16 يونيو 1904 (1-3): اليوم اﻷطول في تاريخ اﻷدب
كان القرن العشرون برمته فترة محورية في تاريخ اﻷدب، حدثت من خلاله نقلة نوعية في فن الرواية بالذات، ليس فقط على صعيد الكم أو نوعية التيمات التي تعرض لها أدب القرن العشرين بكافة مدارسه، بل جاءت في اﻷساس من العدد الهائل من اﻷساليب الفنية وكم الإمكانيات الجديدة التي جرى اكتشافها في هذا الوسيط اﻷدبي والتي لم تكن فحسب غير مطروقة من قبل، بل لم يتخيل أحد من قبل أنها ممكنة أصلًا، شيء يشبه ما فعله جورج ميليه بالضبط مع فن السينما الذي كان لا يزال في سنواته اﻷولى، والفضل اﻷول في هذه النظرة الثورية لفن الرواية يعود للرجل الذي يعده الكثيرون حاليًا واضع حجر أساس الحداثة اﻷدبية في القرن العشرين، وهو الكاتب اﻷيرلندي جيمس جويس الذي غير للأبد كيفية نظرنا لفن الرواية كلية من خلال عمله الروائي الثاني «عوليس».
لقرابة المائة عام، ومنذ أن نشرت مسلسلة للمرة اﻷولى في مطبوعة The Little Review اﻷمريكية في عام 1918 وحتى يومنا الحاضر، تسبق هذه الرواية سمعة هائلة عن مدى صعوبتها وتعقيدها وتشابكها، وهى الشكوى التي يتوقف عندها الكثيرون: عامة ومثقفين، متحدثين باﻹنجليزية وغير متحدثين بها على حد سواء، حتى أننا سنجد من بين مثقفينا العرب من يشكو من صعوبتها الشديدة تلك، حيث أعلن الكاتب عزت القمحاوي مثلًا في «كتاب الغواية» دون خجل أنه فشل في استكمال قراءتها، ورأى بلال فضل في كتابه «في أحضان الكتب» أنه يمكن للحياة أن تستمر بدون قراءتها من وجهة نظره، وحتى اﻷديب التونسي حسونة المصباحي الذي يعد من مريدي جويس قد صرح في مقدمة ترجمته لحوارات جيمس جويس مع آرثر باور بأنها كانت «قلعة حصينة يلفها الغموض واﻷلغاز» عندما بدأ قراءتها وما ساعده على فهم ألغازها كانت محاضرة اﻷديب الروسي/ اﻷمريكي فلاديمير نابوكوف عنها ضمن كتابه «محاضرات عن اﻷدب».
في الحقيقة لا ألوم على اﻹطلاق كل من شكا من صعوبتها، بل إني أتفهم والتمس العذر تمامًا، فمفاتيح هذه الرواية ليست كثيرة فحسب، بل ومتناثرة وتحتاج في اﻷساس لأن يتجاوز أي قارئ معها طرائقه المعتادة في قراءة أي كتاب ليقرأها كما أراد جويس بالضبط، وأن يبذل معها مجهودًا إضافيًا ليس فقط في عملية قراءة الرواية نفسها، بل وفي عملية البحث حولها وفي إحالاتها الكثيرة وخلفياتها المتباينة.
لم تكن اﻷمور سلسة مع جويس فيما يتعلق بنشر أعماله على مدار حياته، وهذا الجانب بمفرده يشكل واحدة من بين جوانب عديدة جدًا ولازمة للاستعياب وللقدرة على الولوج إلى عوالمه اﻷدبية، فقد دخل الرجل لسنوات طويلة في صراعات طويلة المدى مع الناشرين والرقباء حتى يستطيع نشر أعماله، يكفي أن تعلم أن مجموعته القصصية «أهالي دبلن» التي أنهى مسودتها في عام 1905 قد استغرقت قرابة العشر سنوات لكي تبصر النور، وأرسل مخطوطتها طوال هذه المدة نحو 18 مرة لخمسة عشر ناشرًا، وقوبلت طوال هذه الفترة، إما بالرفض التام لنشرها أو الرغبة في إجراء تعديلات عليها أو حتى حرق المخطوطة نفسها، في إحدى المرات حتى نجح في نشرها أخيرًا مع الناشر جرانت ريتشاردز في عام 1914، ولم تكن روايته اﻷولى «صورة الفنان في شبابه» أوفر حظًا من سابقتها، خاصة بعد معاناته في البحث عن ناشر بريطاني يوافق على نشرها بعد أن نشرت مسلسلة في مطبوعة The Egoist، فساعده الشاعر عزرا باوند الذي كان من أقرب أصدقاء جويس على نشرها في الولايات المتحدة اﻷمريكية في عام 1916.
