رحلتي من اليقين إلى الشك: كيف نروي لأطفالنا قصة حرب أكتوبر؟
خلال مراحل دراستنا الأساسية كان هناك احتفاء شديد بذكرى حرب أكتوبر كل عام، وهو احتفاء متبادل، فكانت الدولة تُكرِّس كل أدواتها الدعائية على مدى شهر أكتوبر بأكمله لشحن الرأي العام والتعبير عن عظمة هذا «الإنجاز العسكري»، والذي أُتبع –وفق رؤيتهم- بإنجاز سياسي آخر (اتفاقية السلام).
فكانت ذكرى الحرب وذكرياتها تُحيط بنا من كل الاتجاهات التي كانت متاحة حينئذ، في المدارس والصحف والتليفزيون. فانتصار أكتوبر – وفق رؤية الدولة – هو أحد أهم إنجازاتها في العصر الحديث، ناهيك بأن رئيس الدولة آنذاك (محمد حسني مبارك) كان أحد عناصر هذا النصر، وكانت أغلب الدعاية تتمحور حول دوره وإنجازه الشخصي، الذي ضُخِّم بصورة ابتعدت كثيرًا عن الحقيقة.
وبالنسبة إلينا كان يوم 6 أكتوبر إجازة رسمية من المدراس، وهو أمر لو تعلمون عظيم بالنسبة للطلبة، الذين دائمًا ما يبحثون عن متنفس بعيدًا عن الدراسة. كما أن معظم آبائنا وأمهاتنا شهدوا هذه الحقبة، إمّا أطفالًا وإما شبابًا، وبالتالي كان هناك مادة أسرية ثرية للنقاش ونقل أجواء الماضي.
وخلال هذه الحقبة الزمنية – التي ليست بالبعيدة – وقبل انتشار الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، كانت الدولة وروايتها الرسمية عن حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973 (وغيرها من الأحداث التاريخية) هي المسيطرة على كل منافذ المجال العام، ولم يكن ينافسها في ذلك سوى تلك الأفلام الوثائقية أو الشهادات التاريخية التي كانت تُنتجها وتنقلها قنوات أجنبية وعربية، لم تكن متاحة لأغلب المصريين.
هذا الوضع تغير تمامًا، فتدريجيًا فقدت الدولة سيطرتها على المجال العام، ومنح الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي ساحات جديدة للنقاش وللمعارضة بعيدًا عن أعين الرقابة الأمنية، كذلك صار مُتاحًا الوصول إلى كنوز من المعلومات والكتب والوثائق والشهادات والأفلام الأجنبية التي تعرض لنا الوجه الآخر من الحقيقة، سواء عن حاضر بلادنا أو تاريخها.
أمّا نقطة التحول المفصلية فكانت في يناير/كانون الثاني 2011، حيث لم تكن الثورة ضد مبارك فقط، ولكنها كانت ضد دولة يوليو/تموز 1952 بإرثها السياسي ورواياتها للتاريخ، بما في ذلك حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973.
تبددت الرواية التاريخية لحرب أكتوبر عن آخرها، بدايةً من كشف صورة مبارك المُفبركة بجوار السادات في غرفة العمليات أثناء الحرب، والتي وُضع فيها مبارك بدلًا من المشير أحمد إسماعيل، وزير الحربية آنذاك، وحُذف منها صورة الفريق سعد الدين الشاذلي، وصولًا إلى التشكيك في أن ما حدث في أكتوبر/تشرين الأول 1973 لم يكن نصرًا عسكريًّا بالأساس.
بدا هذا الجدل عبثيًّا بالنسبة للبعض، خاصة أولئك الذين تربوا وشبّوا وشابوا على روايات الدولة. ويمكن الاعتراف أنه كان جدلًا فوضويًّا وصاخبًا في بعض أوجهه، وكان هذا أمرًا طبيعيًّا، فالبلاد كانت تخطو أولى خطواتها في طريق الديمقراطية، وكانت حديثة العهد بمثل هذه الجدالات المجتمعية التي مست حدثًا تاريخيًّا، كنا نظنه من ثوابت الكون.
ولكن لا شك أن استمرار هذه الحالة الجدلية، كان سيضمن تقويمها وتهذيبها، وخلق أجواء صحية، ربما كنا نستطيع خلالها إعادة كتابة التاريخ، فنعترف بأخطاء الماضي، ونرى الإنجازات بصورتها العارية بلا إضافة أو حذف.
وهكذا يمكن القول إن رؤية جيلنا لحرب أكتوبر/تشرين الثاني 1973 مرت برحلة من اليقين إلى الشك، وهو الأمر الذي بات ينسحب على سائر الأحداث التاريخية. ثم راودنا السؤال الأهم؛ كيف سننقل لأبنائنا ملامح هذه الرحلة؟ أو كيف سنروي لهم قصة حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973؟
الدرس الأول: التاريخ ملك الشعوب
كان سائدًا – في الماضي وبدرجة أقل في الحاضر – أن التاريخ يكتبه المنتصر، وفي دولنا، دائمًا ما يكون النظام الحاكم هو المنتصر – حتى لو لم يكن كذلك – وهو الراوي الأوحد لـ «حقائق التاريخ» وفق زعمه. ودائمًا ما تُنصفه هذه الرواية، فتُمجِّد أنصاره، وتخسف بأعدائه الأرض.
