اندلع حريق في كواليس أحد المسارح، خرج المهرج لكي ينذر الجمهور، اعتبروها مزحة وبدؤوا في التصفيق، كررها مرة أخرى، حصل على رد فعل أكبر، أعتقد أن العالم سوف ينتهي بهذه الطريقة، بجموع الأذكياء الذين يعتبرونها مزحة
الفيلسوف الدنماركي سورين كيركجارد

ورد ذلك المثل في أول الأعمال المنشورة للفيلسوف الدنماركي كيركجارد، مثل يوضح طبيعة الحقيقة وتلقيها، والعقل الجمعي وعلاقته بالفن، لكن في قلب الاستعارة اختار كيركجارد المهرج، فهو بالنسبة للجمهور شخص غير قابل لأن يؤخذ على محمل الجد، فأصبح المثل نقداً مزدوجاً لطبيعة الجموع المغيبة وللمسرح كوسيط، فوجود المهرج على المسرح في لحظة الحقيقة تلك يحولها إلى إحدى خدعه، فتلك هي بيئته الطبيعية، هو ليس إنساناً بالكامل هو واجهة جاهزة للإضحاك دوماً، وبسبب ذلك تكمن المفارقة فعلى لسان الشخص الأخير الذي يمكن تصديقه سيأتي خبر نهاية العالم وسيقابله الجموع بالضحك والتصفيق.

في ذاك المثال الذي يمكن اعتباره مفارقة فلسفية وغيره الكثير يمكن دراسة استخدام المهرج كمجاز لفكرة تضاد الظاهر مع الباطن وعلاقة المؤدي بجمهوره، وسيكولوجية المهرج نفسه كون عمله يقتضي إظهار السعادة بشكل دائم، والسعادة هنا متمثلة في فعل الضحك بالإضافة للجماليات المرتبطة بالوظيفة من ملابس ملونة ومستحضرات تجميل ساطعة تساعده على التخفي فيصبح آخر غيره، وبسبب طبيعة الإنسان التي تنبذ أحادية الشعور تطورت نظرة الجمهور للمهرج، من النظرة له باعتباره الأحمق كما في مسرحيات شكسبير إلى النظر له باعتباره روحاً معذبة حبيسة جسد يدعي السعادة، فهو يضحي من أجل الآخرين ومن أجل كسب قوت يومه، وبجانب شعور الشفقة يوجد أيضاً شعور الرعب من شخص ذي شعور واحد، فرسم السعادة الدائم يثير المخاوف من طبيعة نفسية المهرج، هل تمثل الضحكة المحفورة صعوبة في اكتساب المشاعر الأخرى؟ وبسبب طبيعة وظيفة المهرج الشكلية والجمالية استخدمته الفنون المختلفة كمجاز وأداه لرسم الشخصيات في الفن التشكيلي والمسرح والسينما، واستمر المجاز لسنوات وحتى اللحظة التي نحياها الآن لم ينضب رغم نزوعه للابتذال.

من الكوميديا الإيطالية للقصص المصورة

يمكن إرجاع ظهور المهرج بشكله الحالي أي مهرج السيرك إلى القرن التاسع عشر، تطور عبر السنوات لكن خصائصه الشكلية والتعبيرية استمرت إلى الآن، وجه مغطى بالأبيض وأحذية كبيرة الحجم لكي تضخم التصرفات الخرقاء، بالإضافة للملابس الملونة ذات النقشات مثل الدوائر والخطوط العرضية والطولية، الكوميديا التي يؤديها مهرج السيرك تعتمد بشكل أساسي على شخصية الأحمق الذي يتعثر بسهولة ويجهل كيفية التصرف في أشد أمور الحياه عادية، تعود فكرة الأحمق المضحك قبل أن يصبح بشكله الحالي إلى ما يسمى الكوميديا المرتجلة (commedia dell’arte) في المسرح الإيطالي القديم من القرن السادس عشر وحتى الثامن عشر، وهو مسرح يعتمد على الشخصيات النمطية وكل منها لها ملابسها الخاصة وقناعها الخاص، فهناك الدكتور الذي يعرف كل شيء أو العجوز الجشع، وهناك الأحمق أرليكينو أو الهارليكوين الذي سميت باسمه الشخصية الشهيرة في قصص باتمان وتم استلهام أسلوب ملبسها منه.

