جون ستيوارت مل: عن أصول استعباد الرجال للنساء
هكذا تهكم جون ستيوارت مل، أحد أهم فلاسفة الليبرالية والحرية في القرن التاسع عشر، في كتابه «استعباد النساء»، على المنطق الذي يستعبد ويستبعد الرجل به المرأة، بزعم أنه أقوى منها بدنيًا، ووصف التراث الذي يحكم علاقة الرجل والمرأة بأنه «متخلف عفى عليه الزمن» منذ أن أصبحت القوة البدنية لا توضع في حسبان الدولة الحديثة.
في «استعباد النساء»، الذي نُشر في 1869، تطرق مل إلى الحقوق المشروعة التي حُرمت منها المرأة في عصره، وبحث في أصول الأوضاع الاجتماعية السيئة للنساء، وأسباب استعبادهن وخضوعهن المذل للرجل، وندّد بوضعها المتردي في المجتمع، ووضع أسسًا بديلة للعلاقة من شأنها تحرير المرأة من سجن العادات والتقاليد، كما عدّد الفوائد التي تعود على المجتمع من جرّاء مساواة المرأة بالرجل.
وإذا كان البعض يقلل من أهمية الكتاب بعد أن أصبحت المرأة على قدم المساواة نسبيًا مع الرجل في المجتمعات الديمقراطية، فإن ثمة تشابهًا بين أوضاع المرأة العربية الآن والمرأة الإنجليزية والأوروبية في زمن «مل»، يدفعنا إلى إعادة قراءة ذلك المرجع المهم لفهم الأصول القديمة لاستعباد الرجل للمرأة.
هل تقبل المرأة الخضوع طواعية؟
يرد مل على الفرضية التي تقول إن سيطرة الرجل على المرأة ليست تطبيقًا لشريعة الغاب، وإنما على العكس من ذلك تقبل بها النساء طواعية بلا تذمر، حيث ذهب إلى أن استسلام النساء وخضوعهن لا يعني القبول والرضا، فعندما أُتيح للمرأة الكتابة سجل عدد كبير منهن احتجاجهن على الوضع الاجتماعي القائم، وتقدم آلاف منهن للبرلمان الإنجليزي كي يسمح لهن بالانتخاب.
وساير مل هذه الفرضية إلى النهاية معتبرًا أنه حتى بافتراض قبول المرأة هذا الوضع، فلا يعني ذلك نهاية المطاف، فما من طبقة مُستعبَدة طالبت بالحرية الكاملة مرة واحدة، فعندما ثار النبلاء في إنجلترا في وجه الملك، فإن عامة الشعب لم تطلب سوى تحفيف عبء الضرائب، وتخليصها من الاضطهاد الشديد الذي تعاني منه على يد موظفي الملك، وذهب مل إلى أن من يعيش تحت السيطرة لفترة طويلة لا يبدأ قط بالمطالبة بالقضاء على السلطة نفسها، بل تعديل طرقها التعسفية بحيث لا تنطوي على ظلم واضطهاد.
خرافة طبيعة المرأة
يعتقد مل أن ما يُسمى بـ «طبيعة النساء»، الذي يحول بين المرأة وحقوقها، ما هو إلا شيء مُصطنع بفعل العادات والتقاليد، فالعلاقات البشرية القائمة ليست مسألة طبيعية كما يؤمن الرجل، وهاجم مل فكرة الخلط بين تلك العادات وإرادة الله، معتبرًا أن طبيعة الأنثى لا تختلف عن طبيعة الرجل في الأصل، ولكن استطاعت التربية في عصور الماضي السحيق أن تصنع تلك الفروق وتوهم الجنسين بأنها فروق طبيعية.
