الاجتهادات الفقهية في القوة والإكراه والحرية
تتسمُ اجتهادات المذاهب الفقهية الإسلامية بشأن «الحرية» بالأصالة والعمق والشمول. فهي أصيلةٌ من حيث استنادها إلى المصادر العالية للتشريع (القرآن والسنة والإجماع والقياس). وهي عميقةٌ لأننا كلما قرأنا تفاصيلها ألفيناها تتغلغل في صميم تكوين الآدمي من داخله نفسيًا ووجدانيًا وعاطفيًا، ولا تقف عند المظاهر الخارجية. وهي شاملةٌ لأنها تستوعب الأبعاد المعنوية والأخلاقية والنفسية إلى جنبِ الأبعاد المادية الاجتماعية والاقتصادية والبيئية التي تحيط بالإنسان وتلك التي يعيش في سياقاتها المجتمعية المختلفة.
ورغم وضوحِ تلك السمات في أصول مسائل الحرية وفروعها في مدونات المذاهب الفقهية المتعددة -لمن يصبر على قراءتها- يوجِّه بعض سريعي النظر نقدًا مؤداه: أن الفقهَ الإسلامي انصرفت عنايته إلى معالجة موانع الحرية (كالرق)، أكثرَ مما انصرفتْ إلى تأصيلِ معانيها وبيان أنواعِها وفروعها، وفتحِ ذرائع توسيعها وتعميمها.
وظاهرُ القول في هذا النقدِ قد يكون له شيءٌ من الوجاهة والمنطق؛ حيث انصبت أغلب الاجتهادات الفقهية بالفعل على إزالةِ الموانع والتحذير منها، أكثر مما انصبت على التأصيل الفلسفي للحرية والدعوة إليها. ولكن تَرْوِيءَ النظرِ وإدامته في تلك الاجتهادات ووضعها في سياقاتها المعرفية والتاريخية والاجتماعية والسياسية، يكشف لنا عن أن هذا النهجَ الفقهي هو الأقرب للواقع، وهو الأنسب لموضوع «الحرية» تحديدًا. كما يكشف لنا أيضًا عن حقيقتين لا تخطئهما عين منصفٍ:
- أولاهما: أن الحرية في الإدراك الفقهي العام من مسائل الفطرة التي فطر الله الناس عليها، وما كان فطريًا فليسَ بحاجة إلى مزيد تأصيل أو تنظير وتقعيد من جهةِ الإيجاب؛ أما ما يحتاج إلى شيء من ذلك فهي الموانع التي تنتهكُ الحريةَ، أو تحول دون ممارستها، أو تحد منها، أو تفرغها من محتواها؛ ولهذا كانت هذه الموانعُ هي الشغلَ الشاغل للاجتهادات الفقهية، وهي التحدي الأهم مما سواه لدى مختلف المذاهب ومجتهديها.
- ثانيهما: أن مانعين اثنين حظيا بقدر كبير في الاجتهادات الفقهية، بأكثر مما سواهما من الموانع رغم كثرتها، وهما: مانعُ «الضعف»، ومانعُ «الإكراه». ولكل من هذين المانعين «باب» مستقل به في أغلب كتب الفقه؛ الأول باسم «العتق»، والثاني باسم «الإكراه». وهذان المانعان كانا ولا يزالان أخطر موانع الحرية وأشدها ضررًا على المستويات الفردية والجماعية في مختلف المجتمعات، ومنها مجتمعات أمتنا في حاضرها المعاصر، ويقف خلف كل من هذين المانعين: «طاغية»، أو مستبد، أو «ديكتاتور»، أو مظالم واختلالات بنيوية في العلاقات الاجتماعية.
كان «الرِّق» بصوره القديمة -ولا يزال بصوره المستحدثة- يمثلُ الضعف الإنساني والانكسار في أفْدح حالاته، كما كان الإكراهُ قديمًا -ولا يزال بصوره المستحدثة- يعبِّر عن الوجه الفظِّ لإساءة استخدام القوة لإذلال المستضعفين وإلغاء حرياتهم بمختلف أنواعها.
