الجوكر: الكل مدعوون إلى حفلة الجنون
منذ تعرفهم للمرة الأولى على شخصية الجوكر في مجلات الكوميكس أوائل الأربعينيات، حصر القراء الجوكر في أدوار الشر لا كدعابة بل حقيقة، فهو غريم باتمان بطل مدينة جوثام الواقعة في براثن الإهمال والفساد والجريمة. ومنذ ظهور الشخصية على صفحات المجلات حتى تأديتها على الشاشة في سلسلة الأفلام الشهيرة، تطورت علاقة الجمهور مع الجوكر، خاصةً مع الممثل الأمريكي هيث ليدجر أشهر من أدى الشخصية، والذي أضفى على شخصية السفاح المجنون طابعًا فلسفيًا أعطاها عمقًا، جعل الشباب من متابعي السلسلة يتفاعلون معه بشكل خاص ومختلف، بل وربما مُحبب إلى نفوسهم.
لم يعرف كثيرون من يقبع خلف هذا القناع، القصة موجودة في خبايا القصص المصورة بالطبع، لكن سينمائيًا انتظر الكثيرون حتى صدر فيلم «الجوكر» منذ ما يقارب الشهر ليعطي لهذه الشخصية تاريخًا وأصلاً.
ما وراء الجوكر
آرثر فليك أو «الجوكر» شاب يعيش مع والدته المسنة في مدينة جوثام، لا يعرف منْ أبوه ويفتقد المثل الأعلى أو الدور الأبوي في حياته. يعمل مهرجًا ويأمل أن يصبح كوميديانًا. يعاني آرثر من نوبات من الضحك اللا إرادي غير القابلة للسيطرة عليها، والتي تجعل العديد يسيئون فهم سلوكه مما يوقعه في العديد من المشاكل.
لهذا السبب وغيره، مثل جسده الهزيل وسلوكه الغريب بالنسبة للبعض، والذي لا يتلاءم مع رغبته في أن يصبح كوميديانًا، تعرض آرثر على مدار حياته للمعاملة السيئة والتنمر ممن حوله، وصولاً للتعدي عليه بالضرب والركل. ربما دفع هذا المزيج إلى إصابة آرثر باضطراب نفسي لا نعلم بالضبط ما هو، يدخل آرثر المصحة ثم يخرج منها بعد فترة مع حفاظه على تناول أدويته، والتي توقف إمداده بها لانقطاع معونة الحكومة أو ما شابه.
يتعرض آرثر إلى مواقف متراكمة خذلته كإنسان عبر حياته، نرى بعضها في مشاهد مُكثفة التأثير بينما نشهد تحول آرثر التدريجي لشخصية الجوكر التي نعرفها. إبان عرض الفيلم في دور السينما الأمريكية، حدثت ضجة ونقاشات حادة تناولت الفيلم بين مؤيد ومعارض واستنفار أمني في عدة ولايات أمريكية خوفًا من أي أحداث عنف أو شغب، فربما تكون تلك المرة الأولى التى نرى فيها الجوكر يتنقل من خانة لأخرى بين البطولة والشر والمظلومية.
قاتل أم ضحية؟
خشي البعض من محاولات صانعي الفيلم أن يظهروا الجوكر كشخصية تستدعي التعاطف والتبرير لأفعاله الإجرامية، لم يجب مخرج الفيلم «تود فيليبس» أو بطله «واكين فينكيس» في حواراتهما عن سؤال كيف يرون الجوكر؟ وإنما أكدا أنهما يأملان أن الفيلم يساهم في خلق نقاش مجتمعي حول الصحة النفسية وعن كيف يعامل المجتمع أفراده، وكيف يؤثر على رؤيتهم وسلوكهم تجاه أنفسهم والآخرين، وما يتعلق بقوانين حمل السلاح في الولايات المتحدة الأمريكية.
أما كون آرثر/الجوكر مجرمًا أو ضحية أو بطلاً، هذا يرجع للمُشاهِد. ما يُذكّرنا بالنقاش نفسه الذي دار حول شخصية «V» في الفيلم الشهير «في فور فانديتا»، هل كان «في» الثائر غضبًا ضد الحكومة القمعية والفاسدة في بريطانيا، والذي ينتقم من خلال تدبير عمليات تفجير وقتل للمسئولين الحكوميين، ولا يظهر وجه من وراء قناعه الشهير، بطلاً أم إرهابيًا؟
في زخم كل هذه الآراء وأثناء مشاهدتي لفيلم «الجوكر»، قفز ذهني إلى عام 1973، تحديدًا يوم 10 يوليو/تموز، عندما قامت «أولجا هيبناروفا»، فتاة من التشيك، بدهس ما يزيد عن 22 شخصًا أثناء قيادتها إحدى الشاحنات الضخمة، التي كانت تعمل عليها كسائقة، مُتسببة في وفاة حوالي ثمانية أشخاص. اعترفت أولجا بارتكابها للجريمة عن قصد انتقامًا من أسرتها والمجتمع والناس غير العطوفين، الذين عاملوها بشكل سيئ طيلة حياتها، لتصف نفسها أثناء المحاكمة بأنها ضحية التنمر والبلطجة. في عام 2016، صدر فيلم تحت اسم «أنا أولجا هيبناروفا»، متناولاً الحادثة الشهيرة.
أثناء مشاهدتي للفيلم الذي يروي حياة هيبناروفا، توقفت أمام أحد المشاهد التي تقول فيها، أنّ منْ في مثل وضعها يكون أمامه خياران: إما الانتحار أو الانتقام. اختارت أولجا الانتقام لتُلقِّن المجتمع غير العطوف درسًا، وليضع القائمين على أمره تدابير لوقف هذه السلوكيات القاسية، والتي تضمر في باطنها عنفًا، حتى لا يكون هناك آخرون وآخرون غيرها ضحايا للتنمر، ينتهي بهم الأمر منتحرين أو منتقمين.
