يورجن كلوب: قصة تحول «الجوكر» إلى «باتمان»
في السادس من حزيران/ يونيو من عام 2019، وصلت طائرة فريق ليفربول العائدة من مدريد والمحملة بكأس دوري أبطال أوروبا بالإضافة إلى اللاعبين. تحرك الكأس من الطائرة إلى حافلة مفتوحة جابت كل شوارع المدينة تقريبًا. كانت كلما تعبر من شارع لآخر تزداد أعداد الجماهير وكأنها لن تنتهي.
بعد تلك الليلة، وحين حل المساء، يعتقد البعض أنك إذا كنت رفعت عينيك للسماء قليلًا، تحديدًا في الجزء الفارغ من زرقة السماء الليلية، لوجدت ضوءًا يلمع في وسط المدينة بالضبط، يرسم ملامح معلومة لكل فرد فيها، يحوي: قبعة رياضية، لحية صفراء خفيفة ونظارات طبية، إنها الإشارة المميزة للبطل «يورجن كلوب».
بجزء من التدبر، تلاحظ مدى الانقلاب في الموازين الذي حدث في تلك المدينة وفي أبطالها. قبل سنين طويلة، كانت ليفربول هي المدينة الثائرة الأبرز في حلق المملكة، واُختير «كلوبو» بالذات لتولي قيادة فريقها الأكبر، بغرض الثورية الموجودة فيه، ومحاولة مواجهة البطل الحقيقي المحبوب من الأغلبية.
فكيف احتال كل من في المدينة من الثورة في وجه الأبطال، إلى الأبطال أنفسهم؟ كيف تحول «الجوكر» فجأة إلى «بات مان»؟
الانقلاب الدرامي الأول
كانت حياة كلوب حياة هادئة لشاب ألماني روتيني لدرجة بعيدة، ولد عام 1976 بغرب ألمانيا. لعب كرة القدم بأحد أندية الهواة، حتى أتم الـ20 من عمره وحدث الانقلاب الأول في حياته. كان يذهب لجامعته في الصباح ثم يعود للعمل بأحد مخازن أشرطة الفيديو الخاصة بالسينما في الليل، ثم فجأة، بات مسئولًا عن طفله الأول وهو ما يزال شابًا صغيرًا في الـ20 من عمره. كانت هذه أول حادثة تترك أثرًا في حياته.
تغيرت حياة كلوب منذ تلك اللحظة. لا نوم لأكثر من 5 ساعات فقط يوميًا ثم تدريب وعمل ودراسة ومحاولة لقضاء بعض الوقت القليل مع طفله. لا وقت مع الأصدقاء، لا وقت في الحانة ولا وقت للتمتع بحياة الشباب. علمته تلك الفترة الكثير عن الحياة الحقيقية كما وصف ذلك بنفسه.
كوَّنت تلك الأيام أجزاء هامة من شخصية الألماني، حيث إن امتلاك طفل وأنت في سنٍ صغيرة وتربيته والفارق العمري بينكما ليس بالكبير، يجعلك تشعر بصداقة حميمية تجاه ذلك الطفل، وإذا ما دمجت هذا التأثير مع فترته الأولى كمدرب في ماينز عام 2001، تكتشف أن اقترابه الدائم من لاعبيه ليس بالغريب.
كان عليه تدريب مجموعة من الشباب الذين قد زاملوه من قبل كلاعب قبل أن يُصبح مدربهم، اعتاد كلوب أن يتحمل مسئولية من يرأسهم، وليس فقط توجيههم، بل الشعور بكل ما يشعرون به حتى في شئونهم العائلية، دائمًا قريب منهم، دائمًا ما يشعر أنه مسئول عنهم كمسئوليته عن طفله الأول.
الجوكر في طور الثورة
في مرحلة الدراسة، حصل كلوب على شهادة عزيزة من مدير مدرسته بتقدير امتياز في التفوق الرياضي، وقتها نصحه مدير المدرسة أن عليه أن يتقن كرة القدم، لأنه لو فشل فيها لأصبح في خطرٍ كبير، حيث كان لا يتقن أيًا من المواد الدراسية الأخرى. ربما لم يستمع يورجن لنصيحة طوال حياته قدر استماعه لتلك النصيحة.
يمكن اعتبار تلك هي الندبة الثانية التي تركت أثرًا في حياة كلوب، حيث حول كل شيء في حياته إلى كرة القدم وكرس تركيزه فيها بكل ما يلزم ذلك.
