم يدم طويلاً، وحظرته المحكمة الدستورية عام 1971 لرغبته في «تغيير المبادئ العلمانية للدولة وإقامة نظام إسلامي». وبعد أكثر من عام بقليل، قام الحزب بإحياء نفسه تحت اسم حزب الإنقاذ الوطني. حيث كان حزب الإنقاذ الوطني أطول عمرًا وأكثر نجاحًا من حزب النظام الوطني الإسلامي، حيث شارك في حكومتين قبل أن يتم حظره مرة أخرى في نهاية المطاف في عام 1980. ومرة أخرى قد أعيد تشكيل الحزب تحت مسمى حزب الرفاه في عام 1983. وفي الانتخابات النيابية لعام 1995، حقق حزب الرفاه نجاحًا انتخابيًا عندما فاز الحزب بنسبة 21.4% من الأصوات.
وعند السؤال عن ما هي العوامل والظروف التي أدت إلى تطرف حزب العدالة والتنمية؟ نستخدم النموذج النظري الذي يطرحه هارمل وجاندا حول التحول الحزبي. حيث تستند نظرية هارمل وجاندا على فرضية أن «الأحزاب هي في الأساس منظمات محافظة، ولن تتغير لمجرد التغيير». وبدلاً من ذلك، تتغير الأحزاب بسبب ضغوط داخلية وخارجية مختلفة، ويزعم هارمل وجاندا أن «التغييرات الأكثر دراماتيكية والأوسع نطاقًا» ستنشأ من عوامل خارجية، في المقام الأول من «الصدمات» الخارجية. حيث إن العوامل الخارجية هي تلك «التغيرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والأحداث التي تحدث خارج الحزب المرصود». فيمكن أن تكون مرتبطة بالتغيير الديموغرافي، أو التغييرات الدستورية والقانونية، والمنافسة الانتخابية، والسياقات والتطورات الدولية.
اتخذ حزب الرفاه العديد من المواقف الراديكالية، بما في ذلك معارضة عضوية الاتحاد الأوروبي والمجموعة الاقتصادية الأوروبية، ومعاداة الصهيونية، والرغبة في إنشاء مؤسسات إسلامية موازية لحلف شمال الأطلسي ومجموعة الثماني G8 والاتحاد الأوروبي. وربما ليس من المستغرب أن تستمر هذه الحكومة عدة أشهر فقط وأطيح بها بانقلاب غير عنيف في عام 1997. فبعد ذلك، تم حظر حزب حزب الرفاه لانتهاكه مبدأ العلمانية. وصل الانقسام إلى ذروته بعد هذا الانقلاب، ففي منتصف عام 2001، انقسم الحزب رسميًا، حيث اندمج المتشددون في حزب السعادة وشكَّله الأعضاء الأصغر سنًا، وحزب العدالة والتنمية –الأكثر براجماتية. حيث كان برنامج حزب العدالة والتنمية –الذي يطلق على نفسه حزبًا «ديمقراطيًا محافظًا» وليس حزبًا إسلاميًا- بل مؤيدًا للديمقراطية ومؤيدًا للعولمة ونيوليبرالي.
و«الصدمة» الخارجية، هي حدث قوي بشكل غير عادي، حيث إنها تحفز ما يمكن تسميته «إعادة تقييم مهمة لفعالية الحزب». والأهم من ذلك، أن تأثير حدث خارجي على الحزب يعتمد على علاقة هذا الحدث «بالهدف الأساسي» للحزب: «فقط إذا كان يتعلق مباشرة بالهدف الأساسي للحزب»، فإن الحدث الخارجي سيسبب «صدمة». تركز نظرية هارمل وجاندا بشكل خاص على تحديد «الهدف الأساسي» لحزب معين، والذي يمكن أن يكون شغل المناصب، أو المناصرة والدعم الأيديولوجي، أو تفعيل الديمقراطية داخل الحزب. والعوامل الخارجية –وخاصة «الصدمات»- تؤثر من خلال المساس بأهدافها الأولية.