وفي عصرنا هذا، تُصر وسائل الإعلام على اتباع أدوات الستينيات في سرد رواية الدولة وتجاهل ما دونها، بما في ذلك الملفات الشائكة والروايات المتناقضة التي تملأ صفحات الويب ومصادر المعلومات الأخرى، وهو يجعل بعضنا يسخر من روايات الإعلام واحتفائه بذكرى الحرب، وقد تمتد هذه السخرية إلى حد تجاهل الذكرى تمامًا، نكايةً في إعلام الدولة وما يمثله من رواية يراها «خادعة».
وينقلب الأمر تمامًا في ذكريات تاريخية أخرى، مثل هزيمة يونيو/حزيران 1967، والتي يتم تجاهلها رسميًا، بينما يُسلط عليها الضوء بشدة في منافذ أخرى للمجال العام.
وهنا يأتي الدرس الأول؛ أن التاريخ ملك الشعوب، وليس للزعماء أو الأنظمة السياسية، فمهما شُوهِت الحقائق أو نُسبت إنجازات وهمية لزعماء تاريخيين، فإن الحدث ملكية أصيلة للشعب، وأي إنجاز عسكري شهدته حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973 لم يتحقق إلا بأيدي أبنائها.
وعلى ذلك فـ «نحن أولى منهم بالاحتفاء والاحتفال بحرب أكتوبر/تشرين الأول 1973»، واستعراض أوجه الإنجاز وتضحيات الشعب، وسرد الأخطاء والعثرات والثغرات، واستخلاص دروس الماضي.
الدرس الثاني: الشعب هو صاحب الإنجاز الأول
من منّا في طفولته وشبابه لم يكن مُغرمًا يومًا بأفلام «الأبطال الخارقين»، وفكرة أن شخصًا واحدًا قادر على الإنجاز وتغيير مسار التاريخ بأكمله.
هي فكرة ذات بريق خاص، التقطها أغلب زعماء التاريخ، فمنهم من حاول أن يكون مُلهِمًا لأنصاره من أجل دعمهم في صناعة تاريخ جديد من الإنجاز، ومنهم من سرق إنجازات شعبه وأنصاره، فنسبها إلى نفسه، وصار هو صاحب الإنجاز الأول.
ومن أكثر الجدالات التي صاحبت ذكرى حرب أكتوبر –خاصة بعد ثورة يناير/كانون الثاني 2011- تلك التي دارت حول هوية البطل الحقيقي لحرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، أكان السادات صاحب خطة الخداع الاستراتيجي وقرار العبور، أم الفريق سعد الدين الشاذلي الذي وضع خطة الحرب وعارض السادات خلال وقوع «ثغرة الدفرسوار»، خاصة أن معارضة الشاذلي للسادات ومن بعده مبارك جعلته منبوذًا من الرواية الرسمية للدولة على مدى عقود من الزمن.
وهنا يأتي الدرس الثاني؛ قد نختلف حول تقييمنا بشأن قرارات السادات ودور الشاذلي خلال الحرب، لكن ليس من الضروري تنصيب أحدهما بطلًا للحرب، لأن الشعب المصري هو صاحب الإنجاز الأول وبطل الحرب الحقيقي، فأبناؤه هم من تحملوا مرارة هزيمة 1967، فلم ينكسروا، وخاضوا حرب الاستنزاف، التي عانى خلالها أهالي سيناء ومدن القناة ويلات الحرب والتشريد والثكل.
كذلك عانى الشعب المصري بأكمله من ظروف اقتصادية طاحنة بسبب المجهود الحربي، فلم يتأفف، ولم يغضب، وكان همه الأول وسؤاله الملح: «متى سنحارب ونسترد سيناء؟». ثم دفع بأبنائه مرة أخرى إلى الجبهة، فمنهم من قضى نحبه، ومنهم من عاد بإصابة جسدية دائمة حرمته من الحياة الطبيعية.
الدرس الثالث: لا تتوقف عن النقد والتقييم
كشفت السنوات الأخيرة عن عدد من القضايا ذات الطبيعة الجدلية حول حرب أكتوبر، وهو جدل لم تدعمه الدولة ولا إعلامها، واستمرت في طرح رواية ذات جانب واحد، حتى دون منح المصريين الحق في الاطلاع على الوثائق التاريخية لهذه الحقبة.
وهنا يأتي الدرس الثالث؛ وهو ألا نثق في رواية ذات اتجاه واحد، رواية لا تُدعِّم مقولاتها بالوثائق، وغير قادرة أو راغبة في الرد على الروايات الأخرى، الناقدة والمناقضة لها.
فيجب أن ندعو أطفالنا إلى القراءة وتحري المعلومات والروايات التاريخية المختلفة حول الحرب، وتكوين وجهة نظر ورأي ذي وجاهة، دون أن يكون هذه الرأي مقدسًا ومُلزِمًا لصاحبه طول العمر، فلربما اتضح من الحقائق ما يُبدد هذا الرأي أو يغير اتجاهه.