ولإزاحة مانع «الضعف» أمرت الشريعة أولًا بـ «العتق» لتخليص البشرية من عاره وأوضَارِه. واستنبط الفقهاء باجتهاداتهم ومطارحاتهم مترامية الجوانب: أنَّ «الحرية» هي المقصد الأساسي للعتقِ، وأن القوةَ معنويًا وماديًا هي شرط التمتع بالحرية، ولا حرية لضعيف أو مستضعف، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍ خير»، ولكن حسب ما لديه من قوة.
ولما كانت القوةُ تغري صاحبها بالتعدي على الغير، وكانت ولا تزال عند البشر مظنةَ إساءة الاستعمال؛ فإن فقهاءنا قد أوسعوا «الإكراه» -الذي هو أسوأ صور إساءة استعمال القوة في مواجهة الغير- بحثًا ودرسًا وتأصيلًا وتفريعًا وإدانة وإبطالًا للتصرفات التي تنتج عنه، وتوسعوا في شروحاتهم لإبطال «الإقرار» الذي ينتج عن الإكراه. ولا يزال كثيرون من أبناء مجتمعاتنا يعانون من عسف الطغاة الذين يجبرونهم بوسائل وحشية على الإقرار بأقوال وأفعال لم يقترفوها.
ولنرسل النظر في جوانب من الاجتهادات الفقهية بشأن هذين المانعين من موانع الحرية، ونبدأ ها هنا بمانع الضعف، ثم نعود بعد ذلك إلى النظر في اجتهاداتهم في مانع الإكراه، وفي مسألة «الإقرار».
جدلية الضعف والقوة والحرية
مما يدعو إلى الإعجاب في الاجتهادات الفقهية بشأن علاقة «القوة» بـ «الضعف» وموقعهما في مفهوم الحرية، أن قدماء الفقهاء قد تناولوها وهي قيد التطبيق في الواقع الاجتماعي والسياسي، ولم ينظروا إليها نظرة «سكونية»، ولم يعالجوها برؤية فلسفية معزولة أو محلقة في الخيال بعيدًا عن ذلك الواقع.
إن فقهاء المذاهب الأربعة -وغيرهم من فقهاء المذاهب الأخرى المعتبرة- قد استنبطوا من اجتهاداتهم أنَّ «الرق» هو أعلى مراحل الضعف الإنساني، وأن «القوةَ» هي صلبُ عمليةِ العتقِ من الرِّق، وقد بينا ذلك فيما سبق. والقوةُ التي قصدوها هي: «القوةُ الشرعية» التي تجعل المرءَ متمتعًا بحريةِ الأقوال والأعمال معًا، وتجعله قادرًا على التصرف بإرادته وبرضاه الكامل، وبها يكون مؤهلًا للولاية والشهادة والقضاء، ومتمكنًا من دفع تسلطِ الآخرين عليه، ومنعِ تحكمِهم فيه.
وهذه المفردات جميعها تندرجُ بكامِلها في مفهوم «التحرير»، و«الحرية» التي هي جزء لا يتجزأ من الفطرة التي فطر الله الناس عليها. وفي هذا المعنى صرَّح الكمال ابن الهمام الحنفي بقوله:
وأنا شخصيًا لم أجد مثل هذا النص، ولا قريبًا منه في كل ما قرأته هلى مدى ثلاثين عامًا متصلة منذ درست العلوم السياسية وقرأت كبريات كتب فلاسفة عصر الأنوار في أوروبا.
وقد لاحظت أن أغلبَ كبار فقهائنا يصوغون تعريفهم العتقَ/الحريةَ بطريقة «الحدِّ والرَّسم»؛ أي بالصفات الجوهرية، وبالعلامات المميزة، وهي طريقة تشبه ما نسميه -بلغتنا المعاصرة في مناهج البحث- «التعريف الإجرائي». والتعريف الإجرائي، يكشف عن المؤشرات الواقعية التي تقع في مرمى الملاحظة والقياس، بخلاف التعريف النظري، أو الاسمي، الذي عادة ما يتسم بالتجريد المعنوي، ويصعب على غير المتخصصين فهمُه، وهذا معناه أن أؤلئك الفقهاءَ قصدوا نشر المعرفة التي ينتجونها وإتاحتها على أوسع نطاق ممكن حتى ينتفع بها العام والخاص دون تمييز ودون احتكار أو ادعاء للعصمة، وهذا بحد ذاته تأسيس معرفي وإنساني للحرية.