تؤثر طبيعة الهدف الأساسي لحزب معين على الطريقة التي سيستجيب بها الحزب للمحفزات الخارجية. وبعبارة أخرى، فإن الحزب –وهو التحالف المهيمن بشكل أساسي- «سيُدخل التغيير عندما يرى التغيير على أنه دفع لأهداف الحزب». سيؤدي الفشل في تحقيق الأهداف المحددة مسبقًا إلى إحداث تغييرات مصممة لتحقيق تلك الأهداف. فعلى سبيل المثال، يقترح هارمل وجاندا أنه «كلما زادت حدة الإخفاقات الانتخابية، زاد احتمال تحولها».
وعند تصنيف حزب العدالة والتنمية يمكن تصنيفه على أنه حزب يسعى إلى حصد الأصوات. حيث لا تملك الأحزاب الساعية إلى الأصوات سياسات ومواقف ثابتة؛ فبدلاً من ذلك، فإنه يتم التلاعب به بانتظام من أجل زيادة الدعم والمؤيدين على أقصى حد ممكن. كما أن هذه الأحزاب «تشدد بشكل خاص على المواقف الوسطية» من أجل تحقيق أكبر قدر من الأصوات. ومع ازدياد نفوذ وقوة حزب العدالة والتنمية، أصبح حزبًا مهيمنًا في عام 2011. ويتضح هذا من خلال التحول الأخير لحزب العدالة والتنمية إلى «حزب مهيمن» في عام 2016.
اختفاء القيود الهيكلية
لعبت القيود الهيكلية التي فرضتها المؤسسات القوية في تركيا دورًا حاسمًا في إجبار الإسلاميين على اعتدال سلوكهم. حيث كانت لهذه القيود الهيكلية جذور محلية ودولية. فمحليًا، نشؤوا من مجموعات بيروقراطية علمانية موجودة أساسًا في القضاء، والمحكمة الدستورية التركية، والقوات المسلحة التركية التي حافظت تاريخيًا على النظام السياسي العلماني الكمالي ومنعت الجماعات «الدينية» من اكتساب أرضية اجتماعية وسياسية. تم إغلاق الأحزاب الإسلامية في تركيا عدة مرات منذ عام 1970. والأهم من ذلك، تم إغلاق حزب الرفاه، العضو البارز في الائتلاف الحاكم في ذلك الوقت، بعد تدخل عسكري في عام 1997. وكان لهذه العملية تأثير عميق على الاعتدال من الإسلاميين الذين أسسوا حزب العدالة والتنمية لاحقًا في عام 2001. ومن ناحية أخرى، نشأت القيود الدولية في الغالب من عملية الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. ومع ذلك، في السنوات الأخيرة، وخاصة منذ عام 2010، اختفت هاتان المجموعتان من القيود تدريجيًا، مما تسبب في تداعيات خطيرة على مسار حزب العدالة والتنمية.
تداعي القيود المحلية
عندما وصل حزب العدالة والتنمية إلى السلطة في عام 2002، كان مقيدًا بشدة من قبل القوى الهيكلية المحلية الموجودة في القضاء، والمحكمة الدستورية التركية، والقوات المسلحة التركية، الذين كانوا متشككين للغاية في النوايا «الحقيقية» للحزب وطابعه الإسلامي. وخلقت هذه القيود حوافز إستراتيجية للحزب لرفض ماضيه الإسلامي واعتناق المفاهيم العلمانية والليبرالية كشرط ضمني وصريح للتخفيف من مخاوف الأوصياء الكماليين والبقاء في السلطة. وبعبارة أخرى، أثرت هذه القيود الهيكلية على سياسات الحزب وإستراتيجياته، فضلاً عن هيكله الداخلي، حيث اضطر الحزب إلى تضمين سياسيين يسار الوسط في قوائم حزبه في عامي 2002 و 2007.
