جون ليرر: لماذا لا نؤمن بالعلم؟
أعلنت منظمةُ «غالوب» الأسبوع الماضي نتائجَ دراستِهم الاستقصائيَّة الأخيرة حولَ الأمريكيين والتَّطور، فجاءت الأرقام صادمةً بكلِّ ما تعنيه الكلمةُ لمُدرِّسي العلوم في المدراس الثَّانوية في كلِّ مكان؛ فقد جاءت الأرقام كالتالي: 46% من البالغين يؤمنون أنَّ «الإله قد خلق البشر على صورتهم الحاليَّة خلال الـ 10,000 سنة الأخيرة»، بينما 50% يتَّفقون مع القولِ بتطوِّر الإنسان دون أيِّ تدخُّلٍ من قوِّةٍ إلهية.
الثَّبات هو ما يُميِّز هذه الأرقام؛ إذ لم يطرأ أيُّ تغييرٍ فعليٍّ على هذه النُّسب منذ ثلاثين عامًا؛ أي: منذ أن بدأت غلوب استقصاءها، وبالتالي فإنَّ آراء 44% منهم بخصوص الخلق في عام 1982 أظهرت فارقًا ضئيلا عنها في عام 2012، وعلاوةً على ذلك فإنَّ نسبة الأمريكيين المؤمنين بنظرية التَّطور البيولوجي قد ارتفعت بنسبة 4% فقط خلال العشرين سنةٍ الماضية.
بياناتٌ استطلاعيةٌ كهذه تُبرز تساؤلات كثيرة: لِمَ يُعدّ من الصَّعب الإيمان بمثل هذه الأفكار العملية؟ ما الذي يجعل العقول البشرية شديدة المُقاومة لحقائق مُعيَّنة حتى وإن كانت هذه الحقائق مُدعمَّة بعددٍ كبير من الأدلة؟
تساعد دراسةٌ جديدة بإشراف «أندرو شتولمان» في كلية «أوكسيدنتال» بتوضيح أسباب عناد جهلنا، فقد لاحظ شتولمان أنَّ النَّاس ليسوا ألواحًا فارغة تتلهَّف لاستيعاب أحدث التَّجارب لتكون جزءًا من نظرتهم للعالم؛ بل إنَّنا مُجهَّزون بدلا من ذلك بكلِّ أنواع البديهيات السَّاذجة عن العالم، بديهياتٌ كثيرٌ منها خاطئ.
فعلى سبيل المثال: يؤمن النَّاسُ بشكلٍ طبيعي بكون الحرارة مادة، وبكون الشَّمس تدور حول الأرض، بينما تكمنُ السُّخريةُ في نظرية التَّطور بأن تصوُّرنا الذاتي عن تطورنا كبشر لا يبدو أنَّه يشهدُ أيَّ تطور.
هذا يعني أنَّ دراسة العلوم ليست ببساطةِ مسألة تعلُّم نطرياتٍ جديدة؛ بل إنها أيضًا تتطلب أن يطرح ويلغي الطُّلابُ معرفتهم الغريزية والتخلص أيضًا من اعتقاداتهم الخاطئة بالطريقة ذاتها التي تُزيل بها الأفعى جلدها القديم.
ابتكر شولتمان اختبارًا بسيطًا ليوثِّق من خلاله التَّوتر بين المفاهيم العليمة وحسّنا قبل العلمي، فقد طلب من 150 طالب جامعي، قد اجتازوا عدة موادٍ من متطلبات الكلية في العلوم والرياضيات، أن يقرؤوا 100 معلومةٍ علمية، وأن يُقيِّيموا مدى صحة هذه المعلومات بأسرع ما يُمكنهم.
وبهدف خلق الإثارة قام شولتمان بإعطاء الطلاب معلوماتٍ صحيحة بديهيًا وحقيقيًا، من ضمنها مثلا معلومة «يدور القمر حول الأرض»، ومعلومات أخرى تُعدّ حقيقةً علمية لكنها تتعارض مع بديهياتنا مثل «تدور الأرض حول الشمس».
