في عام 2005 أعلن الاتحاد الألماني لكرة القدم عن إطلاقه لجائزة جديدة قبيل انطلاق المونديال تحت اسم «جائزة يوليوس هيرش للتسامح»، ليس اسمًا شائعًا بكل تأكيد، ويكاد يكون منسيًا في صفحات التاريخ الكروي الألماني قبل هذا التاريخ رغم تمثيله للمنتخب في العديد من المناسبات، لكن من هو يوليوس هيرش؟ ولماذا قرر الاتحاد الألماني استعادة ذكراه بعد عشرات السنوات من رحيله؟ ولماذا تم تقديمه كرمز للتسامح؟


من رحم المعاناة

ولد يوليوس هيرش عام 1892 لعائلة ألمانية من الديانة اليهودية، لأب يدعى «بيرتهولد» يعمل في تجارة القماش والسلع النسيجية. كانت أمه تدعى «إيما» وتعمل في صناعة القبعات. كان والداه من الطبقة الراقية لمجتمع مدينة كارلسروه، فوالدته درست في باريس قبل العودة إلى ألمانيا، ووالده من المحاربين القدامى الذين شاركوا في الحرب الفرانكو-بروسية، والتي أدت إلى تشكل إمبراطورية ألمانيا الموحدة.

كان يوليوس الابن الأصغر بين 7 أطفال ولدتهم إيما بعد 14 حملًا فشلت في إكمال نصفهم. قبل ولادته بفترة تم تشخيص إصابة والدته بمرض عقلي «الخرف» أدخلت على إثره إلى مشفى الأمراض العقلية في كارلسروه، ربما خوفًا من فقدان ولد جنين جديد بعد فقدانها لـ6 أجنة سابقًا. أنجبت إيما ولدها الأخير في المشفى وتعافت لاحقًا بعدة سنوات لتعود إلى منزل العائلة لتعتني بولدها الأخير.


شغف مبكر

في حين كان يوليوس لا يزال طالبًا انضم إلى نادي المدينة عام 1902 وهو في سن العاشرة، كان نادي كارلسروه من أفضل الأندية الألمانية آنذاك، حيث حصل على لقب بطولة أندية الجنوب لخمسة أعوام متتالية بين عامي 1901-1905. أثبت هيرش موهبته على الفور ضمن فئة الصغار، فسرعته الكبيرة وقدمه اليسرى كان لهما الأثر الأكبر في تمييزه عن بقية أقرانه من الأطفال.

اللاعب يوليوس هيرش مع فريق كارلسروه الألماني. هيرش هو ثاني لاعب يجلس على الأرض من ناحية اليمين.

وحين بلغ 17 عامًا حصل هيرش على فرصته لإثبات نفسه في تمثيل الفريق الأول، وبالفعل قدم الشاب اليهودي مباراة جيدة وسجل فيها هدفًا ضد فرايبورج، وحجز لنفسه مقعدًا دائمًا ضمن الفريق الأول. شكل هيرش مع زميله غوتفيرد فوكس ثنائيًا هجوميًا مميزًا مَكّن كارلسروه من تحقيق لقبين متتالين في دوري المقاطعات الجنوبي الألماني، وفي عام 1912 تم استدعاء كل من هيرش وزميله فوكس للمنتخب الألماني ليكونا أول ألمانيين من أصل يهودي يمثلان المنتخب.


العسكر عائق أمام الحلم

الدعوة للمنتخب تمت بعد شهر واحد من التحاقه بالجيش الألماني كمتطوع في فوج المشاة، كان هناك بعض التشاؤم من ناحيته في البداية، لأن الحالات السابقة للاعبين آخرين تم رفضها من قبل الجيش ولم يسمح لهم بترك المعسكرات التابعة للجيش للالتحاق بمعسكرات المنتخبات الكروية، لكن نجح هيرش وممثلو المنتخب بإقناع المسئولين في الجيش من أجل السماح له بالمشاركة في الألعاب الأولمبية بصحبة المنتخب. غادرت بعثة المنتخب الأراضي الألمانية في الـ26 من يونيو/حزيران، وكان هيرش الأصغر سنًا بين جميع أفراد المنتخب، كانت تجربة مختلفة له وخاصة بعد السماح له بترك فوج المشاة، فالتفاؤل والبسمة كانت لا تفارق محياه.

في البزات الرسمية الجديدة كنا نبدو كالملائكة، لا يمكن نسيان تلك الرحلة، كانت أشبه بالحلم من خلال استكشاف مدينة استوكهولم

يوليوس هيرش في مذكراته عن مشاركته في دورة الألعاب الأولمبية مع منتخب بلاده.

