رحلة البحث عن الإله: من أين أتت المعجزات؟
بعد نجاح كبير حققه المخرج والممثل الأمريكي «هاري هوديني» في أوروبا بتقديمه عروضًا لفكِّ الأغلال، أقام عرضًا مسرحيًّا جديدًا في عام 1902 في بلاكبورن بإنجلترا، هذه المرة كان العرض مختلفًا، فكانت الأغلال محكمة بشدة، لم يستطع هاري فكها إلا بعد ساعتين من المحاولات مزَّق خلالها لحم ذراعه ليتخلص منها.
لم تكن لعبة الأغلال مجرد عرض سحري بالنسبة لهوديني، وإنما كان يهدف من ورائها إلى الاستهزاء بحركة الروحانيين، فكان يحاول أن يثبت بأن عروضهم ما هي إلا حيلة سحرية. قبل وفاته ترك رسالة متحديًا الروحانيين قائلًا:
وبالفعل لم يعد!
إله المعجزات
التراث الديني المتأخر مليء بموروث ضخم من المعجزات لحاجات تبشيرية أو لحكمة إلهية خاصة، إلا أن الروايات الخاصة بالديانات البدائية لم تخلُ من ذِكر المعجزات أيضًا بالرغم ابتعادها عن الرؤية التقليدية لوجود الإله.
تشكلت المعجزات في الحالة البدائية من محاولات التواصل بين زعماء القبائل والعالم الآخر لحاجات بيئية واجتماعية، لما يقابل أفراد القبيلة من تحديات تبدو غير مفهومة لها في ذلك الوقت. أحد التجليات الأولى للمعجزات ظهرت جراء سوء فهم الناس للطبيعة، مثل نجاح محاولات إنبات النباتات حول قبور الشخصيات الاستثنائية.
في هذا التوقيت كان من المعتاد أن تُضاف بعض البذور داخل قبور رجال القبائل بعد موتهم حتى يأكلوها خلال رحلتهم إلى العالم الآخر، نمت هذه البذور فمنحت هؤلاء الموتى قداسة في عقول باقي أهل القرية، لاحقًا تطورت هذه العادات وأصبح القربان البشري مهمًّا لإرضاء الإله وتحقيق المعجزة عبر إنبات الثمار بحالة طيبة ليضمن الجميع الأكل والشبع.
لكن حتى هذه اللحظة لم يخلق العالم علاقة مباشرة مع الإله بشكله المحدد رغم وجود بعض الأفكار حوله، رغم ذلك ظل الإنسان البدائي يترقب المعجزات لينجو من المآزق التي يعيشها بانتظام في عالمٍ موحش. وحيث كانت الحاجة أشد للسيطرة على قوى الطبيعة، لذا ظهرت المعجزة في حالة مستقلة نسبيًّا عن وجود الإله أو بشكلٍ يفوق الاهتمام المباشر به، فرغم انسلاخ بعض الآلهة من أرواح الشخصيات العظيمة فإن طقوس تبجيلهم تركزت حول إحداث المعجزات في المقام الأول.
لذا نجد أنه في الاكتشافات المعاصرة الكهوف البدائية رُسمت الثيران في حالة أقرب للشكل الطقسي مثل الصيد تجسيدًا لأهم الأحداث اليومية في الحياة البدائية القائمة على الصيد وتحدياته، ولذلك ذهب بعض المحللين إلى أن هذه الرسومات كانت «شبه دينية» لأنها تدور حول التمني نفسه وليس الإله كما في الحالات المتأخرة، مما يجعل العبادة موجهة دائمًا للمعجزة وليس لرضا إله بذاته بشكلٍ مُطلق، وهو السلوك الذي يجعلنا نؤكد أن المعجزات مفهوم اجتماعي قديم يتعدى تاريخ الديانات الكبرى ومفاهيمها اللاهوتية، بل نجد أحيانًا أن المعجزة كانت الدافع لإيجاد الإله نفسه في بعض الأحيان.