وكما كان متوقعًا فقد استغرق الطلاب وقتًا طويلا لتقييم مدى صحة تلك المعلومات التي تتعارض مع حدسهم؛ إذ إنَّ معلومات مثل «تدور الأرض حول الشمس»، و«الضغط يولد الحرارة»، و«الهواء مكوَّن من المادة والعناصر الرئيسية»؛ إذ ترد هذه المعلومات في كلِّ الفروع العلمية ابتداءً من نظرية التطور وعلم الفلك ووصولا إلى الديناميكية الحرارية، قد استوقفت هذه العبارات الطلاب، فبالرغم من إدراكنا لصحة هذه العبارات لكننا هنا نتصرف عكس ما تُمليه علينا معرفتنا الغريزية، وهو ما يؤدي لتأخير واضحٍ في التقييم.
ما يُثير الدهشة في هذه النتائج هو أننا حتى بعد استيعابنا للمفهوم العلمي إلا أنَّ الاعتقاد الأول ما يزال باقيًا في عقولنا، على سبيل المثال: إنَّ غالبية البالغين المُدركين للحقيقة الكوبرنيكية بأنَّ الأرض ليست مركز الكون؛ غير أنَّ إدراكهم لهذه الحقيقة لا يعني نسيانهم التام لحدسهم الخاطئ فيما يخص الكون، نحن نقوم فقط بتجاهلها.
لخَّص شولتمان وزملاؤه ما توصلوا له بقولهم: ما الذي يحدث للنظريات القديمة لدى الطلبة حين يدرسون نظريات علمية تناقض النظريات السَّخيفة السَّابقة لديهم؟ النتائج التي توصلنا لها تشير أنَّ تلك النَّظريات الساذجة تُكبح بفعل النظريات العلمية لكنَّها لا تحلّ محلها.
لم يقتصر ما قدمته هذه الورقة البحثية فقط على توضيح سبب مقاومة الأمريكيين لمفاهيم علمية مُحددة -نظرية التطور على سبيل المثال تُناقض حدسنا الساذج ومُعتقداتنا الدينية- بل إنَّها أيضًا تُضيف لأوراقٍ بحثية سابقة توثِّق عملية التَّعلم داخل العقل، لن نتمكن من إدراك سبب عدم إيمان غالبية الناس بالعلم حتى نُدرك سبب إيمان البعض به.
عرض «كيفن دنبار»، عالم نفس في جامعة «ماريلاند»، في دراسة قام بها في 2003، بعض الأفلام القصيرة لسقوط كرتين متفاوتتين في الحجم للطلاب، الفيلم الأول يعرض سقوط الكرتين بنفس مُعدل السرعة، بينما يعرض الفلم الثاني سقوط الكرة الكبيرة بُمعدل سرعةٍ أكبر.
وبالتالي فإنَّ هذه اللقطات ثُمثل محاولة إعادة بناء لتجربة «جاليلو» الشهيرة والتي من المُحتمل أنَّها أُجريت بسريَّة، إذ قام بإسقاط قذيفتي مدفع متفاوتتين في الحجم من فوق برج بيزا، لكن كلا الكرتين قد سقطتا في الوقت ذاته، فكانت التجربة بالتالي دحضًا لما جاء به «أرسطو» حين ادَّعى أنَّ الجسم الأثقل أسرع سقوطًا من غيره.
بينما كان الطلاب يشاهدون تلك اللقطات طلب منهم دنبار أن يختاروا أدقَّ تمثيلٍ للجاذبية، لم يكن مُفاجئًا أن الطلاب على مقاعد الدراسة ممن لا يملكون أي خلفية فيزيائية لم يتفقوا مع ما جاء به جاليلو؛ إذ اعتبروا سقوط الكرتين بمُعدل السرعة ذاته أمرًا غير واقعي للغاية، كلنا أروسطيون حدسيًا.