في الوقت الذي يطرح فيه أشخاصٌ -كأولجا وغيرها- تساؤلات أكثر إلحاحًا من ذي قبل حول ما يمثله العنف في تعاملاتنا البشرية، وإذا ما كان المجتمع يدفعنا بعزم وإصرار نحو الجنون، قد يكون فيلمًا عن شخصية الجوكر عاملاً محفزًا لبدء نقاش ممتد الأطراف وحقيقي للبحث عن الإجابات بدلاً من الاكتفاء بطرح الأسئلة، ليس تبريرًا وإنما محاولة للنجاة بأنفسنا ربما.
هل الإنسان عنيف بفطرته ويميل إلى القتل؟
بنظرة إلى الرأي العلمي، نجد أنه طالما كان الميل إلى العنف في المجتمعات البشرية قضية مثيرة للجدل والتساؤلات عبر العقود. ربما كان الإنسان قاتلاً بطبيعة الحال ذا ميل فطري إلى القضاء على الآخر كما تقترح دراسة إسبانية نُشرت في دورية «نيتشر»، والتي يقترح باحثوها أن الميل إلى «اصطياد» أفراد من نفس النوع هو أمر شائع خاصةً بين الرئيسيات، وأن حوالي 2% من حالات الوفاة لدى البشر يرجع إلى هذه المواجهات المميتة.
وفقًا للدراسة، لا يمكن القول بأن هذا الميل إلى العنف يرجع كليًا إلى العوامل الوراثية والجينات التي تناقلتها الأجيال، فالبيئة التي يعيش فيها الإنسان ويتفاعل معها تلعب دورًا هامًا في تطورنا عبر التاريخ. لذا، يؤكد الباحثون على الدور الذي يلعبه المجتمع في تعديل سلوك الأفراد والحد من العدوانية بداخل المجتمعات البشرية.
وبالفعل نجد أن معدلات الوفيات الناجمة عن العنف انخفضت مع صعود المجتمعات الحديثة ذات المؤسسات والقوانين المتطورة، لكن تظل نسبها تتراوح بين الانخفاض والزيادة على مر تاريخنا البشري. وهو ما يضعنا أمام التساؤل حول ماذا لو فشلت المجتمعات الحديثة في تنظيم سلوكيات الأفراد والمعاملات بينهم؟ بل ونجحت في تأجيج السلوك العدواني لا تثبيطه بداخلهم ضد المجتمع بمؤسساته ورموزه والقائمين عليه؟
ربما أدرك بعضنا الآن أنه لا يصعب الإجابة على هذا التساؤل.
المجتمع وأفراده
إن النموذج الأدبي متمثلاً في شخصية «الجوكر»، والنموذج الحقيقي متمثلاً في «أولجا»، وغيرهم الكثيرون خيالاً وحقيقةً، دخلوا في المواجهة العنيفة مع المجتمع بعدما قابلهم بالرفض وفشل في التواصل معهم، ورؤيتهم كما هم عليه لا كما يراهم وجهة نظره هو، حتى صاروا غير موجودين بالنسبة له.
تسيطر على مجتمعاتنا الحديثة ثقافة الاستهلاك المفرط والتنافسية حامية الوطيس واللهاث خلف تحقيق «التارجت» أو الهدف المرجو الذي يطارد الفرد في وظيفته وفي بيته وبين أصدقائه.
يلهث الفرد للحفاظ على صورته الناجحة أمام مجتمعه، ضمن إطار القالب الذي أُعِد مسبقًا من أجله، في محاولة للحصول على القبول والاعتراف وتحقق الشعور بالإنجاز. فيقول الكاتب والأخصائي النفسي الأمريكي «ميل شوارتز» إننا أصبحنا نفتقد على الأغلب الرؤية والشغف في حياتنا، فقد أضحى السعي وراء السعادة والرفاهية مضللاً بشكل رهيب، بالإضافة إلى مطالب ثقافتنا الضاغطة نفسيًا وعصبيًا والتي تستنفد مشاعرنا وسلامتنا النفسية. وهو ما عبر عنه الروائي الياباني «هاروكي موراكامي» في مقولته الشهيرة:
فجوثام الجوكر وباتمان، والتي عادةً ما يرجعها البعض إلى نيويورك، قد تكون مدينة أي فرد مننا. فمعدلات الإصابة بالاكتئاب والقلق والتوتر أخذت منحى جنونيًا للأعلى على مستوى العالم خلال العقود الأخيرة، مع انتشار لسلوكيات تقتل الفرد معنويًا، كالتنمر والبلطجة بين المراهقين والموظفين في بيئات العمل والناس في الشوارع، مع اقتران هذه العوامل بارتفاع حالات الانتحار التي نسمع ونقرأ عنها كل يوم بشكل مكثف، لم يكن مألوفًا ما قبل شبكات التواصل الاجتماعي.
فالمعركة الحقيقية خارج صفحات الكوميكس وصراع الخير والشر متمثلاً في باتمان والجوكر، وانتظار الأبطال ذوي القوى الخارقة لإنقاذ المدينة. المعركة الحقيقية يخوضها المجتمع ضد صنيعة عمله، وما أنتجته ثقافته من أفراد تفتقد الشعور بالانتماء والأمان والأهم إنسانيتها، ولا يبقى أمامها سوى الانسحاب أو الانتقام.