هذا الاتجاه نجده في التراث الإسرائيلي أيضًا، وبخاصةً في الطور الديني الأول قبل دعوة النبي موسى التوحيدية، حيث أصبحت وقتها النظرة الدينية للمعجزة أكثر نُضجًا من الرؤى البدائية بسبب تراكم المعارف الإنسانية. فلقد عبد بنو إسرائيل – مثلهم مثل باقي الشعوب البدائية – في الطور الأول من مجتمعاتهم ما يقرب إلى الأحجار، واقترنت الآلهة عندهم بمفهوم المعجزات وما يمكن أن تقدمه لأبناء القبيلة مثلهم مثل الآخرين.
هؤلاء الآلهة كانوا مجرد أموات دون شأن، حيث كانت تشكل المقابر موضع تبجيل لهم حسب جنس الميت، فإن كان ذَكرًا يكون بشكل أسطواني، وإن كانت أنثى تشكل على هيئة ثدي، لضرورة وظيفية وهي التعريف بجنس الميت، حتى كسبت تلك الأحجار سمة القداسة وصار ينسب إليها القدرة على إيجاد النسل للمرأة العاقر.
ولقد مثَّل النسل أهم قضايا الشعب اليهودي، حيث كانت أمة منعزلة صغيرة، وكان العالم يعجُّ من حولها بأكبر أشكال الإمبراطوريات والصراعات أيضًا، وكان الإله الأهم «يهوه» ما هو إلا أحد هذه الأحجار التي نسبت إليه الإعجاز بالنسل، وذلك ما أعطاه أهمية اجتماعية تبعًا لحاجات المجتمع اليهودي، حتى أصبح يُقدَّم له الابن البكر قربانًا. بعد حين اندثرت تلك العادة واكتفى الشعب اليهودي بقطع قلفة ذكر الصبي ورميها للإله «يهوه» كأحد الأشكال البدائية لعادة الختان الممتدة حتى اليوم.
طيلة هذه اللحظات لم يكن الإله وليد المعجزة أكثر قُدرة من غيره، لكنه كان أكثر إحكامًا في تصوره الذي اختُزل في قُدرته على إتيان المعجزات، وذلك ما جعله أقرب للنموذج البدائي الأقرب لاحتياجات الإنسان البيئية من أي مرحلة أخرى أكثر تعقيدًا وتشعبًا في الاحتياجات، حيث شكلت كل لحظة تاريخية معجزات خاصة تلائم احتياجاتها وتطورًا أكثر نُضجًا لفهم الإنسان للإله ولقُدراته اللامحدودة.
المعجزات وليدة الفوضى
يُذكر في رواية إغريقية من تأليف لوشيوس أبوليوس باسم «الحمار الذهبي»، أن شخصًا تمنَّى التحوٌّل إلى بومة والتحليق في السماء بعيدًا عن الأرض فإذا بالعقار يحوِّله إلى حمار!
ظلَّ البطل/الحمار موضع سخرية من الناس، حتى آمن بإيزيس الربة المصرية القديمة وقامت بشفائه معلنة أن البطل كان سيضيع من غير مساعدتها.
ذاع صيت تلك الرواية لما كانت تعكسه من الأزمات الحقيقية التي عاشتها الحضارة وقتها، فبعد فتوحات الإسكندر الأكبر خُلقت اختلافات جوهرية في المجتمعات الجديدة على المستوى السياسي والاجتماعي، كلُّ ذلك ألقى بظلاله أيضًا على المكون الديني للشعوب.
أدى الانفتاح الجديد والتقارب الثقافي بين أفراد العالم القديم إلى تفاقم الهوة بين الشعوب ورواياتها الدينية الخاصة عن فهمها للعالم ونفسها بسبب تعدد الروايات واكتشاف تناقضها بين الناس حول العالم، الأمر الذي أوقع كثيرين في حالة من الشك وغربة من نوع جديد عن تراثها، حتى لاحقت تلك الفوضى جذور الشخص وهويته التي كانت تتشكل حسب مدينته وآلهته المحلية، فأصبح بلا جذور في وجه سيل من الروايات الدينية والوعود الإلهية المختلفة، مؤديًا إلى مزيدٍ من الاغتراب وسهولة في الضياع.