وعلاوةً على ذلك فقد راقب دنبار ما كان يحدث في أدمغة الطلاب باستخدام جهاز الرنين المغناطيسي الوظيفي، فقد وجد حين قام بعرض الفلم الصحيح لطلابٍ من تخصصات غير فيزيائية أن الفلم قد أثار نمطًا مُعينًا لنشاط الدماغ لديهم؛ إذ إن هناك تدفقًا للدم في قشرة الدماغ الحزامية الأمامية، وهي عبارة عن طوقٍ من الأنسجة يقع في وسط الدماغ.
إنَّ القشرة الحزامية الأمامية AAC تلك مُرتبطٌة عادة بإدراك الأخطاء والتناقضات -غالبًا ما يُشير علماء الأعصاب لهذا الأمر بوصفه جزءا من دائرة القرف- وبالتالي فإنَّه من المنطقي أن تعمل هذه المنطقة عند مُشاهدتنا لفيلم يبدو خاطئًا وإن كان صحيحًا في حقيقة الأمر. لم تكن النتائج صادمةً بالنسبة لنا؛ فنحن ندرك مُسبقًا أنَّ غالبية الجامعين يفتقدون للفهم الأساسي للعلم، لكن دنبار قد أجرى الاختبار لطلاب الفيزياء أيضًا، وبالتالي فقد مكَّنتهم دراستهم من تحديد الخطأ كما كان متوقعًا، فهم على علمٍ أنَّ جاليلو كان مُحقًا.
ولكن تبيَّن أنَّ هناك شيئًا مُثيرًا للاهتمام يحدث في أدمغتهم مكَّنهم من التَّمسك بهذا الاعتقاد، فعندما يرون الفلم الصحيح علميًا فإن تدفَّق الدم يزداد في جزء مُعين من الدماغ يُسمى الفص الجبهي الظهراني (D.L.P.F.C) يقع هذا الجزء خلف الجبين تمامًا وهو آخر أجزاء الدماغ تطورًا عند البالغين الصغار، كما أنَّها تلعب دورًا أساسيًا في كبح ما يسمى بالتمثيلات غير المرغوب بها والتخلص من تلك الأفكار غير المُفيدة وغير المُستخدمة، وبالتالي فإذا كنت لا تريد التفكير بالمثلجات أو تحتاج التركيز في مُهمةٍ شاقة فإنَّ الفص الجبهي الظهراني سيبذل جُهدًا كبيرًا ليُبقي على تركيزك.
بحسب دراسة دنبار فإنَّ سبب توظيف طلاب الفيزياء للفص الجبهي الظهراني هو انشغالهم بكبح حدسهم ومقاومة إغراء خطأ أرسطو، سيكون من المريح لو أن قوانين الفيزياء تتماشى مع معتقداتنا الساذجة أو لو أن نظرية التطور كانت خاطئة وبالتالي فإنَّ الأحياء لا يتطوَّرون من خلال طفراتٍ عشوائية، لكن الحقيقة ليست مرآة تعكس الظاهر؛ إذ إنَّ العلم ملئٌ بحقائق يصعب التعامل معها، ولهذا السبب فإنَّ الاقتناع وتصديق النظرية العلمية الصحيحة يتطلَّب مجهودًا كبيرًا.
بالطبع فإنَّ هذا الجهد العقلي المُضاعف ليس سارًّا دائما؛ ذلك بسبب ما يسمّى بـ التنافر المعرفي cognitive dissonance، قد استغرق تحول النظرية الكوبرنيكية لتيارٍ نظريٍ رئيسي بضع مئاتٍ من السنين، وبالنَّظر للمُعدل الحالي فإنَّ نظرية التطور الداروينية على الأقل في أمريكا ستستغرق الوقت ذاته.