لم يشارك هيرش في المواجهتين اللتين خاضهما المنتخب أمام النمسا وروسيا، لكنه شارك في المواجهة الأخيرة أمام المجر، والتي تعرض فيها المنتخب لهزيمة أدت إلى خروجه مبكرًا من البطولة، لكن لم يفوت هيرش الفرصة للاستمتاع من خلال متابعة بعض المنافسات الأخرى، والتمتع ببعض الأماكن الحضارية في استوكهولم التي تتميز بطراز عمراني مختلف عن دولته ألمانيا.


ليالي الحب والحرب

بعد انتهائه من تأدية خدمته العسكرية، والتي دامت لعام واحد، انتقل هيرش إلى نادي فيورث، وهناك تعرف على فتاة مسيحية تدعى إلين هاوزر، وقعا في حب بعضهما البعض واتفقا على الزواج، وليتمكن مع فريقه فيورث من تحقيق لقب دوري المقاطعات، ليصبح أول لاعب ألماني يحقق اللقب مع ناديين مختلفين.

يوليوس هيرش

لم يكد الموسم ينتهي إلا وكانت الحرب العالمية الأولى قد دقت طبولها، لتستدعي معها الجميع بما فيهم هيرش،التحق يوليوس مجددًا بالجيش ولبى النداء كما فعل أبوه سابقًا في الحرب. حارب النقيب يوليوس هيرش في جبهات مختلفة ونجا من الموت في عدة مرات، ليتمكن من العودة سالمًا إلى منزله بعد نهاية الحرب بأربعة أعوام ويتم منحه وسام الصليب الحديدي من الدرجة الثانية هو وأشقاؤه ماكس ورودولف.

بعد الحرب عاد يوليوس إلى مسقط رأسه للعب من جديد في ناديه الأم، وفي الوقت ذاته عمل في مصنع والده الذي كان ينتج البدلات العسكرية والمستلزمات الأخرى للجيش والشرطة. كارلسروه لم يتمكن من استعادة الأمجاد السابقة، واستمر يوليوس باللعب معه رغم تثاقل خطواته وتساقط شعره، وينهي مسيرته الكروية كلاعب عند اعتزاله في نهاية عام 1925.


مرارة الخيانة

بعد اعتزاله عمل هيرش في مصنع والده كمسئول عن الحسابات التجارية بحكم دراسته في صغره بمدرسة التجارة، واستمر الأمر على ما هو عليه حتى حلول الأزمة الاقتصادية العالمية، والتي أجبرته على البحث عن عمل مختلف، وكان له ما يريد عندما حصل على وظيفة في أحد الأندية الرياضية في كارلسروه. لكن سرعان ما تغير الحال في الـ 30 من يناير/كانون الثاني من عام 1933، ليس لهيرش وحده، بل لكل اليهود في ألمانيا، أدولف هيتلر زعيم لألمانيا، كان منعطفًا تاريخيًا لليهود يشبه إلى حد ما انحناءات الصليب المعقوف الذي كان شعارًا للنازية.

بعد بضعة أشهر من تنصيب هتلر زعيمًا لألمانيا، افتتح هيرش يومه بقراءة جريدة سبورت بريشت شتوتجارت وهو يشرب فنجان قهوته الصباحي، ربما كانت الكلمات التي قرأها أشد مرارة من طعم القهوة التي يرتشفها، الاتحاد الألماني لكرة القدم واستجابة لرغبة النازيين قرر طرد اليهود من الأندية الرياضية بما فيها ناديه كارلسروه، ليس صعبًا على أي أحد تخيل ردات فعل وجه يوليوس وهو يقرأ هذه الكلمات بعدما كان لاعبًا للنادي منذ عام 1902، وبعد تمثيله للمنتخب في عدة مناسبات، ودفاعه عن ألمانيا خلال الحرب العالمية. وعلى إثر ذلك أرسل هيرش رسالة إلى ناديه الأم.

سادتي الأعزاء، قرأت اليوم في سبورت بريشت شتوتجارت أن الأندية الكبرى، بما في ذلك كارلسروه، اتخذت قرارًا بالاستغناء عن أعضائها اليهود، لكنني يجب أن أنوه بأن هناك شعبًا كريمًا، ربما أكثر كرمًا من أولئك أصحاب الفكر الوطني. ولسوء الحظ، لا بد لي الآن أن أحرك قلبي من المكان الذي ينتمي إليه منذ عام 1902.
يوليوس هيرش في رسالته إلى نادي كارلسروه.

