جوزيه ساراماجو: تحطيم الأساليب التقليدية للكتابة
ينتشر وباءٌ في مدينةٍ لا تحمل اسمًا. يمتلك هذا الوباء عَرضًا واحدًا فحسب: العمى. يأتي دون أن يُحدِث جلبة، أو ألماً، أو أدنى تحذير. في لحظة واحدة، يجلس رجل في سيارته منتظرًا إشارة المرور، وفي اللحظة التالية يذوب عالمه في لونٍ أبيض. ما يلي ذلك من أحداث القصة ليس سوى مجرد تصورٍ يلفت الانتباه لأفضل وأسوأ ما في الطبيعة البشرية.
إن كانت رواية «1984» لـجورج أورويل تحمل الرعب من فرض الرقابة الجماعية والخوف الدائم من تَوغل السُلطة في حياة الأشخاص، فإن رواية «العمى» هي النقيض من ذلك؛ حيث كانت الرؤية الديستويوبية للروائي جوزيه ساراماجو، الذي حاز على جائزة نوبل في الآداب، هي الغياب التّام للسُلطة، فتخيل ساراماجو عجز الرقابة التنظيمية للحكومات، ومع عدم قدرة أي شخص على الرؤية، فإن شخصيات الرواية، التي لم يُعطِ لها أسماءً، تنغمس في عالمٍ من الفوضى، حيث البقاء للأقوى.
حتى أن أبسط الأعراف الاجتماعية الأساسية أضحت في طي النسيان، حيث يخلق الصراع من أجل البقاء عَرضًا ثانويًا وهو العمى الذهني، ويمكن لعددٍ قليلٍ من الشخصيات أن يتخيلوا مستقبلًا آخر، أبعد من تلبية احتياجاتهم وغرائزهم الجسدية اللحظية.
كل مأساة هي مأساة شخصية
لطالما انبهر رواة القصص بكيفية تصرف مجموعات من البشر عند وضعهم في مواقف وظروف مفرطة القسوة، كالانهيارات الاجتماعية التي لم تَعد تُطبّق فيها قواعد السلوك المألوفة. في هذه الروايات الخالدة، يرجع الخيال إلى السؤال الأساسي: «ماذا لو؟»… واعتمادًا على طبيعة السؤال، نُقيّم أنفسنا، لنتساءل كيف سيصمد سلوكنا في خضم المعركة، أو خلال فوضى الأزمات الكُبرى.
عادةً ما تحكي هذه الروايات عن حقائق بغيضة في المجتمع، مثل رواية «ملك الذباب» لـويليام جولدينج، أو رواية «الطريق» لـكورماك مكارثي.
يخلق جوزيه ساراماجو حالةً مماثلةً في روايته «العمى»؛ سرد لانهيارٍ مجتمعي ينجم عن وباءٍ سريعِ الانتشار، يفقد فيه الأشخاص بصرهم فجأة. في بداية انتشار هذا الوباء، فرضت الحكومة الحجر الصحي في محاولة للحدّ من العدوى، لكن باءت كل تدابير الاحتواء بالفشل، وانهارت في أعقابها مؤسسات الدولة تباعًا.
تتبع أحداث الرواية مجموعة صغيرة من الأشخاص في محاولة إيجاد طريقهم خلال الاضطرابات والقلاقل التي تحيط بهم. لم يُعطِ ساراماجو أسماءً شخصية لأبطال روايته، إنما تسميات عامة إلى حد ما؛ فنتابع مسار «أول رجل أعمى» وهو يفقد بصره أثناء قيادة سيارته، لنجد أن الشخص الذي ساعده في الوصول لمنزله يسرق سيارته في النهاية. وسرعان ما يجد هذا الرجل -الذي يُشار إليه بـ«اللص»- أنه قد أصابه العمى أيضًا، قد يعتقد القارئ أن هذا هو العقاب الإلهي على فعلته، ولكن سرعان ما نجد أن الكثيرين يصابون بالعمى، كالطبيب الذي حاول علاج أول رجل أعمى، وكذلك الأشخاص الذين كانوا في غرفة الانتظار حينها.
