يوليان ناجلزمان: الطفل الذي رفض جوارديولا وهزم مورينيو
ربما تظن أن هذه العبارات لمدرب في الخمسين من عمره، يقدم لك عصارة خبرته بعد أن قضى ثلاثين عامًا في ممارسة كرة القدم لاعبًا ومدربًا، وهو يؤكد تفضيله لمهنته الحالية بشيء من الحكمة والرزانة.
حسنًا، هذا مقال يعج بالمفاجآت، والمفاجأة الأولى أن صاحب هذه الكلمات قالها وسنه لا يزيد عن السادسة والعشرين، ليصبح فيما بعد أصغر مدرب عرفه تاريخ كرة القدم.
اسمه يوليان ناجلزمان، وهو يقود أكثر التجارب المثيرة في البوندسليجا رفقة نادي لايبزيج مزاحمًا بايرن ميونيخ على عرش ألمانيا. فكيف لشاب صغير أن يصعد بتلك السرعة لمقدمة الكرة الأوروبية؟ سنحكي لك حالًا.
كابوس 2007
البداية لم تكن وردية أبدًا، بل كانت أقرب ما يكون لكابوس فظيع. بدأ كل شيء حين تعرض ناشئ فريق ميونخ 1870 لإصابة قوية بالركبة، اضطرته للتخلي عن حلمه بأن يصبح لاعب كرة قدم محترف وهو في عامه العشرين فقط. لم يكن ذلك أسوأ ما تعرض له يوليان في 2007، فقد ودع أباه بعد أسابيع بسيطة من توديعه الفريق.
لملم الصغير شتات نفسه، فلم يجد أمامه سوى الالتحاق بالجامعة، ودراسة إدارة الأعمال كما أحب والده. وهناك لم يدخر يوليان أي جهد، وأخذ يلفت انتباه أساتذته، للدرجة التي دفعت أحدهم لترشيحه للتدريب في شركة BMW العالمية. لم يذهب ناجلزمان لإجراء المقابلة أبدًا، لماذا؟ لأنه كان على موعد مع توماس توخيل.
نعم هو مدرب باريس سان جيرمان الحالي، كان حينذاك مدربًا مغمورًا في نادي أوجسبورج، ولم يحب أن تذهب موهبة يوليان التي يعرفها هباءً. استدعاه إلى النادي، ثم عرض عليه الوظيفة التي ستقلب حياته رأسًا على عقب، وهو العمل بدوام جزئي كمحلل أداء في الفريق الرديف.
طبعًا كانت تلك هي الفرصة الأنسب له؛ فهي لن تجبره على ترك الجامعة، كما ستوفر له دخلًا ماليًا لا بأس به، والأهم من كل ذلك أنها ستعيده مرة أخرى لكرة القدم. انتهى الكابوس.
كارير شيفت
لم يخيّب الصغير ظن توماس توخيل فيه، بل أنه فاق حتى توقعاته، للدرجة التي دفعته لترشيحه لوظيفة أخرى، كانت تلك هي العمل كمدرب مساعد لفريق ميونخ 1870 تحت 17 عامًا. فجأة وبدون حسابات وجد يوليان نفسه يقف بجانب مدربه السابق، لا ليستمع لتعليماته بل ليشاركه في اتخاذ القرارات وقيادة الفريق.
هذا الذي تعرض له ناجلزمان بين عشية وضحاها يسميه الأمريكيون: عام الرولر كوستر، حيث ينتقل بسرعة وحدة من حال إلى حال. وهذا اضطره لتحويل دراسته نحو العلوم الرياضية، وشرع في دراسة كل شيء يتعلق بالتشريح وعلم النفس الرياضي ولكن طبعًا برغبة ودافع أكبر. أمثال يوليان لا يفوتون الفرصة بعد أن أتت أمامه على طبق من ذهب.
أما الذهب نفسه فلم يأتِ إلا في سينسهايم، وهي مدينة تقع في الجنوب الألماني، لم يشد الصغير الرحال إليها إلا عام 2010 بعد أن صنع لنفسه اسمًا في فرق الناشئين بميونيخ. رن هاتفه، ليجد مليارديرًا على الخط اسمه ديتمار هوب، يعرض على ابن الثالثة والعشرين فرصة سيتحول خلالها من خانة المساعد لخانة المدرب.
الآن دعني أعرفك على ديتمار، هو صاحب شركة SAP المختصة في معالجة البيانات، وهو أيضًا مالك نادي هوفنهايم الذي يشجعه بشدة منذ شبابه. يمتلك هوب مشروعًا جديرًا بالإعجاب استهدف الصعود بالفريق سريعًا من الدرجات الدنيا للبوندسليجا، ويقوم ذلك المشروع على بناء قواعد ناشئين قوية والاعتماد على أسلوب لعب موحد فيما بينها. وقد رأى في يوليان مستقبل هوفنهايم.