في ذلك الوقت بدأت تتلاقى الأديان المختلفة، وبدأت أعمال ترجمة الأسفار اليهودية إلى اليونانية لمواكبة الانفتاح الجديد. وأخذت آلهة مصر القديمة الاهتمام الأكبر من قِبل شعوب الإمبراطورية الجديدة، لما بها من غموض روحاني يمكن أن يشكل إجابة وافية على الإشكالات الحياتية الجديدة، وتم حينها مزج الديانات المختلفة – على رأسها المصرية – في ديانة جديدة تفي بتلك الحاجات وسُميت اصطلاحًا «الديانة الهلنستية».
حتى هذه اللحظة لم يختلف التصور الديني كثيرًا حول الإعجاز، وتركزت الرؤية الدينية على كيفية السيطرة على الطبيعة، لكن عُرف مفهوم إله أكثر تطورًا ممثلًا في شخص الحاكم على مستوى أوسع من ذي قبل، وأخذت المعجزات شكلًا آخر أكثر مباشرةً من جهة الناس على الإله فلم تعد الحالة مجرد سوء فهم تجاه الإله أو معجزات وليدة الصدفة، بل أخذ الناس يصنعون التمائم بشكل أكثر تنظيمًا واعتقادًا مما هو في الحياة البدائية، وبرز وجود المستشار الروحي، الذي يلجأ إليه أفراد المجتمع في أمورهم الخاصة.
أيضًا حدث تطور ملحوظ لعلم التنجيم في محاولة لتسخير الطبيعة وفقًا للرغبات الشخصية للأشخاص المُبارَكين وفقًا لطقوس موجَّهة بسبب انتشار الخوف بين الناس من العالم الفوضوي الذي يعيشون فيه ورغبتهم في الحصول على إجابة ولو عبر اللجوء إلى العلوم الغيبية أو السحر.
لم يخلُ العالم أبدًا من الكوارث إلا أنه – خلال الفترة – كان الدافع الاجتماعي للنجاة من الفوضى أكبر، لذا مُزجت صفات الطبيعة والحيوانات في شخوص الآلهة، وجرى الإيمان بقُدرتها على تحقيق المعجزات وليس محاولة الاحتماء منها بل فيها.
إذن فإن النظرة لم تختلف كثيرًا بين تلك الأزمنة في تصورها حول الآلهة والمعجزات، إلا أن الحاجات المختلفة ولَّدت طرقًا مختلفة للتعامل مع مفهوم المعجزة والآلهة سواءً، فمن التعامل معه من خلال طقوس عامة متضاربة وأخذ موقف حذر من الطبيعة إلى محاولة فهم الطبيعة ووضع طقوس أكثر استقرارًا وأفعال أكثر إحكاماً للتواصل الفوقي الكهنوتي، إلا أن المعجزة ظلت الغاية الأولى من نشوء مفهوم الإله، ووقعت دائمًا في نطاق جدلي مع القوى الغيبية، حتى وصلت إلى الرؤية الإبراهيمية، والتي ألحقت بالمعجزات شروطًا أكثر تعقيدًا وتجاوزًا للحالة الإنسانية والإجتماعية، مُشكِّلة لحظات تاريخية أكثر حسمًا.
معجزات أولياء الله
المعجزات لها حالة خاصة في الرؤى الإبراهيمية، وهنا سنخصُّ بالذِّكر المسيحية والإسلام بسبب تطورهما لرؤية شعبية أوسع من اليهودية، ومساهمتها في ترسيخ نجم شخصيات لعبت دورًا كبيرًا في عملية التمهيد لتأسيس الديانتين بعيدًا عن النبيين الذين كُلِّفا بالرسالة.