وفي الواقع، تدخلت هذه القوى الهيكلية في المجال السياسي عدة مرات لتأكيد موقعها المهيمن واستمر حزب العدالة والتنمية في الشعور بمعارضته القوية حتى أواخر العقد الأول من القرن الواحد والعشرين. حيث حاول العديد من الضباط داخل القوات المسلحة التركية الإطاحة بحكومة حزب العدالة والتنمية من خلال الانقلابات العسكرية في عامي 2003 و 2004. وقد تم منع هذه المحاولات من قبل مستويات عليا في القوات المسلحة التركية. وفي عام 2007 ، قبلت المحكمة الدستورية التركية طلبًا تقدم به حزب الشعب الجمهوري بمنع انتخاب عبد الله جول كرئيس. في عام 2008، وافقت المحكمة الدستورية على النظر في طلب المدعي العام لإغلاق حزب العدالة والتنمية، بدعوى أن الحزب أصبح نقطة محورية للأنشطة المعادية للعلمانية. في حين أنه لا يمكن الحصول على أغلبية الثلثين، صوت ستة من أصل 11 عضوًا، لإغلاق الحزب، مما يدل على مستوى المعارضة ضد حزب العدالة والتنمية داخل الدوائر البيروقراطية.
وبدءًا من ولايته الثانية في عام 2007، بدأ حزب العدالة والتنمية في شل سلطة هذه المؤسسات العلمانية من خلال الوسائل التشريعية، والسيطرة على هذه المؤسسات بالموالين للحزب، وفي بعض الأحيان سجن بعض أعضائها. حيث أدخل استفتاء عام 2010 تغييرات جذرية على الدستور، وأعاد تنظيم المحكمة الدستورية والمجلس الأعلى للقضاة والمدعين العامين من أجل إخضاعهم لسيطرة الحكومة.
فجعلت هذه التغييرات أيضًا من المستحيل تقريبًا إغلاق حزب في تركيا. ونجح حزب العدالة والتنمية في السيطرة على القضاء بمساعدة حليفه المقرب آنذاك، حركة فتح الله كولن. كما وجهت ضربة كبيرة للمؤسسة العسكرية بتحقيقات أرجينيكون وباليوز. ففي سلسلة من المحاكمات بين عامي 2008 و 2011، قامت الحكومة بتطهير ومحاكمة عشرات الجنرالات رفيعي المستوى الذين اتهموا بالتآمر لقلب نظام الحكم. وعلاوة على ذلك، أدت التغييرات التي أدخلت على الدستور في عام 2010 إلى تقليص قوة الجيش. وأدت هذه التطورات إلى إضعاف الهيمنة الكمالية في القضاء، وتقليص السلطة السياسية للقوات المسلحة التركية، وإزالة القيود الهيكلية المحلية على سلطة حزب العدالة والتنمية.
القيود الخارجية
تتمثل القيود الخارجية بشكل أساسي في عملية انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي. فبينما كان الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي «هدفًا لسياسة الدولة» لفترة طويلة، ظلت عملية انضمام تركيا ثابتة لعدة عقود ولم تكتسب زخمًا إلا بعد عام 1999، عندما منحت مفوضية الاتحاد الأوروبي تركيا وضع «المرشح». فعندما تولى حزب العدالة والتنمية السلطة في عام 2002، كان لديه العديد من الحوافز الإستراتيجية لتنفيذ برنامج الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.
أولاً: كان دعم الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي مرتفعًا جدًا بين المواطنين الأتراك في ذلك الوقت. لذلك، كان حزب العدالة والتنمية بحاجة إلى احتضانه من أجل النجاح في الانتخابات.
ثانيًا: بينما كان الحزب يحاول كبح الوصاية الكمالية في الدوائر العسكرية والقضائية، خلقت عملية الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي فرصة مثالية لتنفيذ الإصلاحات لتحقيق هذه الغاية دون إثارة الجدل. كان هذا أيضًا مرتبطًا بشكل أساسي ببقاء الحزب في السلطة.
ثالثًا: كانت الحكومة الائتلافية قبل حزب العدالة والتنمية قد بدأت بالفعل في متابعة الإصلاحات المحلية التي تهدف إلى الوفاء بمعايير كوبنهاجن.
ومن ثم، عندما تولى حزب العدالة والتنمية السلطة في عام 2002، كانت البلاد بالفعل في خضم إصلاحات من أجل الانضمام، ولم يكن بإمكان حزب العدالة والتنمية التخلي عن هذه الإصلاحات دون المخاطرة بفقدان مصداقيته وحتى أمنه. ونتيجة لذلك، قدمت نخب حزب العدالة والتنمية التزامات جادة بعملية الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي منذ البداية، وبالتالي، كانت مقيدة بمتطلبات عملية الانضمام، والتي تضمنت تمرير إصلاحات التحول الديمقراطي، واحترام حقوق الإنسان والتمسك بالمبادئ العلمانية. والأهم من ذلك، يوضح هذا أيضًا كيف عززت القيود المحلية والدولية بعضها البعض في تركيا في ذلك المنعطف بالذات.