موسم واحد كان كافيًا له ليفهم طبيعة عمل النادي، ويحصل على لقبه الجديد بين اللاعبين: مورينيو الطفل، وينال فرصة قيادة لاعبين يصغرونه بسبعة أعوام فقط، وهو فريق تحت 17 عامًا. موسم ثانٍ، وكان ناجلزمان يحتفل مع أقرانهم في فريق الشباب بالتتويج ببطولة الدوري.
ربما تتخيل نفسك تعيش قصة يوليان؛ تنهي يومك المرهق في الكلية، ثم تحشر نفسك في أقرب وسيلة مواصلات، تهرب من زحام القاهرة لتصل لبوابة ناديك المفضل، تخلع ملابسك شبه الرسمية ثم ترتدي زيًا رياضيًا كاملًا، تحمل في يدك ورقة بالتعليمات الجديدة وفي رأسك أفكارًا تكتيكية التقطها من مشاهدة جولات ليفربول ومانشستر سيتي، وستبدأ لتوّك في تدريب لاعبيك عليها. يا له من حلم جميل عاشه ناجلزمان!
عشاء مع جوارديولا
كل ما فات ربما يدفعنا للحقد على يوليان، لكن صدقني القادم سيكون أكثر دهشة، هل أنت مستعد؟ حسنًا، أولًا ينبغي أن تعرف أن صاحبنا بات له حضور داخل طاقم الفريق الأول لهوفنهايم قبل أن يتم عامه السابع والعشرين. طبعًا هذا ليس كل شيء.
ذات يوم رن هاتفه، لم يكن على الخط إلا صوت مألوف في الكرة الألمانية، إنه السيد كارل رومنيجه: الرئيس التنفيذي لبايرن ميونيخ، يريد تحديد موعد للقاء ناجلزمان في أقرب فرصة داخل النادي البافاري، وافق الصغير على الفور.
هناك لم يكن رومينجه فقط من ينتظره، بل أيضًا ماتياس زامر المدير الرياضي ذائع الصيت، وكان ينقصهما شخص آخر ليكتمل الثالوث الأقوى في بايرن. بعد دقائق وصل ذلك الأخير ليصافح يوليان بحرارة ويعتذر له عن التأخير، إنه بيب جوارديولا.
شرع الثلاثة في الإشادة بما حققه الضيف مع ناشئي هوفنهايم، ثم قدموا له عرضًا يصعب رفضه، وهو عقد لتدريب فريق تحت 23 سنة والعمل تحت قيادة أحد أفضل مدربي العالم. المفاجأة أن يوليان لم يطلب مهلة للتفكير، شكرهم على الدعوة والعشاء الطيب، ثم رفض الدعوة المغرية.
هو ليس مجنونًا ليرفض بايرن بدون أسباب، بل كان في جعبته وعد بأن يصبح الرجل الأول في هوفنهايم قريبًا جدًا. كان الموعد المتفق عليه هو موسم 2016/2017، لكن القدر تدخّل ليمنحه الفرصة مطلع عام 2016 بعد أن تعرض مدرب الفريق لأزمة قلبية. بات ناجلزمان ليلته يحمل لقب المدرب الأصغر بتاريخ البوندسليجا، وهو في الثامنة والعشرين فقط.
جدول ناجلزمان
مرة أخرى، البداية لم تكن وردية أبدًا، وسرعان ما أدرك المدرب الجديد صعوبة مسئوليته، فهي تقوم على إنقاذ الفريق من الهبوط، وسط تشكيك من الصحافة في إمكانياته واتهام إدارة النادي بافتعال حيلة تسويقية للفت الانتباه من وراء تعيينه، لكن تلك العناوين الصحفية لم تدفعه إلى الوراء خطوة واحدة.
قاد ناجلزمان فريقه في 22 مباراة، لم ينتصر فقط على شبح الهبوط، بل حصد 39 نقطة كاملة بمعدل لا يفوقه سوى أستاذه توماس توخيل مع دورتموند، وأستاذ أستاذه بيب جوارديولا مع بايرن. 22 مباراة كانت كفيلة بكشف سمات يوليان التدريبية التي يمكن تلخيصها في الشخصية، الضغط، واللعب العمودي.
الشخصية تأتي أولًا، ليس لأنه نجح في فرضها على اللاعبين وقبلهم الإدارة في سن صغير، بل لأنه نفسه يرى وظيفة المدرب تقوم في 30% منها على القرارات التكتيكية، أما الباقي كله فيعود لإدارة المدرب للفريق، وقدرته على التواصل مع لاعبيه.