شكَّل الإسلام حقل اعتقاده في المعجزة مع وجود حتمية عقائدية بأن لكل علة علة أولى هي الله، لذا في ظل الاستحالة العقلية لحدوث المعجزة وفق قوانين العقل، ذهب الإسلام إلى أن الكون لا يعمل وفق قوانين ثابتة وإنما تتجدد باستمرار، وما المعجزة سوى خروج الله عن عاداته لحكمة يعلمها، حيث تشكل الإرادة الإلهية اليد العليا في حدوث المعجزة وليس قوانين الكون المسخرة لله، وذلك ما يقترب إلى المعتقد اليهودي حول إضافة الطابع النسبي على الطبيعة تأكيدًا للإرادة الإلهية، خاصةً في ظل اعتقاد اليهودية بأن حدوث المعجزات أمر طبيعي، هنا نذكر قول أيوب في العهد القديم حول انتظار نجاته: “الْفَاعِل عَظَائِمَ لاَ تُفْحَصُ وَعَجَائِبَ لاَ تُعَدُّ.” (أيوب 5: 9).
وبشكلٍ عام شكَّلت الفجوة بين قوانين الكون وحدوث المعجزات إشكالية كبرى في الأديان الإبراهيمية، لذا اتفقت الديانات الثلاثة “تقريبًا” على تأكيد طبيعة الكون النسبية لتبرير وقوع المعجزات.
رغم ذلك ظل الإسلام والمسيحية على مقربة في كيفية تتابع المعجزات وارتباطها ببعضها وتشابهها، وأنها دائمًا تقع في نطاق من الاستساغة، عكس ما طرحته لنا أديان العالم القديم، لما فيهما من عجائب الأمور وارتباطهما المباشر بالسياق السياسي وظروف المجتمع.
على النقيض تمامًا جاءت الرؤية الإبراهيمية بمفهومٍ مُجاوِز للواقع حيث المعجزة توجد لقضية إيمانية خالصة غالبًا، ولعل ذلك يعود أيضًا لوجود الأديان الإبراهيمية على رأس تراث كبير من الأديان والأساطير مما جعلها في حالة بناء داخلي أكثر جدية من مثيلاتها.
فبالرغم من وجود حالات شفاء للمرضى عند السيد المسيح والنبي محمد، فإن معجزة شفاء المرضى كتب لها الديمومة الأكثر وجودًا في تاريخ الأديان وطلبًا من القديسين وأولياء الله بعد موت الشخصيات الرئيسية للأديان، وذلك طبيعي، فلم يعد العالم بحاجة إلى أن يسير أحدهم على الماء حتى يقنع الجميع بنبوته وصِدق رسالته، فلقد آمن أغلب العالم بالفعل لكنه ما زال يعج بالمرضى. ولعل ذلك سبب كافٍ لفهم دلالات المعجزات في سياق تاريخ الأديان وعلاقاتها المتضافرة مع احتياجات مجتمعاتها الجديدة.
لذا آمن أتباع الأديان بالقديسين والزهاد بقُدرتهم على إتيان المعجزات والخوارق، وأهمها شفاء المرضى وإحياء الموتى، وهي روايات حتى وإن لم تصح، فإنها تحمل دلالة شعبية ضخمة على حجم متطلبات الناس من “الأولياء” وقتها وتفاعل الأديان الإبراهيمية معها عن طريق المعجزات.
هذا الأمر لم يكن محل إجماع دائمًا، فلقد اختلف فقهاء الإسلام في قُدرة أولياء الله في شفاء المرضى، يقول الشاطبي: “مخالفة الخوارق للشريعة دليل على بطلانها في نفسها، وذلك أنها قد تكون في ظواهرها كالكرامات وليس كذلك، بل هي من أعمال الشيطان”، كما رفضت بعض الفرق المسيحية شفاعة القديسين تمامًا، فيما حصرتها بعض الفرق الإسلامية في الأنبياء فقط.
