ثورة يوليو والمسألة الديمقراطية في مصر
يسهل التأريخ للحالة السياسية فى مصر قبل قيام ثورة يوليو، وبالتحديد التأريخ للديموقراطية المصرية منذ بدأت المطالبة بها على يد «عرابي» وحتى إلغاء الأحزاب عند قيام الثورة، لكنّ تأريخًا لا يعدو رصد الوقائع التي جرت خلال هذه المدة لن يكفي لفهم ماحدث بعد ذلك.
لا بد إذن من التأريخ للأفكار والمنطلقات الأساسية التي حملتها الحركة الوطنية خلال هذه الفترة، وهذا تحديدًا ما حاوله المستشار «طارق البشري» في كتابه «الديموقراطية ونظام 23 يوليو»، فهو كتاب يرصد ويؤرّخ للساحة السياسية المصرية قبل وأثناء حكم نظام يوليو، واضعًا بالقلب من تحليله سؤال الديموقراطية.
مسبّبات ثورة يوليو وسياقها التاريخي
نشأت المطالبة بقيام حياة ديموقراطية نيابية في مصر تزامنًا مع تقدّم بوارج الاحتلال الإنجليزى منها، فكان الكفاح لأجل كتابة دستور مصري وقيام برلمان مصري مختلطًا بالمطالبة بتحقيق الاستقلال الوطني، بل ومكتسبًا شرعيته من هذه المطالبة، لكن في إطار أساليب المقاومة السلمية المشروعة التي هى تحديدًا «المفاوضات»، وهي التي كرّست ثورة 1919 أهميتها، وتحمّل «الوفد» المهمة.
فالإطار الناظم للمشهد الديموقراطي خلال سنوات ما قبل الحرب العالمية الثانية هو سلطة شرعية للملك «يملك ولا يحكم، غير أنه يملك حل البرلمان»، وبرلمان يحكم ويعيّن الوزارات، استأثر الوفد بأغلبيتهما سوى في مواضع نازعته فيها قوى سياسية أخرى أقل شعبية لكنها تصارع في حمى الملك، واحتلال فاعل بسلطته على الأرض ومهمة الحكومة الأولى هي مفاوضته على الجلاء.
كان ذلك قبل معاهدة 1936 التي بدأت بزعزعة شعبية الوفد، وقبل نهاية الحرب العاليمة الثانية التي هبّت رياحها على مصر هبوبًا عنيفًا عصف بالمشهد السياسي. فشرعية المقاومة والمشاركة السياسية لم تعد قاصرة على الأحزاب الكلاسيكية وآلية التفاوض والمعارضة تحت قبة البرلمان.
فمع التغيرات الأيديولوجية التي أتت بها الحرب العالمية، كانت هنالك تغيرات في المشهد السياسي. فبجانب الأحزاب الكلاسيكية (الوفد، والأحرار الدستوريين) توجد حركات شعبية تجد في العمل الحر خارج الأطر الديموقراطية سبيلها؛ «الإخوان المسلمين» تتسع شعبيتهم، و«مصر الفتاة» كذلك، والحركات الشيوعية تعمل عملها في الوسط الشبابي.
تجلّت هذه النقلة في انتخابات عام 1950 التي شهدت عزوف 50% ممن لهم حق التصويت عن الإدلاء بأصواتهم، وتعالت الأصوات في الشارع مطالبةً بديكتاتور منقذ.
كان هنالك تحول آخر في هذا المشهد الزخِم من انتخابات تلو انتخابات، وحكومات تطيح بحكومات، ومفاوضات تفشل أو تفضي إلى معاهدات ووفاق. فالمشهد كان سابقًا يحكمه إطار أيديولجي محدّد؛ بدأ أول الأمر إسلاميًا أمميًا عامًا. فمصر في خطابات «مصطفى كامل» هي وحدة سياسية مرتبطة بأمة إسلامية، ومرجعيتها الشريعة الإسلامية، ومطالباتها بالجلاء والديموقراطية ضمن مطالبات الإصلاح التي تغمر العالم الإسلامي.
ثم كانت مصر كما بدت في خطاب الوفد عقب ثورة 1919 هي الوحدة السياسية المستقلة، والأمة هي أمة القطر المصرى، وقضيتها هي جلاء المحتلّ عن أرضها، ومرجعيتها هي المرجعية العلمانية.
أما مصر التي تظهر فى الخطابات السياسية المختلفة بعد الحرب العالمية الثانية فلها أطر أيديولوجية مختلفة منبثقة عن أصول متباينة، فهناك مصر ذات المرجعية الإسلامية وحاكمية الشريعة التي يعرفها الإخوان المسلمون، ويعزّز وجودهم نكبة فلسطين التي أضفت جانبًا أمميًا على أي حركة مقاومة متوقعة، وهناك مصر ذات الإطار الشيوعي الذي انبثق عن انتعاش الثورات الشيوعية عالميًا وقيام الإتحاد السوفيتي، وهناك مصر العلمانية الليبرالية الكلاسيكية التي يعرفها الوفد والأحزاب الكلاسيكية.
