يوسف وتنازع سلطة الأحلام: الأيقونة وإعادة الخلق
جُمعت آيات القرآن الكريم قبيل وفاة الرسول، وصارت نصًا كليًا، تتراسل وحداته النصية، وتتصادى، ويُضيء بعضها بعضًا، وخلاله نجد يوسف نبيًا رسولًا، (سورة غافر: 34)، وكذلك إخوته الأسباط أنبياء رسلًا، يوحى إليهم وهم مسلمون. (سورة النساء: 163) و(سورة البقرة: 136، 140).
أقترح ألّا نتوقف عند الدلالة الحرفية لدال الحلم، فنقصر مهمة يوسف على تعبير الأحلام، أو الرؤى، فنحن نجده– في السورة نفسها– نبيًا رسولًا يمارس الدعوة الإسلامية إلى التوحيد، مثلما فعل محمد (صلى الله عليه وسلم) في مكة؛ فينادي «يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار» (سورة يوسف: 39)، ويقول الله تعالى: «وكذلك يجتبيك ربك ويُعلمك من تأويل الأحاديث»، نتساءل: هل يجتبي الله إنسانًا، ويصطفيه، ويختاره، ويصطنعه، لتقتصر مهمته على تفسير الأحلام؟ لابد أن للأحلام شأنًا آخر، يرتبط بما يُناسِب شخصية النبي الرسول.
الأحلام/ الرؤى في الثقافة الإسلامية وسيلة من وسائل معرفة الغيب، ضرب من الوحي، فقد انتهى بعد الإسلام، ونزول سورة الجن، أن تكون الشياطين مصدرًا للوحي أو الغيب (سورة الجن: 9)، ويذكر السيوطي أن أنواع الوحي ثلاثة: منها الوحي الجلي بالملك جبريل، ومنها الوحي بالحلم أو الرؤيا، ومنها الوحي بالإيقاع في الروع أو في خلد المتلقي (السيوطي: الإتقان في علوم القرآن). وصارت هذه طرق معرفة الغيب المرتبط بالخير والنبوة، والتي تتحول عند إرسالها وتلقيها إلى رسالة.
ويلاحظ أن الأحداث الجسام كلها تستبقها رؤيا تُضفِي عليها هالة من العجيب والقداسة والغيب، على سبيل المثال مولد النبي محمد، والإيذان ببدء تمكن العرب من مشارق الأرض ومغاربها، والاستيلاء على ملك فارس والروم (انظر: رؤيا كسرى والموبذان: السيرة النبوية لابن هشام).
يستخدم القرآن الكريم «تأويل الأحاديث»، ولم يستخدم تعبير الرؤيا الذي عنوَّن به المؤلفون المسلمون مؤلفاتهم عن الأحلام، والذي يعني تحويل العلامات المرئية إلى علامات لغوية، وما ورد في القرآن على لسان الملك: «إن كنتم للرؤيا تعبرون»، أي تنتقلون بها من حيز الرؤيا إلى حيز الواقع المعيش، أي العبور بالرؤيا، وهو المصدر السماعي للفعل الثلاثي «تعبرون»، أمّا التعبير فهو المصدر القياسي للفعل الرباعي «عبر»، الذي يعني في صراحة ووضوح التعبير اللغوي عن الحلم.
وتُحيلنا كلمة التأويل «هذا تأويل رؤياي» إلى التوقف عند كلمة التأويل، وأصلها الاشتقاقي؛ فهي من الأَوْل، أي الرجوع إلى الأصل، وإلى عاقبة الأشياء، ومنتهاها ومصيرها (ابن منظور: لسان العرب). وعلى ذلك فإذا كان الحلم/ الرؤيا بدايته لدى صاحبه، فإن نهايته لا بد أن تكون في الواقع.
وهو حديث يُنتظر إلى ماذا سينتهي؟ فبدايته معلومة، لكن عاقبته مجهولة، تقع في عالم الغيب، وهذا يعيدنا إلى وظيفة النبوة التي هي– في الثقافة الإسلامية– طاقة تُفتح في الغيب، بواسطة قوى خيّرة مقدّسة.
وما كانت أحلام يوسف إلا نبوءات سلطوية لما ستؤول إليه حال بني إسرائيل، وإلى منْ ستنتهي إليه الرياسة من أسرته، بخاصة وأن يوسف ليس الابن البكر أو الأكبر لتكون رياسته مُقررة سلفًا في بني إسرائيل، بغير نبوءة أو رؤيا.
ثم إن ما رآه ملك مصر الذي يبدو– في صورة حسنة- شخصًا مسئولًا مهمومًا بأمور مصر، يستشير الحكماء، ويستعين بذوي الخبرة، مهما تكن أعراقهم أو أديانهم، والرؤى تتعلق بمستقبل مصر، والمستقبل في الغيب، فقام يوسف بتحقيق العبور من الحلم إلى الحياة/ المستقبل أو الغيب.
ومن ثَم ظهرت موهبة يوسف في الاقتصاد والتدبير والتخطيط للمستقبل، تصديقًا لقوله: «إني حفيظ عليم»، فكان طلبه أن يكون على خزائن الأرض، ليسهم في تحقيق المآل والمصير، وإنتاج رؤياه، لتنتقل الرؤيا من حيز الحلم إلى حيز الواقع.
لكن يبقى التمييز واضحًا– كما هو مقرر في الثقافة الإسلامية– بين الحلم والرؤيا، فقد ورد الحلم على لسان من يُشكِّك في أهميتها «أضغاث أحلام» (سورة يوسف: 43، 44)، ووردت كلمة الرؤيا على لسان من يصدق بإمكان تحققها في الغيب، أي في المستقبل حتى ولوكان الحالم ملك مصر.
وامتد قول يوسف «قضي الأمر الذي فيه تستفتيان»، ليظهر على لسان النبي: الرؤيا على جناح طائر ما لم تعبر، والذي يحمل الإحساس بالخوف الفطري من حمل الرؤيا للغيب.
ثم يكون التعبير أي تحويل السيميائيات المرئية (الأيقونة البصرية)، إلى سيميائيات لغوية (أيقونة لغوية)، يشير إلى قوة الكلمة، وفاعليتها في الخلق «إنما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون»، وإلى قدرة الكلمة على استحضار مُسمّاها أو ما تشير إليه.
ثم ألّا يَبين التنافس بين شخصية يوسف والملك؛ فكلاهما قد رأى في المنام، وكلاهما قد تحقّقت رؤياه، ولكن من يمتلك القدرة على العبور بالحلم إلى المستقبل أو الغيب. إنه النبي لا الملك؛ ذلك لأن النبي يمتلك القدرة على إعادة الإنتاج والخلق، لا قيمة للحلم ما لم يعاد خلق أيقونيته.
ثم ألّا نلاحظ قدرة إخوته على قراءة رؤياه، وهذا ما يُبرِّر كونهم– في القرآن الكريم– أنبياء مثله أيضًا. ثم ألم يعتل يوسف العرش مثل الملك، ذلك لأنه امتلك القدرة على التأويل، وإيالة الكلام أو سياسته.