شكل المهرج في الكوميديا الإيطالية – هارلي كوين إحدى شخصيات القصص المصورة

مسلٍ أحمق أم لسان للحقيقة

فكرة المسلي الأحمق لم تكن اختراع المسرح أو للأداء أمام جمهور يدفع ليشاهد شخصية مكتوبة بل كان يتواجد في البلاطات الملكية يؤدي لصالح الحاكم، يرتدي الملابس المضحكة ويتقاذف الكرات الملونة ويؤدي الحركات الأكروباتية ويطلق النكات، بشكل حرفي يجعل من نفسه أحمق، وإذا كانت السينما والفنون الحداثية تستخدم المهرج كمجاز فلقد حدث ذلك في الأدب القديم، وأكثر الأمثلة وضوحاً هو مسرحيات شكسبير حيث استدعى شخصية مهرجي البلاط الملكي وكتب شخصيات للأحمق الذي على الأغلب ليس بأحمق على الإطلاق بل يستغل النظرة المتوجهة له التي تجعله خارج مساحة الاتهام إذا نطق بالحكمة والحقيقة، فالفكرة مرة أخرى تكمن في التضاد بين الشكل والمضمون، شخص أبله في زي مهرج ملون، ومن الممكن القول إنه مصاب بالجنون لكن يظهر في نهاية الأمر أنه على حق وأن جنونه هو العقل الوحيد وبلاهته هي عين الحكمة، فهو مجاز للصدق والمنطق في عوالم مليئة بسوء التفاهم والجنون.

الملك لير والأحمق، لوحة لويليام دايس

تواجد المهرج في الفنون البصرية أيضاً منذ سنوات مبكرة، أشهر الأمثلة على ذلك هو الفنان الإيطالي جيوفاني دومينكو تيبولو الذي اختص في فترة من حياته بصنع صور تتناول أحد شخصيات كوميديا الارتجال الإيطالية وهو مهرج يسمى بولسينيلا، في استمرار لمفهوم الثنائيات التي تحملها شخصية المهرج فإن تلك الشخصية تملك قصة خلفية فهو نشأ على يد أبين ذكرين، بسبب اختلاف أبويه يحوي هو نفسه تناقضات شكلية وموضوعية، ويمكنه أنه يدعي دور الأحمق رغم وعيه أو أن يدعي الذكاء رغم جهله الشديد، تخلى تيبولو عن اللوحات الدينية وبدأ في رسم المهرجين أثناء تأدية أعمالهم بأزيائهم الخاصة، رسم وجوههم المحرفة بأنوفهم الطويلة وظهورهم المحنية، لوحاته تبدو كصفعة للمحافظين، فالفن في تلك الفترة نادراً ما خرج عن اللوحات التي تحكي الأساطير اليونانية أو المواضيع الدينية، المفاجئ والذي يجعلها بمثابة مجاز للتمرد هو أنه انحدر من أب فنان تقليدي وكان من المتوقع منه أن يحذو حذوه وهو ما فعله تقنياً حتى قرر الانحراف عنه في لحظة ما، تمرد تيبولو على تراث والده ومجتمعه وعصره عن طريق استخدامه للشخصية التي تنجو بفعلها أمام رموز القوة، فيمكن اعتبار استخدامه هنا نقداً مجتمعياً وسخرية ذكية من تراث الفن الكلاسيكي.