دور العوامل الداخلية في الحزب في عملية التحول الحزبي
خلال فترتي توليه المنصب (2002-2011)، ضم أعضاء برلمان حزب العدالة والتنمية، بالإضافة إلى حكوماته، العديد من الشخصيات البارزة غير الإسلامية والليبرالية من يسار الوسط الذين لعبوا دورًا مهمًا في تحويل صورة الحزب نحو كونها معتدلة وتقدمية. وقد قيل إن المؤسسة الإسلامية داخل الحزب استبعدت تدريجيًا هذه الشخصيات غير الإسلامية، وبحلول عام 2011، حتى حركة كولن، أقوى حليف لحزب العدالة والتنمية في ذلك الوقت، لم يتمكنوا من إدراج أعضائهم في قوائم الحزب. وفي السنوات التالية، امتد الاستبعاد داخل الحزب إلى أولئك الأعضاء المقربين من عبد الله جول وبولنت أرينك وأحمد داوود أوغلو.
بينما فقد الليبراليون ويساريو الوسط وجودهم داخل حزب العدالة والتنمية، من المشكوك فيه أن يكون هذا العامل قد لعب أي دور مهم في التحول الراديكالي للحزب. حيث لم يتم تعيين هؤلاء الأعضاء غير الإسلاميين في مناصب مهمة سواء في الحزب أو في حكومات حزب العدالة والتنمية. تم الاكتفاء بتعيينهم عادةً في مناصب يمكنهم من خلالها تمثيل حزب العدالة والتنمية أمام الجماهير الأجنبية، ولا سيما الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
وعامل آخر من العوامل الداخلية التي أدت إلى التحول المتطرف للحزب هو طرد القادة الثلاثة الأبرز لحزب العدالة والتنمية: الرئيس السابق عبدالله جول، رئيس الوزراء السابق داوود أوغلو، ونائب رئيس الوزراء السابق أرينج، بموجب توجيهات أردوغان الشخصية، من المناصب الهامة التي كانوا يشغلونها في السابق داخل حزب العدالة والتنمية. حيث قيل بشكل عام إن الخلافات بين هؤلاء القادة وأردوغان نشأت بعد عام 2011 عندما بدأ أردوغان في اتخاذ قرارات أحادية الجانب. تفاقمت هذه الخلافات خاصة بعد أن أصبح أردوغان رئيسًا في عام 2014. حاول أحمد داوود أوغلو، بصفته الرئيس الجديد للحزب ورئيس الوزراء، أن يتولى رئاسة الحزب على حساب أردوغان دون نجاح. أدت هذه الخلافات إلى إقالة داوود أوغلو من مناصبه كرئيس للوزراء ورئيس حزب العدالة والتنمية، واستبداله في 2016 ببنعلي يلدريم الموالي لأردوغان. ومع ذلك، لم يكن إقالة الفصائل البديلة هو العامل الرئيسي الذي أدى إلى التطرف المعطى. كان غول وأرينج وداوود أوغلو نشطين في الحكومة وحزب العدالة والتنمية خلال معظم عملية التطرف. فبدلاً من ذلك، سهّلت عمليات الإقالة عملية التطرف من خلال السماح لأردوغان باتخاذ قرارات سريعة دون التشاور.
الصدمات الأربعة للتحول الحزبي
والأهم من ذلك، أن إعداد القوائم الحزبية، واختيار المرشحين، والتوجه الإستراتيجي العام للحزب كان دائمًا ما يمليه الإسلاميون. وداخل حكومات حزب العدالة والتنمية، كان وزراء الداخلية والعدل والشؤون الخارجية يكونون دائمًا من الموالين للحزب. ومن ثم، فإن اتجاه حزب العدالة والتنمية (سواء كان معتدلًا أم متطرفًا) كان يمليه عمومًا الإسلاميون.