نتبع هذا النموذج المصغّر للمجتمع طوال الرواية؛ إذ يقاوم ساراماجو الإغراء بالنظر إلى انتشار الوباء على مستوى المجتمع ككل، فتقريبًا كل مأساة كُتبت في الرواية هي مأساة شخصية. قد تتداعى الحكومات وتنهار الكنائس، قد يتعثر حُرّاس السلام، لكن يواصل ساراماجو تركيزه على مجموعته الصغيرة المُكونة من هذه الشخصيات.
رواية دسمة ونهاية مفتوحة
تدور معظم أحداث الرواية في مستشفى، حيث تم احتجاز المصابين بهذا المرض في الحجر الصحي. تفتقر هذه البيئة لاحتياجات الحياة الأساسية كالغذاء والدواء والمياه النظيفة. وفي عالمٍ من الفوضى والعمى، تجتمع شخصيات الرواية معًا من أجل طلب الحماية، والبحث عن متطلبات الحياة الأساسية.
عندما يتعامل مع المسائل الاجتماعية، فإن ساراماجو لا يُبادر بالوعظ بل يرفض من يفعلون ذلك بسخرية. وفي هذا العالم الجديد، الذي يقود فيه العميان بعضهم، تخطب مجموعة منهم خطابات نارية في الساحة العامة، ليكتب ساراماجو:
يتشكك ساراماجو فيمن يبحثون عن معنى أكبر في الأحداث، ولعل هذا الازدراء للإجابات السهلة هو ما جعله يتجنب المشهد الوحشي لرواية «ملك الذباب»، فبالنسبة له هؤلاء الأشخاص ممن يخضعون لظروف قاسية، ليسوا أشرارًا بالكامل وليسوا أخيارًا بالكامل أيضًا؛ هم مزيج مخيف بين الاثنين.
في نهاية المطاف، تنتج لنا رواية دسمة للغاية، بنهاية مفتوحة. بالتأكيد هناك دروس يمكن أن نتعلمها منها، لكن لن يصفها لك جوزيه ساراماجو بهذه البساطة، فيمكنك استخدام رواية «العمى» كنقطة انطلاق لمناقشة الأخلاقيات والإدارة والطب وحقوق الإنسان ومجموعة متنوعة من القضايا الأخرى، ولكن بإمكانها بداية الحوار فحسب، ولهذا السبب تحديدًا تعتبر من الروايات المثيرة للتفكير، مقارنة بالروايات الحديثة التي تسعى لتقديم نهاية مريحة.
الواقعية السحرية في الرواية
بدأ تيار الواقعية السحرية في الفن في ألمانيا، في مدينة ميونيخ تحديدًا، بعد نهاية الحرب العالمية الأولى وهزيمة ألمانيا، حيث نشأ لدى الشعب شعور بخيبة الأمل والغضب، وحالة من عدم الاستقرار بسبب الركود الاقتصادي. وكان أول من صاغ مصطلح الواقعية السحرية، عام 1925، هو الناقد الفني الألماني فرانز روه، عند زيارته لمعرض فني في مانهايم تجلّت فيه هذه الحركة الفنية، حيث شارك فيه 32 فنانًا بما يزيد على 130 عملًا فنيًا.
وفي الفن، يعبر مصطلح الواقعية السحرية عن اللوحات الفنية التي تُمثل «الأجسام مع تصوير طبيعي»، ولكن بسبب العناصر الغريبة والمتناقضة فإنه يعطي شعورًا بعدم الواقعية والغموض.
رغم أن المصطلح يعتبر حديثًا في الأدب، فإن عناصر الواقعيّة السحريّة كانت تظهر منذ التطور المبكر للرواية والقصة القصيرة، بوصفها أشكالًا أدبيةً حديثةً. فيمكنك أن ترى تلك العناصر بوضوح في قصة «رحلات جوليفر»، عام 1726، للكاتب جوناثان سويفت، والتي تروي واقعيًا المغامرات الرائعة لجراح إنجليزي. وفي أعمال بعض أعظم الروائيين أمثال ديكنز، دوستويفسكي، كافكا، سينجر وآخرون.