رحلة اليأس

حاول العديد من اليهود الابتعاد عن الخطر المحدق بهم قدر الإمكان، سواء بالتخفي أو الهروب خارج البلاد، كما غوتفيرد فوكس زميله في كارلسروه، والذي تمكن من الهروب مع عائلته إلى إنجلترا ومنها إلى كندا، ويغير اسمه هناك إلى جوديفري فوكس. رفض يوليوس تلك الفكرة في البداية. لكنه اضطر في النهاية للسفر إلى سويسرا بدون عائلته، وهناك بدأ البحث عن عمل في مجال التدريب الكروي لكن دون أن يلقى ردودًا إيجابية، فاضطر للبحث عن العمل في مجالات مختلفة، منها صباغة الأقمشة وصناعة الورق.

يوليوس هيرش وزوجته إلين

وبعد فشله في إيجاد مصدر رزق جيد سافر إلى باريس للبحث عن عمل ما. لكن هناك ازداد الوضع سوءًا وعانى من البطالة لعدة أشهر. قرر هيرش العودة إلى ألمانيا بسبب فشله في الحصول على مصدر يقتات منه، وبسبب انشغال فكره بمصير عائلته واليهود عمومًا في ألمانيا. فبعد اغتيال أحد الدبلوماسيين النازيين على يد أحد المراهقين اليهود الفرنسيين، شكلت هذه الحادثة ذريعة جيدة للنازيين للبدء بأعمال عنف ضد اليهود في دور العبادة والمحلات التجارية في جميع أنحاء ألمانيا، وهو ما عرف آنذاك بليلة الكريستال، أو Kristallnacht. غادر القطار من باريس متجهًا إلى ألمانيا، وصل القطار إلى كارلسروه، لكن لم يصل هيرش!


من رحم المعاناة وإليها

يوليوس هيرش وعائلته

مر شهر من الزمن وعائلته لا تدري عنه شيء، لكن في ديسمبر/كانون الأول وصل خبر إلى زوجته من قبل النازيين أنه موجود في مشفى الطب النفسي في إحدى المدن الفرنسية، وأنه يعاني من اكتئاب شديد، فلقد كان يعتقد أن زوجته وطفليه قد فارقوا الحياة، وحاول إلقاء نفسه من القطار خلال الرحلة التي استقلها للعودة إلى ألمانيا.

هيرش فضل الموت بدلًا من العيش بلا عائلة. بعد عدة أشهر في المشفى، عاد هيرش إلى كارلسروه. اتفق يوليوس وزوجته بعد بضع سنوات على الانفصال لحماية طفليه من الاضطهاد، انفصل يوليوس وإلين وتم تعميدهما وتحولا إلى الديانة المسيحية في عام 1942، واستعادت إلين لقبها القديم هاوزر بدلًا من هيرش.

بعد عدة أشهر تم تعيين يوليوس في بلدية كارلسروه بشكل إجباري من أجل تنظيف الشوارع من القمامة في أطراف المدينة. وفي أوائل عام 1943 تم ترحيله من قبل الشرط السرية الألمانية إلى أحد معسكرات تجميع اليهود التي تعرف بمعسكرات الموت، جنبًا إلى جنب مع 1500 شخص آخر. كانت آخر الدلالات التي قالت إنه مازال على قيد الحياة هي بطاقة بريدية تم إرسالها من دورتموند في الثالث من مارس/آذار هنأ فيها ابنته بعيد ميلادها.

ولم يُعرف التاريخ الدقيق لوفاته حتى عام 1950، وعندما صدر تصريح من قبل محكمة مقاطعة كارلسروه أعلن فيه وفاته بتاريخ 8 مايو/آيار 1943. وفي الوقت نفسه صدر قرار بتعويض عائلته بمبلغ 3450 ماركًا ألمانيًا. بعد الحرب، غيرت إلين هاوزر لقبها مرة أخرى إلى إلين هيرش. وتوفيت في الأول من مارس/آذار عام 1966 بعد 23 عامًا من مقتل زوجها.

يوليوس هيرش(الصورة السفلية) – أندرياس هيرش (حفيد يوليوس وأحد الحكام المسوؤلين عن منح الجائزة)

غاب اسم يوليوس هيرش وكان طي النسيان حتى تذكره الاتحاد الألماني في عام 2005 في أول مناسبة بعد مدة قاربت الـ60 عامًا، وتم إطلاق جائزة سنوية باسمه تمنح من أجل حرمة الكرامة الإنسانية، وللأشخاص الذين يعارضون استعباد الناس، ولتعزيز التنوع في مواجهة التمييز وكراهية الأجانب.