احتجاجات جيزي 2013
رسخ انتصار حزب العدالة والتنمية الحاسم (50%) في الانتخابات البرلمانية لعام 2011 مكانته باعتباره «الحزب المهيمن» في السياسة التركية، وأشار إلى تحرره المتزايد من القيود الهيكلية التي تفرضها المؤسسات البيروقراطية والعسكرية العلمانية. وقد سمح هذا أيضًا لحزب العدالة والتنمية بسن سياسات من شأنها استبعاد مخاوف ومطالب القطاعات العلمانية في المجتمع والتركيز بدلاً من ذلك على تعزيز دعمه بين الناخبين الأساسيين المحافظين. فمنذ عام 2011، بدأ حزب العدالة والتنمية وزعيم الحزب أردوغان في زيادة الإشارات إلى الموضوعات والمثل الإسلامية، مع رغبة معلنة في تربية «أجيال متدينة» على أسس سنية. علاوة على ذلك، فقد انتقدوا المساكن المختلطة بين الجنسين، والإجهاض، وشرب الكحول. وسرعان ما تبعت هذه التصريحات سياسات جديدة هاجمت أسلوب الحياة العلماني في تركيا. وفرضت قوانين مختلفة قيودًا على مبيعات المشروبات الكحولية والإعلان عنها، واقترحت حظر الإجهاض ومراقبة النساء الحوامل.
وقعت احتجاجات جيزي على خلفية هذه التطورات، حيث جمعت الاحتجاجات شريحة واسعة من المجتمع التركي، بما في ذلك المناهضين للتغير المناخي، واليساريين، والليبراليين، والعلويين، والكماليين، وحتى بعض المسلمين المحافظين، الذين اعتقدوا أن تعدي حكومة حزب العدالة والتنمية على أنماط حياتهم وصل إلى مستويات غير مقبولة. ومن ثم، باعتبارها «أكبر مثال للحركة المدنية الجماهيرية في تاريخ الجمهورية»، كانت احتجاجات جيزي أكبر تحد لهيمنة حزب العدالة والتنمية على المجال الاجتماعي. فأدت الاحتجاجات إلى تفاقم انعدام الأمن الوجودي لحزب العدالة والتنمية في السلطة. وفي خضم الثورات المستمرة في الشرق الأوسط، ذكّر جيزي حزب العدالة والتنمية بالطبيعة الهشة لقبضته على المجتمع التركي والسياسة وإمكانية قيام ثورة اجتماعية علمانية. وفي هذا الصدد، كان الشعار المعبر عن مسيرات أردوغان المضادة في أعقاب جيزي هو «شنقتم مندريس، وسممتم أوزال، لن ندعكم تلتهموا أردوغان!»، في إشارة إلى الزعيمين السابقين من يمين الوسط اللذين قُتلا وتم التنكيل بهما.
الخلافات مع كولن وتحقيقات 17 – 25 ديسمبر
لا يوجد لدى حركة كولن حزب سياسي في تركيا، كما أنها لا تتبنى أيديولوجية راديكالية على غرار الجماعات السلفية. حيث يُنظر إلى حركة كولن على نطاق واسع على أنها حركة إسلامية معتدلة.
ومع ذلك، شكلت الحركة قوة إسلامية مستقلة شككت في المصداقية الإسلامية لحزب العدالة والتنمية. إلى جانب تحقيقات 17/25، هدد هذا وضع الحزب كموطن للمسلمين المحافظين في تركيا وأدى إلى تطرف حزب العدالة والتنمية. وكان الرد المعتدل يتطلب من الحزب السماح لمواصلة التحقيقات والسماح لفاعل إسلامي آخر يسعى إلى الهيمنة بنزع الشرعية عن زعيم الحزب وكبار قيادته، مما يجبر حزب العدالة والتنمية على مشاركة سلطته السياسية والاجتماعية، وإن لم يكن التنازل عنها لحركة كولن.
ونتيجة لذلك، كان رد فعل حزب العدالة والتنمية على تحقيق الفساد من خلال رفض مزاعم الفساد تمامًا، واستبعاد المدعين العامين وموظفي إنفاذ القانون الذين أجروا التحقيقات وإعلان الحرب على حركة كولن.
