«جوزيف شاخت» وآراؤه في الفقه والسنة والقضاء الإسلامي
يقول جوزيف شاخت في محاضرة له حول تكون المذاهب الفقهية: «إن الشافعي كان له أعظم الأثر في بيان طريقة القياس التي ظلت من مميزات علم الفقه».
يرى البعض أن أهم ما قدمه المستشرق جوزيف شاخت في حقل دراسات تاريخ التشريع الإسلامي هو الدراسة الدقيقة عن دور الإمام الشافعي وتجلية جهوده في تطور الاجتهاد في الفقه الإسلامي، كونه أسس لعلم الأصول في كتابه «الرسالة»، ولمبدأ القياس وتطبيقاته في كتاب «الأم».
وبغض النظر عن تضارب الآراء حول ما قدمه شاخت للاستشراق؛ فلا ينفي ذلك أن ما قدمه من آراء أثارت الحديث حول أعماله إلى اليوم قبولاً ورفضاً لتلك الآراء.
من هو جوزيف شاخت وما هي أهم أعماله؟
ولد جوزيف شاخت في 15 مارس 1902م بألمانيا، ودرس اللغات الشرقية حتى عمل مدرسًا في جامعة إيبورج ثم في جامعة كينج سبرنج عام 1934م. وفي عام 1934م دَرَّس فقه اللغة العربية واللغة السريانية بقسم اللغة العربية بالجامعة المصرية، جامعة القاهرة حاليا، ثم عمل بهيئة الإذاعة البريطانية BBC وقت الحرب العالمية الثانية ضد بلاده ألمانيا، حتى تجنس بالجنسية البريطانية، وظل عليها حتى وفاته، ولم يعد إلى ألمانيا منذ ذلك الحين.
وفي عام 1954م ترك بريطانيا وعين أستاذًا في جامعة ليدن بهولندا، وفي عام 1959م اشترك في الإشراف على الطبعة الثانية من دائرة المعارف الإسلامية. وتوفي بجلطة دماغية عام 1969م إذ كان وقتها أستاذًا بجامعة كولومبيا بالولايات المتحدة.
وفي مجال التشريع الإسلامي والتشريع الحديث؛ كتب شاخت عام 1932م مقالته الشهيرة بعنوان «الشريعة والقانون في مصر الحديثة: إسهام في مسألة التجديد الإسلامي». ومن بين أهم أعماله أيضاً تأسيسه مجلة «ستوديا إسلاميكا» مع المستشرق برنشفيك.
أما أهم كتب شاخت التي جمعت الآراء المثيرة للجدل في الساحة العلمية فكتاب «أصول الشريعة المحمدية»، والذي تمركز بحثه فيه حول قضيتين في باب تطور التشريع الإسلامي؛ قضية أصالة الشريعة الإسلامية، وقضية موثوقية الأحاديث الفقهية، ومستجمع أفكار شخت قد لخص في كتابه «مقدمة للفقه الإسلامي».
شاخت مشككًا في أصالة التشريع الإسلامي
في انتقال من مقدمات إلى نتائج بحثية؛ يرى شاخت أن التشريع الإسلامي لا يمتلك أصالة وتفردًا، بل هو خليط من التأثر بالشرائع المحيطة به تمت أسلمتها في عصور تالية لعصر النبي – صلى الله عليه وسلم – ليكتسب شرعية وقوة، وأن النبي – صلى الله عليه وسلم – لم يُقِم نظامًا تشريعيًا صلب البنية.
يشير شخت إلى أن النظام التشريعي الإسلامي تأثر بالتشريع الروماني والفارسي المتجاورين مع الجزيرة العربية، وتأثر أيضًا بالتشريعات التي كانت في الجزيرة العربية ذاتها، ويرى بناء على دراساته في مصادر غير مباشرة أن الجزيرة العربية قبل الإسلام، في القرن السادس الميلادي تحديدًا، كانت تُحكم بنظام تشريعي معقد لكنه كان غير مكتوب، إذ كان هذا النظام يتشعب في المدن، ويأخذ في البادية شكل القانون الفطري البسيط.
ويستدل شاخت على هذا بتشابه صيغ بعض الأحكام في باب المعاملات كمثال مع نظيراتها في القانون الروماني والبابلي وغيرهما، مثل شرط الإيجاب والقبول في العقود الجاهلية والبابلية الذي استمر في التشريع الإسلامي، وفق وجهة نظر شاخت.
بهذا يكون التشريع الإسلامي عند شاخت مجرد محاولات أسلمة لتشريعات سابقة عنه، ولعب الدور الأبرز في هذه المحاولة أولاً سلوك الخلفاء الراشدين الذي تم دمجه في السنة ودونه فقهاء المدينة السبعة.