الجدير بالذكر أن السيد المسيح قد أوصى تلاميذه في إنجيل متى بأن يشفوا المرضى مجانًا بقوله في ١٠:٨: «مَجَّانًا أَخَذْتُمْ، مَجَّانًا أَعْطُوا». لم يُحدِّد المسيح إن كان لغير تلاميذه القُدرة على الشفاء أيضًا أم لا. رغم اختلاف الشخوص القائمة على حالة الشفاء الإيمانية فإنها كانت دائمًا من خلال وسطاء اصطفاهم الله ليكونوا تلاميذ النبي أو أحد أوليائه الصالحين، دون ذلك ما يقع على الفرد لحدوث معجزة إلهية تخصه دون تدخل أحد الوسطاء كان قليل الذكر جدًّا في كلا الديانتين.
معجزة البعث
أرسل الصدقيون والفريسيون – طوائف يهودية – أناسًا يتبعون السيد المسيح في جولاته في مدينة الجليل لإيفاء بعض التقارير الاستخبارية عنه، كان السيد المسيح يقوم بشفاء المرضى طوال أيام الأسبوع بما فيها اليوم المحرم العمل به حتى لمهنة الطب، وطالبوه بأن يبرر ذلك، فما كان على السيد المسيح سوى قلب الرؤية جذريًّا بما لا يعجبهم «خلق السبت من أجل الإنسان ولم يخلق الإنسان من أجل السبت».
لم يعرف العالم المعاصر في روايات الشفاء سوى أن تكون بواسطة البعث، أي أن يقوم شخص مقدس بشفاء المريض حسب الروايات المتناقلة، لكنها المعجزة الأكثر جذرية في التاريخ المسيحي، حيث أتت بالمؤسس الثاني للديانة المسيحية وهو بولس الرسول في طريقه إلى دمشق للقبض على المسيحيين الجدد، ظهر له السيد المسيح نورًا من السماء يسقط على الأرض ويقول: «شاول شاول لماذا تضطهدني؟» ذلك ما ذكره بولس الرسول عن رؤيته للسيد المسيح أثناء رحلته، يقال إنه ظل ثلاثة أيام في دمشق لا يرى أو يأكل أو يشرب، واعتقد أن يسوع المنبعث قد ظهر له، ما شكل الحلقة الأولى في شخصية بولس الرسول التي يعرفها التراث المسيحي.
تذكر حادثة أخرى على البعث في التراث المسيحي للروح القدس في عيد الحصاد، حيث رحل تلاميذ السيد المسيح بعد أن رأوه في القيامة من الموت، من الجليل إلى أورشليم والتقوا في غرفة علوية للتشاور، وحسب سفر أعمال ٢-١:٤، فلما حضر يوم الخمسين كان الجميع بنفس واحدة وصار من السماء صوت وملأ كل البيت حيث كانوا جالسين، وظهرت لهم ألسنة موقدة كأنها من نار واستقرت على كل واحد منهم، امتلأ الجميع من الروح القدس وابتدأوا يتكلمون بألسنة أخرى كما أعطاهم الروح أن ينطقوا، كان ذلك للأولين برهان على صحة الإنجيل.
لم يذكر في الروايات الإسلامية أي بعث للنبي خاصةً في العصر الحديث بسبب موقف العقيدة الإسلامية من التجسيد، إلا أنه ذكر في التاريخ الإسلامي عدة روايات عما يقرب إلى البعث لنبي الإسلام، مثل ظهوره المتكرر في أحلام القادة والعلماء للإدلاء بمعلومةٍ ما أو الصدع باتخاذ بعض القرارات المهمة، لم تتجاوز هذه الوقائع كونها رؤى تنبؤية لم ينتج عنها آثار تاريخية ضخمة كما نجدها في رؤى بولس.
لكن إجمالًا كانت روايات البعث ومعجزات الرؤى ذات طبيعة مفصلية في تاريخ الأديان من حيث خطاها وتطورها، لم تكن لأي حالة عارضة أو فردية في الروايات الرسمية والتاريخية، بل كانت قادرة على قلب ميزان القوة تمامًا أو أخذ منعطف آخر جديد، بعكس معجزات الشفاء التي كانت من قبيل الحكمة الإلهية التي وهبت للأنبياء حسب الروايات الدينية!