هزيمة 2015
بمجرد الدخول في المنافسة الانتخابية، يضطر الحزب الراديكالي إلى تعديل أيديولوجيته لزيادة الأصوات. ومع ذلك، تُظهر الدراسات الحديثة أن ديناميكيات المنافسة الانتخابية قد تؤدي إلى تطرف خطاب الأحزاب الدينية أو القومية وقد تولد صراعًا عرقيًا دينيًا في البلدان التي يظل الدين فيها علامة رئيسية للهوية. بالنسبة لحزب العدالة والتنمية في تركيا، كان الفوز بالأغلبية البرلمانية في الانتخابات العامة هو الهدف الأساسي الذي يشكل حجر الأساس لإستراتيجية الحزب لتحقيق الهيمنة. تمكن حزب العدالة والتنمية من زيادة حصته من الأصوات في انتخابات 2007 (47%) و 2011 (50%). لكن في انتخابات يونيو 2015، انخفضت حصص تصويت حزب العدالة والتنمية من 50% إلى 41%.
ففي قلب الديناميكيات الانتخابية المتغيرة كانت «عملية السلام الكردية»، وهي حملة توعية للمواطنين الأكراد، أطلقتها حكومة حزب العدالة والتنمية في عام 2013. وأثارت العملية انتقادات لاذعة من شرائح قومية متطرفة في المجتمع اعتبرتها بمثابة بيع للأتراك. تم تحويل هذه الحساسيات إلى أصوات من قبل حزب الحركة القومية، الذي سرق 5% من أصوات حزب العدالة والتنمية في انتخابات يونيو 2015. ومن المفارقات أن عملية السلام لم تنجح في إرضاء الناخبين الأكراد أيضًا، حيث اعتبر الأكراد مبادرة حزب العدالة والتنمية وأردوغان على أنها «غير صادقة»، مما يعني أن عملية السلام الكردية كانت خسارة صافية لحزب العدالة والتنمية على الصعيدين السياسي والانتخابي.
محاولة الانقلاب في 2016
تمكنت حكومة حزب العدالة والتنمية من إحباط محاولة الانقلاب العسكري ضد حكومة العدالة والتنمية في يوليو/تموز 2016 من خلال تعبئة أنصارها من خلال المؤسسات القوية التي تسيطر عليها، مثل مديرية الشؤون الدينية Diyanet ووسائل الإعلام، بما في ذلك القوات شبه العسكرية الشخصية لأردوغان.
لكن محاولة الانقلاب أظهرت أيضًا ضعف قبضة الحكومة على الهيكل العسكري وزادت بشكل كبير من انعدام الأمن الوجودي فيها. حيث أدرك حزب العدالة والتنمية من الصدمات الخارجية السابقة أن هيمنته تنطوي على القضاء على أتباع غولن والحركة الكردية والمعارضة العلمانية.
ومن ثم، فقد اعترفت بمحاولة الانقلاب الفاشلة على أنها فرصة ذهبية، و«هدية من الله»، لاستبعاد خصومها من كل مجالات الحياة تقريبًا: الجيش والبيروقراطية والإعلام والمجتمع المدني والقضاء. بالإشارة إلى تهديدات الأمن القومي، سنت الحكومة «حالة الطوارئ» التي منحتها «سلطة إصدار المراسيم التنفيذية التي لها قوة القانون وتخضع لتدقيق ضئيل من قبل البرلمان أو المحاكم». بعد ذلك، استخدمت الحكومة هذه المراسيم لإغلاق المنظمات غير الحكومية المعارضة ووسائل الإعلام والمنظمات الأخرى بشكل دائم وفصل أكثر من 100000 موظف في القطاع العام.
وفي المجمل، يُظهر تطرف حزب العدالة والتنمية أن المشاركة في السياسة الانتخابية لا تعمل بالضرورة كقوة معتدلة ويمكن أن تصبح في الواقع قوة راديكالية، حيث يمكن أن تؤدي الهزيمة الانتخابية إلى التطرف إذا حاول حزب شديد الفساد تحقيق الهيمنة على المجالين الاجتماعي والسياسي، ويعتقد أن فقدان الهيمنة يشكل تهديدًا وجوديًا.