بالنسبة لـ«عوليس» فكانت القصة الأكثر تركيبًا، فقد استنزفت عملية كتابتها وحدها من جويس سبع سنوات (1914-1921)، ونشرت هى الأخرى مسلسلة كما ذكرنا مسبقًا في مطبوعة The Little Review في الولايات المتحدة اﻷمريكية، ثم وقعت أزمة كبرى عندما نشرت المطبوعة الفصل الثالث عشر من الرواية والمعروف بـ«نوسيكا» واعتبرت الرواية – وقتئذ – أنها تحض على المجون فتمت مصادرة المجلة، لكن جويس لم يتوقف عن مواصلة العمل على كتابة الرواية، لكنه لم ينشرها في أي بلد من البلدان الناطقة باﻹنجليزية، وإنما نشرها في فرنسا في 2 فبراير 1922 بالتزامن مع عيد ميلاده وبالتعاون مع الناشرة سيلفيا بيتش صاحبة مكتبة Shakespeare and Co. التي لا تزال قائمة حتى اليوم، لكنها ظلت ممنوعة من التداول في الولايات المتحدة اﻷمريكية والمملكة المتحدة حتى حلول حقبة الثلاثينات.
كانت هذه الاحتكاكات الدائمة مع الرقباء والناشرين ومن دار على شاكلتهم، وهذه الخلفية التاريخية العريضة من تعاملاته معهم – والتي استفضت في الحديث عنها حتى أضع القارئ في الصورة- والمشاكل التي لا تنتهي في المناورة معهم قد ألهمت جويس لاختيار طرق وعرة وشاقة وغير معتادة أو غير مستخدمة من قبل في السرد الحكائي في سبيل حماية حكايته بقدر المستطاع، وربما يكون هذا هو السبب في مرور روايته الثالثة واﻷخيرة «يقظة فينيجان» من تحت أيدي الرقابة دون أي ضرر ﻷن صعوباتها تفوق صعوبات «عوليس» بمراحل، حيث يصل فيها لمستوى غير مسبوق من التجريب السردي واللغوي في تاريخ اﻷدب لدرجة أنك لن تجد ناقدين يتفقان على تفسير واحد لأحداثها.
كما يعرف كل من قرأ الرواية أو من سمع عنها ويعرفها، فإن كافة أحداث الرواية تجري على مدار يوم واحد فقط وهو السادس عشر من يونيه من عام 1904 في حياة وكيل إعلانات في منتصف العمر يدعى ليوبولد بلوم في العاصمة اﻷيرلندية دبلن، ومن يراقب أحداث هذا اليوم على مدار الرواية سيكتشف أنه لا توجد أي أسباب موضوعية وراء اختيار هذا اليوم تحديدًا، حتى اﻷحداث البارزة التي يستعرضها جويس في ثنايا الرواية هى أحداث معتادة ويومية ﻷقصى درجة، لن تجد حدثًا كبيرًا يهز أرجاء دبلن بأكملها، أو تجربة مزلزلة في حياة سكانها، ليأتي السؤال من هنا: لماذا وقع اختيار جويس على هذا اليوم بالذات، ما المميز فيه على وجه الدقة؟ سيدرك من قرأ عن جويس وحياته أن الاختيار لم يأت أصلًا لسبب موضوعي كما كنا نظن، بل لسبب ذاتي جدًا في حياة جويس نفسه، فهذا اليوم يسجل في ذاكرته أول لقاء تم بينه وبين زوجته ورفيقة دربه المستقبلية نورا بارنكل، كان الرجل ينشد ما هو أكثر بكثير من مجرد حكاية تدور أحداثها في يوم واحد، كان هدفه أكبر، وهو أن يحتفل بهذا اليوم على طريقته الخاصة بأن يعيد تشييده من الذاكرة على الورق من جديد كوحدة متكاملة، بداية من جموع البشر الذين عاصروا هذا اليوم وحتى القطة التي كانت تموء طلبًا لطعامها من صاحبها في الصباح.