بعد فترة تدريب في ماينز استمرت لـ8 سنوات تقريبًا، انتقل لتولي زمام الأمور في دورتموند، وهناك بدأت شخصيته الثائرة في الانفجار. مدرب حريص لأقصى درجة ممكنة، لا يهوى الخسارة ولكنه كذلك لا يحب الفوز قدر حبه لإثارة البلبلة وتحطيم الثوابت.
يحكي كلوب عن أحد اللقاءات التي خاضها ضد بايرن ميونخ، البطل الأكبر في ألمانيا طوال العصور، والتي كانت في عام 2011. كانت مواجهة تاريخية، حيث لم يُهزم البافاري من دورتموند على آليانز آرينا لمدة 20 سنة قبل تلك المباراة.
يؤكد يورجن أنه لا يتذكر نتيجة تلك المباراة بنسبة 100%، تخبره الذاكرة أن المباراة انتهت بفوزهم بـ3-1، لكن ما يتذكره بشدة أنهم قاموا بتدمير كل شيء في الملعب آنذاك، ثورة في كل أرجاء الميدان، وحركية وجنون، ذلك الشيء الذي يحتفظ به كلوب بكل تفاصيله وكل قصص لاعبيه عنه، أما نتيجة المباراة؟ غير مهم بالمرة.
اللحاق بالسيارة الأولى
قبل المباراة المذكورة أمام بايرن ميونخ، اختار كلوب أن يُحدث لاعبيه في المحاضرة الأخيرة قبل اللقاء عن طريق أحد أفلامه المفضلة حين كان طفلًا، وهو فيلم «Rocky Balboa». يظن مدرب ليفربول الحالي أن ذلك الفيلم يجب أن يراه الأطفال في المدارس أكثر من مرة، لأنه سيضع فيهم الحماس لصعود الجبال.
لدى يورجن ثقافة سينمائية كبيرة كونها أثناء فترته في العشرينات كذلك، حيث عمله في مخازن أشرطة السينما قد دفعه لمشاهدة العديد من الأفلام والنقاش حولها، وهي ندبات في حياته لا يستطيع التخلص منها بسهولة، لكنه مع ذلك يظن أن كرة القدم بها سحر أكبر من السينما بكثير.
تستطيع أن تكتشف في حياة كلوب بالتحديد العديد من الأحداث الساحرة. حيث يمكنك ربط جانب الثورة في حياته الأولى كمدرب، بالجانب البارز من شخصية الجوكر من فيلم «The Dark knight» الشهير. وهي شخصية الثائر لمجرد الثورة، لا ينظر للنتائج ولا المكاسب فقط ينظر للفعل نفسه.
لكن لأن كرة القدم ساحرة بشكلٍ أكبر، نجح كلوب في تحقيق الثورة لذاتها وحصل على مغانم من ورائهما أيضًا. حيث أوقف البطل بعد اللحاق به، بل ونجح في أن يكون بطلًا بنفسه في أعين الكثيرين، كان يظهر أمام الجميع بالندبات والآثار التي حملها في حياته مؤثرًا فيهم بالطريقة التي اختارها لنفسه، لكن حتى نجاحه في ذلك يمكن اعتباره ندبة أخرى على وجه ذلك الباسم دائمًا.
تركت فترته في دورتموند أثرًا في حياته كذلك، حيث وجد أن عليه أن ينظر للعالم نظرة مختلفة، أن يترك أثره عن طريق وضع النتيجة أمام الجميع، بحث عن الفوز هذه المرة ولم يستغنِ عن البحث عن الفعل نفسه.
التحول إلى منقذ المدينة
غادر كلوب ألمانيا بالكامل بعد أن وجد أن دوره في مدينة دورتموند انتهى كثائر، وحان وقته لأن يكون منقذًا لمدينة أخرى، دبر القدر الظروف، وانتقل إلى ليفربول بندبات وجهه التي حصل عليها طوال حياته، كطفل، ثم كشاب مكافح، ثم كشاب يُربي طفله في سنٍ صغيرة، ثم كمدرب ثائر نجح في أن يكون بطلًا ولو لساعات.
في بداية الأمر، ظن الجميع أن وجود كلوب مُقتصر على مواجهة البطل الأبرز الجديد لإنجلترا، وهو مانشستر سيتي، أو بالأحرى «جوارديولا». دور الرجل الثاني في الدوري الإنجليزي كان مناسبًا جدًا لكلوب وللريدز. السيتي يسيطر، يُهيمن على البطولات وما على رجال يورجن إلى معادلة الكفة، حتى لا يُصبح الخير وحده في الرواية، يجب أن يظهر دور معاكس يوازن كفة الأحداث.