نشأة مسألة العسكر
طوال هذه الفترة من المقاومة السلمية «المشروعة» التي قادها الوفد والأحزاب الليبرالية، كان تأسيس أو تقوية الجيش مسألة غير واردة، فلا حاجة له في مشهد تقوده المفاوضات، إلى أن كانت الحرب العالمية الثانية وحاجة إنجلترا لاستخدام الجند المصريين في صراعها العالمي، ثم كانت حرب فلسطين 1948 التي شاركت فيها قوات من الجيش المصري.
هنا، بدأ الحديث عن الممكنات العسكرية لمصر، فالشارع كفَرَ بالمفاوضات السلمية التي لم تسمنه من جوع، ووجود قوى صهيونية في المنطقة يدعو إلى ضرورة وجود قوة عسكرية بمصر. كل هذا والجيش خارج الإطار السياسي، حتى انفلت زمام الأمور بحريق القاهرة 1952.
كانت نشأة الضباط الأحرار كتنظيم سياسى نشأة غير متجانسة فكريًا، فالضباط الأحرار كانوا ضمن جموع من كفروا بقدرة الديموقراطية الوفدية على تحقيق الجلاء، لكنّ الفارق أن الضباط الأحرار هو أول تنظيم يشتغل بالسياسة من داخل أجهزة الدولة.
ولما كانت أهدافه المعلنة مشتركة بين كافة الجماعات السياسية بخلاف الأحزاب، كتحقيق الجلاء وإقامة حياة ديموقراطية نيابية سليمة، وضمان العدالة الاجتماعية، كانت فرصة انضمام الأعضاء للحركة بغض النظر عن خلفياتهم الأيديولوجية فكرة مقبولة، فهناك من أتى من خلفية شيوعية، وهناك من أتى من مصر الفتاة، وهناك من تواصل بشكل مباشر مع الإخوان المسلمين، بل إن جمال عبد الناصر نفسه كان ضمن أسرة إخوانية.
لقد كان هذا تحوّلا خطيرًا في المشهد، فكما يلاحظ البشري، هنالك «فرق بين أن يتأثر ضباط ببعض من تيارات السياسة وأحزابها العامة في المجتمع وينضموا إليها، وبين أن تتولد داخل المؤسسة في إطارها التنظيمي الحاكم، حركة سياسية مخالفة للتوجه السياسي للدولة وأهدافها الاستراتيجية» (ص50).
كانت الظروف المحيطة بقيام حركة الضباط الأحرار تُسيّرها في طريق قبولها قيادة فردية، فانضمام الأعضاء اعتمد على العلاقات الشخصية، ونظام اتخاذ القرارات بصورة ودية، والحاجة إلى القطع والقول الفصل ملحّة في إطار مؤسّسين من خلفيات عسكرية وفي ظروف صعبة وعمل تتربص به الدولة، وفردانية عبد الناصر في إتخاذ القرارات بدأت منذ اليوم الأول، حتى أنه نظّم لعملية اغتيال سياسية وحده دون مشورة أحد.
واعتماد الضباط الأحرار في انقلابهم على سمات العسكرية كان أساسيًا، وعلى الرغم من أن وجودهم داخل الجيش كان محدودا بخلاف ما نظن، إلا أن محاولة ضم قيادات ورتب عالية ساعدتهم في تحريك ألوية بكاملها ليلة الانقلاب.
الأزمة الديموقراطية والحركة المباركة
بعد إسقاط الملكية، بدأ مجلس القيادة يضطرب في قراراته فيما يخص تسيير الحياة السياسية، فالمجلس مكوّن من خلفيات فكرية مختلفة، والوصول لحل فاصل ليس يسيرًا. في الأشهر الستة الأولى، مثّل عبد الناصر الجبهة المدافعة عن الدستور والديموقراطية والإبقاء على الحياة الحزبية داخل مجلس قيادة الثورة، في مقابل دعوة أخرى إلى حلّ الأحزاب وتعطيل الحياة النيابية.
لكنّ دستور ١٩٢٣ لم يكن ليصمد وهو المبني في أساسه على ملكية الملك وقيام نظام برلماني، وكان الظرف السياسي تخطّى هذه المرحلة وبدت العودة إلى الديموقراطية الوفدية مستحيلة. فمن بين قرارات المجلس بعد أشهر قليلة: حل الأحزاب، وتأسيس لجنة لوضع الدستور الجديد، ومنع قيادات حزبية بعينها من العمل العام. وكانت إحد الآفات العظمى التي رصدها البشرى جرّاء عملية جمع وتوحيد السلطة بيد الرئيس وأجهزة الدولة الإدارية هي إثقال هذه الأجهزة بواجب رسم السياسات والتشريع لها.
إن هذه القراءة تحاول أن تضع تمييزًا بين توثين الديموقراطية باعتبارها سبيل تخلص المجتمعات من أزماتها، وبين كونها نظامًا سياسيًا يكتسب شرعيته بمقدار ما يحقق من أهداف ومنافع للدولة. هذا ما أكسب الدراسة نوع ثبات ومحايدة محمودة فى إطار محاكمته للنظام الناصرى وما أتخذ من قرارات وموقفه من الديموقراطية.