مهرجي تيبولو

من التمرد إلى الرعب

استمر ظهور المهرجين في الفن الحديث بعد أكثر من قرنين من تيبولو، لكن الفن كان قد بدأ في التمرد بالفعل لم يكن وجود المهرج فعلاً ثورياً، فالأفعال الثورية كانت في استخدام الوسائط والأساليب الفنية فظهرت المدارس الفنية الحديثة، يمكن الأخذ بأسطع اسم في تلك الفترة وهو الإسباني بابلو بيكاسو الذي اشتهر بتكسير قواعد الفن دون هوادة، قبل أن يصبح بيكاسو الشهير مر بعدة فترات، مثل الفترة الزرقاء، لكن يمكن أن نجد تيمة المهرج في أعماله في فترة أقل شهرة وهي الفترة الوردية، رسم مجموعة من لاعبي الأكروبات والمهرجين لكن ليس أثناء تأديتهم لأعمالهم، جردهم من السمات الأساسية لهم، في لوحاته لا يبدو الهاريكوين مفهماً بالحركة والحياة بل في وضع ثابت في الغالب، مرة أخرى في نقطة تتناقض مع الدور المطلوب منه، فهو يفرج عن الناس، ولكنه يصبح مستنزفاً مفرغاً من الطاقة في نهاية يومه، هو بذلك ينزع المهرج من وجوده النمطي ويحوله إلى شخص لكنه مع ذلك لا يتخلص من ردائه.

لوحة موت مهرج لبابلو بيكاسو

إذا قفزنا عدة سنوات إلى فن أكثر حداثة وهو السينما سنجد عدداً كبيراً من المهرجين منهم المرعب ومنهم الحزين، فبسبب إمكانية التلاعب بفكرة الحزن والسعادة، الإضحاك والتخويف أصبحت فكرة المهرج الباكي أشبه بكليشيه بصري، فمستحضرات التجميل تجبره على الابتسام رغم انحناء شفتيه للأسفل في عبوس، أو أن تتحول نفس المستحضرات لأداة مرعبة فتصبح الابتسامة الحمراء المبهجة دموية، أجريت عدة دراسات أوضحت أن أطفال هذا القرن لا يستمتعون بتواجد المهرجين، وأنها أداة تسلية من حقبة مختلفة بل إن بعضهم يعاني من فوبيا حقيقة تجاههم.

تُرجم ذلك في رواية ستيفن كينج (الشيء) أو (IT)، فهي تصوير للمخاوف بشكل مضخم، والمسئول عن تلك المخاوف هو مهرج ذو ملامح وإمكانات مرعبة، تم تحويل الرواية إلى أكثر من عمل على الشاشة الصغيرة والكبيرة، مما رسخ لشكل المهرج المرعب أكثر فأكثر، مثال آخر على تلك الثنائية يمكن أن نجده في شخصية الجوكر الشهيرة التي قدمت للعالم في القصص المصورة 1940 كعدو باتمان المتطرف، يرتدي ملابس ملونة كالمهرج وتغطي وجهه الألوان والابتسامة الحمراء، أعيد تقديمه مع قصة خلفية تظهر سبب تصرفاته ومظهره بكونه تعرض لسائل كيميائي جعل وجهه كذلك وأصابه بالجنون، انتقل الجوكر وجنونه إلى الشاشة الكبيرة وحصد شعبية كبيرة.

السينما والأناركية المطلقة

خواكين فينكس من فيلم الجوكر 2019

لكن ليس قبل عام 2008 أصبح أسطورة محبوبة ومثال للأناركية المطلقة والشر الجذاب عندما ظهر في فيلم فارس الظلام، لم يتعرض لتحول كيميائي بل إن ابتسامته الشهيرة محفورة على وجهه بالندبات، كسعادة إجبارية تعزز ثنائية الضحك والعبوس، وفي عام 2019 ظهر المهرج بقصة خلفية مختلفة أكثر ترسيخاً للثنائية في فيلم جوكر، بعد أن كانت ابتسامته مخيطة في وجهه أصبح عنده مرضاً عصبياً يصيبه بضحك لاإرادي يحاول إخفاءه، فهو في الواقع يجيد العبوس لكنه عن طريق التخفي وراء ألوان المهرج يحاول إضحاك الآخرين.

تحول المهرج من أداه لتسلية الملوك منذ عهد الفراعنة مروراً بالرومان والإنجليز إلى مجاز لقول الحقيقة في وجه الحاكم، والقدرة على الضحك وسط ظلام العالم، وبسبب قوة المجاز ووضوحه لم يتوقف الفن سواء كان في مسرحيات شكسبير أو في القصص المصورة عن استخدامه وحتى اللحظة التي نعيشها الآن.