كان وقوع الاختيار على اليوم كوحدة زمنية في حد ذاتها يضرب على أكثر من وتر في الوقت ذاته، فهو من ناحية يجاري ويتناسب طرديًا مع الروح الجديدة للقرن العشرين مع بشائره وبداياته التي تطلبت بدورها آليات وخيارات فنية جديدة، والتي كان من بينها التكثيف الزمني الذي يسمح على نحو كبير بتركيز العناصر الحكائية ﻷقصى درجة في إطار يسمح برؤيتها مجتمعة على نحو أفضل مما كنا سنراها إذا امتد الزمن باﻷحداث كالمعتاد في السابق، فمع جويس نشهد على مدار هذا اليوم أصداء التاريخ الطويل ﻷيرلندا منعكسًا على صفحة مدينة دبلن وشوارعها وحوارات سكانها وأفكارهم المتزاحمة في رؤوسهم.
ومن ناحية أخرى، يغير هذا الاختيار تمامًا من انطباعاتنا المعتادة حول النزعة الملحمية التي اتسمت بها اﻷعمال اﻷدبية الكبرى، فكانت الملاحم الكبرى التي شهدها اﻷدب على مدار تاريخه الطويل تبني حسها الدرامي دومًا من صراعات الإنسان مع ثالوث (الطبيعة، القدر، البشر)، بينما تبني «عوليس» رؤيتها للصراع المشكل للحس الملحمي على مرتكزات أكثر بساطة بكثير من العهود البائدة، فبات هنا الصراع باﻷساس في مواجهة الذات نفسها أو في مواجهة المجتمع، وهي أنماط جديدة فتحت الباب على مصراعيه أمام الحداثة في اﻷدب وبالذات في فن الرواية الذي تطور أضعافًا مضاعفة في القرن العشرين عما سبقه من قرون، لكن هذه اﻷشكال الجديدة من الصراع لا تفلح معها المدارس اﻷدبية الكلاسيكية في توصيل روحها، مما تطلب حتمية التجاوز الكامل لها والبحث عن أساليب جديدة للتعبير عنها، وهو نفس الهدف الذي كان ينشده الشاعر اﻷمريكي ت. س. إليوت في قصيدته اﻷشهر «اﻷرض اليباب -أو الخراب» ذات الملحمية السرمدية أو اللانهائية في زمنها، والتي صدرت هي الأخرى في نفس عام صدور «عوليس»، مما دعا عددًا من النقاد للربط بينهما من حيث رؤاهما الجديدة والمعاصرة للحس الملحمي.
ضمن حواراته مع آرثر باور، يقول جيمس جويس: «الفكر هو الذي يتحكم في الوقائع، وليست الوقائع هي التي تتحكم في الفكر»، من هنا إذن تأتي نقطة البداية في التناول، جويس ببساطة يعكس المعادلة تمامًا، في العصور القديمة للأدب كان الحدث الخارجي هو أساس أي حكاية، وأن يتشكل هذا الحدث الخارجي خارج ذواتنا أو نشارك في صنعها، لكن بالنسبة لجويس لم يكن اﻷمر بسيطًا كما يبدو هكذا، فهذا الحدث الخارجي الذي نراه أمامنا مهما كان حجمه وأثره لا ينبني فقط على سلسلة سابقة من اﻷحداث سائرة بشكل دائم بمبدأ السبب والنتيجة، هذا الحدث الخارجي قد سبقته عمليات عقلية وشعورية تخرج في هيئة عواطف وانفعالات وخواطر وأفكار، ويظهر من هنا تحد جديد بالكلية، وهو كيفية التعبير الفني عن هذه العمليات العقلية والشعورية مع كل تعقيداتها وتداخلاتها وذاتيتها، وترجمتها بالتالي إلى لغة اﻷدب.
هذه هي باﻷساس الروح المحركة لفكرة (تيار الوعي) التي باتت مع هذه الرواية فكرة فائقة الثورية في اﻷدب وفي رؤيتنا للعالم، فتيار الوعي يقوم باﻷساس على محاكاة اﻵلية التي يعمل بها العقل البشري، متابعًا خط سير أية فكرة تأتي إليه، وأي مؤثر خارجي قام بتحفيز هذه الفكرة وأثارها في الذهن، وما المسارات التي اتخذها باطنيًا، وما اﻷفكار والمشاعر اﻷخرى التي أثارها ونبهها في طريقه، وهل أدت إلى نشوء حدث خارجي في النهاية أم باتت فقط فكرة مكتومة ودائرة في فلك العقل، كمثل سلاسل اﻷفكار التي تثار في عقل ليوبولد بلوم تباعًا على مدار الفصل الرابع بأكمله ونتابعها منذ تفكيره في اﻹفطار وحتى شروعه في مغادرة المنزل بادئًا رحلته الطويلة؟