الحنفية يعرفون الحريةَ أنها «قوةٌ حُكْميةٌ للذاتِ» -كما سلفَ القول- ومقتضاها هو «خروجُ الرقيق عن المِلك». بينما الشافعيةُ يقولون هي: إزالة الرق عن الآدمي. والأصل في الباب قوله تعالى «فك رقبة» [البلد:13]. [2]
والحنابلة يُعرِّفونها أنها «إزالة الرق عن الآدمي»، أو هي: «خلوص الرقبة من الرق». أمّا المالكية فيقولون إن الحرية هي: «خلوص الرقيق من الرق بالصيغة». [3]
والسمةُ المشتركة بين هذه الصياغات هي السمة العملية أو الإجرائية؛ إذ يمكنُ بأيسر نظر ترجمة القوة الحكمية للذات إلى مؤشرات قابلة للملاحظة والقياس مثل: قدرة الشخص على أن ينفرد بتقريرِ مصيره وتدبير شئونه، وقدرته على اتخاذ القرار من بين أكثر من بديل وأكثر من اختيار، وقدرته على صون ذاته وكرامته من الإهانة ومن سيطرة الغير، وهكذا.
لنْ أملَّ من العودة إلى مثال «العتق» الذي يستخف به قليلو المعرفة ويتطاولون من خلاله على أئمتنا وفقهائنا. وقد سبق التأكيد على أن الصفة الجوهرية في العتق هي «القوة»، وأن أهم علامات العتق المميزة هي: القدرة على التصرف، واستقلال الرأي، والخلوص من سيطرة الغير. وكل ما هنالك من اختلافات بين آراء المذاهب بشأن هذه العلامات إما أنها اختلافات لفظية وصياغية، أو أنها اختلافات في درجة التركيز على علامة منها دون أخرى.
فالحنفية يركزون على معنى القوة والقدرة على التصرف وغيرها من العلامات، بينما المالكية والشافعية والحنابلة يركزون بدرجة أكبر على التخلص من القيود، وقد انعكس هذا على التعريف الدقيق للحرية عند كل مذهب ما بين إثبات صفة موجبة، أو إزالة مانع أو التخلص من قيد سالب(4).
ومعنى ما سبقَ هو أن مفهوم الحرية في الإدراك الفقهي العام عند مختلف المذاهب له جوهر واحدٌ، رغم تعدد صياغات التعريف به.
لكن: هل القوة، التي هي جوهر الحرية، مطلوبة لذاتها؟ وهل هي مطلقة بلا ضوابط سواء عند الشخص الحر، أو عند الشخص الذي تخلص من العبودية؟ إن اجتهادات قدماء العلماء تؤكد في مجملها على أنهم قصدوا القوة لغيرها لا لذاتها، وأنهم وضعوا لها ضوابط تمنع انجرافها إلى الظلم، أو الطغيان، أو التكبر، أو أي تصرف يؤدي إلى نشوء علاقة قهر أو إكراه من طرف قوي، واستضعاف أو خنوع طرف ضعيف، وإلا لكان السعي إلى الحرية والتشوف لها بلا طائل.
تلك الأسئلة نضمها إلى ما تبقى من أسئلة وردت في نهاية المقال السابق (في إضاءات بتاريخ 28 يناير/كانون الثاني 2022) وحديثنا مستطرد في «فقه الحرية» للإجابة عليها في مقال لاحق إن شاء الله تعالى.
- الكمال بن الهمام (ت 861هـ)، فتح القدير، (بيروت: دار الفكر، د. ت)، ج4/ص430 وص431.
- انظر: الخطيب الشربيني الشافعي (977هـ)، مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج، (بيروت: دار الكتب العلمية،1415هـ/ 1994م) 6\445.
- انظر ولو مؤقتًا بشأن تلك التعريفات عند مختلف المذاهب: القرافي، العقد المنظوم في الخصوص والعموم، تحقيق علي محمد معوض، وعادل أحمد عبد الموجود، (بيروت: دار الكتب العلمية، د ت) ص186.