سيكولوجيا المعجزة
رغم تخبط الآراء الدينية حول المعجزات، فإن العلم الحديث كان أكثر حزمًا في الأمر وكذلك الفلسفة، يذهب يوجين ناجازاوا، وهو فيلسوف بريطاني ياباني متخصص في فلسفة الدين والعقل، في مقال له بعنوان «لماذا يؤمن الكثير من الناس بالمعجزات؟» إلى أن بعض الدراسات النفسية الحديثة طرحت بأن المعجزات لها أصول معرفية تمتد لسنوات الطفولة المبكرة، ففي إحدى التجارب أظهر الرضع البالغون من العمر شهرين ونصفًا أنهم كانوا أكثر حماسة تجاه ألعابهم التي كانت تبدو وكأنها تنتقل عن بُعد أو تظهر بشكل فجائي، مما جعل الطفل يقضي وقتًا أطول في اكتشاف تلك الألعاب التي خالفت توقعاته، مقارنة بالألعاب التي لم تفعل ذلك، حتى إنهم قاموا باختيار فرضيات اتجاه الألعاب من خلال ضربها.
ويجادل بعض علماء النفس أيضًا بأن الإيمان بالمعجزات قد استمر لفترة طويلة، لأن المعجزات لها طابع مشترك «الحد الأدنى من الحدس المضاد»، وهذا يعني أن المعجزات المعروفة غالبًا ما تنحرف قليلًا عن التوقعات البديهية، ولكنها لا تنطوي على عناصر غير بديهية بشكل مفرط، ولعل ذلك يؤكد لنا جانبًا آخر لوجود بعض المعجزات دون غيرها، رغم اتصال العالم ببعضه عبر ثمانية مليارات نسمة، لم يذكر أن قام أحدهم بالطيران الحر أو السير على الماء، لكن يكفي أن تبحث قليلًا بجهد لا يذكر في القنوات الفضائية حتى تصل لإحدى القنوات التي تشفي المرضى بأحد الطقوس الإيمانية.
أصبح علم النفس في القرن الـ18 أكثر اهتمامًا بطبقات الوعي الأولية في العقل الإنساني، خاصةً ما يتقاطع مع وعي الإنسان البدائي في حالته الأولى، تطرق كارل يونج لذلك بشكل أعمق بوضع مفهوم اللاوعي الجمعي، وهو ذلك الجانب الأعمق من اللاوعي الفردي لدى فرويد وما يحتوي على جميع خبرات الإنسان البدائي والنماذج الأولية للوعي التي تم تشكيلها في الحياة البدائية ويتشارك فيها أبناء النوع الواحد، والتي تظل في حالة استجابة للبيئة المحيطة في حال استثارة ذلك الوعي بأي نموذج مقابل.
وأيضًا تحتوي طبقات الوعي الأولية على نماذج يمكن تصديقها على مستوى جمعي دون الحاجة لوجود أدلة ملموسة حقيقية مثل باقي القضايا، حيث يحمل العمل الخبرات الأولية لها من الحياة البدائية، ويمكن أن يكون له الأثر الأكبر للأفراد الذين عاشوا خبرات مماثلة ووضعوا له معاني خلال يومهم، مما يجعل لغراب يطير في السماء معاني أكثر تجاوزًا للواقع!
كانت المعجزات مكونًا رئيسيًّا من حياة الشعوب والتراث الديني على مرِّ التاريخ، بالرغم من أن الأدلة عليها ليست كافية لتكون وقائع حقيقية وهذا ما يذهب إليه بعض أتباع الأديان أنفسهم، إلا أنها تظل ذات محتوى ثري للنظر إلى مكون العقل الفردي والجمعي ونظرته للعالم، وخاصةً في حال تحليلها في ظل رغباته واحتياجاته البيئة والتي كان لها الدافع الأكبر كما ذكرنا في توليد المعجزة، وتشكل نموذج بنائي لتركيب التراث الديني وتعامله الجدلي مع الواقع، أي بالرغم من عدم جدواها في العلوم المادية، إلا أنها ما زالت تعطي الكثير من التوضيح في مباحث أخرى.