لكن بانتهاء عام 2019، تيقن كلوب ومن حوله أن القيام بدور الجوكر على طريقة ممثله الراحل «هيث ليدجر» قد انتهى. وقد حان وقت تعديل الأحداث.
أثناء التواجد في ألمانيا، امتلك فريق دورتموند فرصًا أقل من أجل الهجوم، ومع ضعف إمكانيات اللاعبين، ابتدع كلوب طريقة لعب مختلفة أُطلق عليه اسم «Gegenpressing» أو الضغط المضاد. اعتمد فيه على قتل فرص بناء الاستحواذ من قبل الخصوم في اللحظة التي يخسر فيها لاعبو كلوب الكرة.
تحول ذلك الأمر في ليفربول، حيث وجد أن دور البطل يُحتم عليه ألا يبني اللعب بنفسه، لا ألا ينتظر أن يقع الخصم في مشكلة تنظيم، بات يضغط من أجل الحفاظ على استحواذ الكرة بين أقدام لاعبيه، وعند خسارتها يضغط مرة أخرى من أجل إعادة امتلاك الاستحواذ مرة أخرى، لا يهم بناء هجمة سريعة الأهم الحفاظ على دوره كحامل الكرة، دوره كبطل، لا نقيض البطل.
لذا، عدّل كذلك من وقت اختياره لعملية الضغط. حيث كان يدخر كل لحظات الضغط مع لاعبي دورتموند حتى اللحظة التي يُقدم له الخصم فيها مُحفز لذلك الضغط، كتمريرة خاطئة أو أن تطول الكرة من حاملها أو أن يستحوذ حاملها برؤية غير سليمة. لكن في ليفربول كان ضغطًا سريعًا بلا محفزات.
ولا يتم التراجع عن ذلك الضغط حتى لو لم يسعى الخصم لبناء هجمة أصلًا، بمعنى أنه كان يقرر ألا يضغط على خصوم دورتموند إذا ما قرروا التراجع بتمريراتهم للخلف أو لما وراء الثلث الأخير من الملعب، لكن في ليفربول، يضغط حتى إذا وصلت الكرة إلى حارس المرمى نفسه.
اعتمد في ألمانيا على رسم 4-4-1-1 في كل حالاته الدفاعية، يحاول بمهاجميه صُنع ظلال تحجب رؤية وطريق التمرير المفضل لمدافعي الخصم، لم يكن ذلك مناسبًا لدور البطل الذي اختاره في رداءه الأحمر فتحول الشكل إلى 4-3-3 لنقل عملية الضغط من أطراف الملعب إلى عمق الملعب، بحيث يدفع الخصم للخطأ في العمق بالضبط.
كرة القدم الساحرة
قام الممثل الشهير «خواكين فينيكس» بدور شخصية الجوكر في الفيلم الذي صُنع خصيصًا لإبراز ما في تلك الشخصية من جوانب بشكلٍ منفصل عن شخصية الرجل الوطواط أو «بات مان» ظهرت في ذلك الفيلم دور جديد للجوكر في المجتمع، دور يقود فيه الجماهير كبطلهم الموحد، يلبسون مثله ويلطخون وجههم بألوانه.
لولا أن ذلك يعتبر تعديًا دراميًا لن يسمح به متخصصو السينما، لشككنا أن ذلك التحول في شخصية الجوكر على يد فينيكس إنما هو تجسيد للتحول في شخصية كلوب عبر تلك السنوات. لكن على الأقل نمتلك في كرة القدم سيناريو أكثر جنونًا، حيث لن يستطيع فينكيس أو أي من زملائه تجسيد لحظات كالفوز على برشلونة برباعية نظيفة مثلًا.
تمتلك كرة القدم ما هو أعظم وأعمق وأكثر دراما من السينما، في العروض السينمائية تنتهي الإثارة بمجرد أن تظهر كلمة النهاية، لكن في عروض كرة القدم لا ينتهي التأثير أبدًا، حيث ستذهب جماهير ليفربول إلى أسرتها بعد الفوز بالدوري الغائب لـ30 عامًا ليناموا أفضل نومة في حياتهم، لكن حين يستيقظون سيجدون السحر ما زال جاريًا، وهي عظمة السحر الواقعي، هي عظمة أن ترى تلك الأحداث كحقيقة وليس خيالاً.