والآن، أصبحت الواقعية السحرية أمرًا شائعًا، واتجاهًا رئيسيًا في أدب الخيال المعاصر، وبشكل خاص في أدب أمريكا اللاتينية، خاصةً في أعمال جابرييل غارسيا ماركيز، مثل مائة عام من العزلة. وفي جميع الحالات يشير المصطلح إلى ميل كتاب الخيال المعاصر إلى خلط السحر والأمور الدنيوية في سياق عام من السرد الواقعي.
كما تحوّلت في وقتٍ لاحق من التسعينيات لتصبح لغة عالم ما بعد الاستعمار، كما يذكر ستيفن سليمون في مقاله «الواقعية السحرية كخطاب ما بعد الاستعمار»:
ففي لغة السرد في نص واقعي سحري، تحدث معركة بين نظامين متعارضين، يعمل كل منهما على خلق نوع مختلف من العالم الخيالي. ونظرًا لأن القواعد الأساسية لهذين العالمين غير متوافقة، فلا يمكن لأحدهما أن يظهر إلى حيز الوجود، ليظلا مُعلّقين في جدل مستمر مع بعضهما البعض.
تحطيم الأساليب التقليدية للكتابة
في عام 1998، حاز الروائي البرتغالي جوزيه ساراماجو على جائزة نوبل للآداب، وكان عمره يقارب السادسة والسبعين عامًا، ولكن مهنته كروائي لم تبدأ حتى كان بعمر الخامسة والخمسين. وفقًا لـمايكل كارلسون، مُنح جوزيه ساراماجو جائزة نوبل لأنه في حقيقة الأمر:
ويشير كارلسون إلى أن جذور الواقعية السحرية في كتابات ساراماجو تعود إلى طفولته، بسبب تربيته من قِبل جده الأمّي، والذي انبهر به ساراماجو لقربه من الطبيعة. قدمت له تلك الواقعية السحرية وسيلة للتحدث عن المجتمع المضطرب في البرتغال، حيث حكم الديكتاتور أنطونيو سالازار البلاد لأكثر من خمسين عامًا، وأبقى مجتمعهم «متخلفًا وريفيًا ومعزولًا وكاثوليكيًا».
يمزج ساراماجو عناصر مختلفة من الواقعية السحرية، كما يتميز أسلوبه بصفات خاصة، ولا يعتمد على طرق الكتابة المعتادة بالنظر إلى السرد والوصف والحوار، ولهذا قد يضلّ القارئ بسبب الفقرات المتصلة وغياب علامات الترقيم.
يُركّز جوزيه ساراماجو على هشاشة المجتمع، ويوضح لنا كيف يفقد الناس أنفسهم في المجتمعات الحديثة، في محاولة للتكيف مع تطور تلك المجتمعات لتحقيق أهدافهم، فهم يتبعون نظام المجتمع، ويشكلون مبادئهم الخاصة في محاولة لعيش حياة ذات معنى. ومع ذلك، عندما ينهار هذا النظام، لا يمكن للمجتمع أن يعمل بشكل صحيح، وتكون النتيجة هي الفوضى. يستخدم ساراماجو هذا المزج في أعماله لينتقد أوضاع مجتمعه وأوضاع العالم من حوله.
وفي رواية «العمى»، حيث يصاب الجميع بالعمى باللون الأبيض، ودون أي أسباب علمية، لا يوضح لنا سارماجو أي شيء؛ ففي النص الواقعي السحري لا تتضمن الأحداث الرئيسية تفسيرًا منطقيًا، ويحاول الكاتب خلق لغز وراء الأشياء الحقيقية.
ومن أجل خلق هذا الشعور بالغموض، والذي يمثل العنصر التالي في الواقعية السحرية، حطّم ساراماجو الأساليب التقليدية للكتابة، وكتب فقرات طويلة تفتقر إلى علامات الترقيم، كما لم يُعطِ أسماءً لشخصياته، إذ يجب أن يكافح القارئ لقراءة الرواية، ويبحث عن اللغز وراء الأشياء.