على هذا المنوال يعرض شخت تساؤلًا حول معنى السنة بالأساس، فيبين أن كلمة سنة لم تستخدم بنفس الدلالة عند الفقهاء المؤسسين للمذاهب الفقهية، وأنها دارت بين معناها الاصطلاحي ومعناها اللغوي، وحتى معناها الاصطلاحي مختلف فيه.
أحاديث الأحكام وشبهة القطعي والظني
من هذا المدخل يلج شخت إلى محاكمة الأحاديث ذات المعاني الفقهية الواضحة، إذ يحكم بوضعها بالجملة، بناء على قاعدة أن النبي – صلى الله عليه وسلم – لم يقم حياة تشريعية، وأن هذه الأحاديث تم اختراعها من قبل الفقهاء لإكساب الأحكام معنى متجاوز. وبرهان شخت على ذلك أن السنة لم تكن تملك هذه المكانة في التشريع قبل أن يدون الشافعي رسالته في أصول الفقه ويعلي من شأن السنة كمصدر للتشريع.
لم تمر آراء شخت بسهولة على الساحة العلمية، ليس على المسلمين فحسب، بل على المستشرقين أنفسهم، فالمستشرق «موتسكي» الذي بين بعض الثغرات التي بنى عليها شاخت أعماله، والباحث الباكستاني «ظفر إسحاق الأنصاري» الذي كتب «نقد منهج جوزيف شاخت في دراسة الحديث». وكذلك وائل حلاق الباحث الفلسطيني الكندي الشهير الذي دون في كتاب «تاريخ النظريات الفقهية» مقدمة في أصول الفقه السن نظرته حول آراء شاخت وعدد من المستشرقين، أورد فيها عدة ملاحظات مهمة من بينها السؤال حول مدى أهمية زعم شاخت بأن الأحاديث المتعلقة بالأحكام الفقهية موضوعة.
من المعلوم أن عدد الأحاديث الثابتة بالتواتر قليل في السنة، وأن الفقهاء أقاموا أحكاماً على أحاديث آحاد، وكونها أحاديث آحاد يعني اعتراف المحدثين والفقهاء أنفسهم بوجود احتمالية أن النبي – صلى الله عليه وسلم – ليس قائلها، فإذا كان أصحاب المنهج أنفسهم يخبرون بأنه ليس كل الأحاديث موقن بنسبتها للنبي، لكنهم يخبرون بأنهم يبنون الأحكام الفقهية التي هي اجتهادية بالأصل، أي ظنية بالتبعية، على ما هو ظني، فما الداعي لإثارة الضجة حول هذه المسائل؟
ثمة تساؤل آخر حول ما قدمه شاخت من قراءة للفقه الإسلامي؛ وهو ما مدى فقهه لمعنى ومنطق التشريع الإسلامي من حيث إنه ليس قانونًا وضعيًا متسمًا بالثبات، وقراءة الفقه من حيثية دينامكيته وتعلقه بأصول كلية، تظهر هنا قيمة النظر إلى المدخل الذي يقرأ من خلالها المستشرق مبحثه.
كذا قضية الاجتهاد، كيف يقرأ المستشرق بفهمه قضية أن العقل المسلم يعي تعبده بالظني لا القطعي، وأن الفقه في نظر المسلم من جملة الأمور الظنية، واجتهاد العلماء ظني، وبالتالي فإن بذل الجهد في إثبات هذه الظنية للاستدلال بها على عدم أصالة الشريعة الإسلامية يعتبر دربًا من العبث، إذ إن المستشرق يجهد نفسه لإثبات ما هو مثبت معلوم لأهله، وكان يومًا معلومًا لعموم المسلمين، قبل الوقوع في سلة من الأفكار الحداثية التي تفترض للفعل البشري الثبات الخارج عن ماهية الإنسانية.
إن باب التفريق بين الأصول والفروع والثوابت والمتغيرات في التشريع الاسلامي باب عظيم من العلم، من مدخله يحدث كثيرًا من الخلط لدى العقليات المعاصرة والمستشرقة، يظهر ذلك في محاولات شاخت إثبات نظريته في عدم أصالة التشريع الإسلامي بالنظر إلى تاريخ القضاء الشرعي وعدم ثبات الأحكام فيه، هنا تفيدنا إشارة وائل حلاق إلى أهمية النظر للتشريع الإسلامي باعتبارات معرفية، والنظر إلى تطوره دون فصله عن إطاره المجتمعي والتاريخي.
لو كان فهم أن عملية القضاء في التاريخ الإسلامي تختلف عن عملية القضاء الحديثة؛ فالثابت في العقلية المسلمة أن الأصل هو الاجتهاد، والتقليد استثناء، وليس المعتاد أن يتفق اجتهاد مجموعة من البشر بعضهم مع بعض في عصور مختلفة، كتوافق القضاء الحديث المحكوم بقانون وضعي ثابت.