الضغط يأتي ثانيًا، لأن يوليان كباقي المدربين الألمان يولي أهمية كبيرة لمكان استخلاص الكرة، فكلما كان قريبًا من مرمى الخصوم كلما زادت احتمالية تسجيل الأهداف. لذلك لعب هوفنهايم ككتلة واحدة دفاعًا وهجومًا برسم تكتيكي هو 3/1/4/2، حيث يعترض لاعبو الوسط والهجوم تقدم الخصم بالكرة في وسط ملعبه. وإذا أفلت الخصم من كماشة الضغط، فيصطدم بساتر دفاعي تكوّن من مساندة لاعبي الطرف لثلاثي الدفاع.
أما اللعب العمودي فشأنه شأن الضغط، سمة أساسية في المدرب الألماني، والحق أن يوليان يطبقه بكفاءة كبيرة جدًا، فلا يتحرك لاعبوه بعشوائية حين يستخلصون الكرة، بل ينتشرون في المساحة التي تسهل من وصول الهجمة سريعًا في مناطق الخطورة.
المختلف في ناجلزمان أنه لا يمنح اللعب العمودي أفضلية مطلقة على حساب الاستحواذ، على العكس لم يبدُ هوفنهايم معه عاجزًا عن صناعة الهجمات المنظمة، والانتقال المتدرج بالكرة خصوصًا من العمق، ولهذا ربما كان جوارديولا مهتمًا بضمه لبايرن ميونخ، لكنه لم يكن ليتخيل ماذا سيحدث في المواسم التالية.
هوفنهايم تحول ليكون الحصان الأسود، مفاجئًا الجميع بعروض لم تتسم بالشجاعة وحسب، ولكن بالانسجام ومراكمة الخبرة، لذلك حققت كتيبة ناجلزمان الفوز على أندية باير ليفركوزن، شالكه، وحتى بايرن ميونخ نفسه، ليحتلوا بذلك المركز الرابع موسم 2016/2017 ثم يتقدموا للمركز الثالث في 2017/2018، كل ذلك تحت قيادة شاب لم يتم عقده الثالث بعد!
زائد خمسة وعشرين
في هدوء، كان رجل ينظر بإعجاب لكل ما يحققه يوليان. اسمه رالف رانكيك، وهو مهندس مشروع شركة ريد بول التي تملك نادي لايبزيج الألماني. عمل رالف بكل شيء يتعلق بكرة القدم؛ من التدريب للتنفيذ للإدارة. ويشتهر عنه حدة الطباع، الدقة، والصرامة. لذلك يحب الجميع التعاقد مع لاعبيه، لكن لا يفضل أحد التفاوض معه.
رانكيك أدرك مبكرًا أن ناجلزمان هو مستقبل ألمانيا، وطبعًا سيحاول بايرن خطفه كما حاول من قبل، لذلك أقنعه بتولي لايبزيج بداية من هذا الموسم. وهناك دلالة كبيرة لتعيينه في هذا التوقيت تحديدًا، لماذا؟
ﻷن مشروع لايبزيج قطع أشواطًا كبيرة بالفعل، وستسعى الإدارة لجني ثمار ما قاموا به خلال السنوات العشرة الفائتة، وبالتالي سيوكل للمدرب الشاب مهمة قيادة الفريق نحو منصات التتويج محليًا والقفز خطوات للأمام أوروبيًا، وهو يقوم بعمل مبهر حتى الآن.
لايبزيج كان فريقًا ينفذ الضغط العالي بفعالية كبيرة، لكنه لا يقدم المردود ذاته حين تكون الكرة في حوزته خصوصًا أمام فرق تتكتل دفاعيًا، بل يفقدها ليستقبل أهدافًا. هذا بالإضافة لأنه يعاني كلما تأخر في النتيجة، ويقل تركيز لاعبيه كلما كانوا تحت الضغط.
يرى الرئيس التنفيذي للنادي، أوليفر مينتزلاف، أن ناجلزمان عالج تلك المشاكل بسرعة كبيرة. يتضح ذلك من خلال 62 هدفًا سجلهم رفاق تيمو فيرنر بـ25 لقاء بالدوري، كثير منهم جاء نتيجة الاستحواذ على الكرة، وتسديد من خارج منطقة الجزاء. أما فيرنر نفسه فيعترف أن يوليان عاونهم في التغلب على الضغوط، وهذا أيضًا يتضح من قدرتهم على العودة في المباريات المحلية، والنتائج الرائعة أوروبيًا.
الآن يبدو أن لايبزيج في طريقه ليكون أحد الثمانية الكبار بالتشامبيونزليج، بعدما تغلب يوليان، الملقب بمورينيو الطفل، على مورينيو نفسه. ولم يظهر فاقدًا للخبرة أمام مدرب يكبره بـ25 عامًا، لأنه ببساطة يمتلك حاليًا 11 سنة من التدريب منذ بدأ مدرب مساعد، وهو نفس عدد السنوات التي احتاجها جوزيه ليقدم أفضل فتراته مع الإنتر، فإلى أين ستصل مغامرة الطفل الذي رفض بيب وهزم جوزيه؟