ولكن الحقيقة أنها مجرد وهم صنعته الظروف الاجتماعية، فلو كان تمايز الجنسين يعود إلى الطبيعة فلماذا لجأ الرجل إلى قوانين تحمي سيادته وتكفل عبودية المرأة لصالحه؟ وإذا كان المجتمع يعزو إلى طبيعة المرأة إعاقتها عن أداء بعض الوظائف، فلماذا لجأ إلى سن القوانين التي تقر هذا العجز؟
وهكذا يرى مل أن حالة استعباد المرأة نشأت منذ البدايات الأولى للمجتمع البشري، فمنذ فجر التاريخ وجدت المرأة نفسها في حالة عبودية لرجل ما، ربما بسبب استغلال ضعف قواها البدنية، وبدلًا من أن تغير النظم السياسية – مع تطور المجتمعات – تلك الحالة، اعترفت بها وحوّلت هذه العادات إلى قوانين أضافت المشروعية على استعباد المرأة.
واستشهد مل بنساء في العصور القديمة والحديثة لنسف النظرية التي تفترض أن الفروق العقلية بين الرجل والمرأة «طبيعية»، مثل الملكة إليزابيث التي ازدهرت إنجلترا تحت حكمها في 1558م، والقاضية ديبورة التي كان يُصعد بدو إسرائيل مشاكلهم إليها، وجان دارك البطلة الفرنسية التي حاربت الإنجليز إلى أن قبضوا عليها وحرقوها.
العادات والتقاليد.. مفتاح عبودية المرأة
يرى مل أن المبدأ الذي ينظم العلاقات الاجتماعية بين الجنسين فاسد من جذوره، لأنه يؤصل تبعية المرأة للرجل، بخلاف أنه يستند إلى قانون القوة الهمجي، لذا يقترح هدمه ليحل محله مبدأ المساواة الكاملة التي لا تفضل نوعًا على آخر، معتبرًا أن مبدأ «استرقاق النساء» يعوق تقدم المجتمع، لكن الأزمة هُنا أن ذلك المبدأ متغلغل في نفوس الرجال بشكل جذري لعدة أسباب، أولها أنه يستند إلى العواطف والمشاعر، فهناك صعوبة بالغة في إقناع الناس بالعقل بجدوى تغيير المشاعر المتأصلة في نفوسهم، خاصة إذا كانت تلك المشاعر قد تحولت بالفعل إلى عادات وتقاليد يؤمن بها المجتمع حد التقديس، هُنا يعتقد المجتمع أن استمرار هذه العادات لسنوات طويلة دليل على أنها جيدة ومحمودة.
السبب الثاني، الذي ساقه مل لتفسير صعوبة قبول المجتمع لتغيير المبدأ الحاكم لعلاقة الجنسين، أن الرجال في سعيهم الحثيث لاستعباد المرأة لم يريدوا لها أن تكون مجرد عبد بالإكراه، بل بكامل إرادتها ورغبتها، لذلك استخدموا كافة الوسائل لاستعباد عقول النساء، ووظفوا التربية لإتمام هذا الغرض فنشأت المرأة على أن المثل الأعلى لشخصيتها هو النقيض المباشر لشخصية الرجل، فإذا كانت للرجل إرادة حرة وقدرة على ضبط النفس، فعلى العكس من ذلك تتسم المرأة بالخضوع والاستسلام والطاعة لأوامر الرجل، فقواعد المجتمع الأخلاقية والاجتماعية والتربوية تؤكد أن واجب وطبيعة النساء تقتضي وتحتم عليهن أن يعشن للآخرين، فتتجه عواطفهن تجاه الأطفال والرجال، وينسين أنفسهن تمامًا.
وهُنا يتهم مل بشكل صريح العادات والتقاليد والعرف بأنها رأس الحربة في منظومة استعباد المرأة، لذلك طالب بزوال تلك العادات مع تقدم المجتمع البشري، وسجّل مل ملاحظة موضوعية في هذا السياق، فعلى الرغم من أن المجتمعات الحديثة تجاوزت أوضاع الظلم والاضطهاد في جميع مناحي الحياة، إلا أن تقييد النساء يعد الاستثناء الوحيد لذلك، حيث تحدد القوانين والأنظمة طريقة الحياة التي تعيشها المرأة منذ مولدها، وتمنعها من الدخول في منافسة أشياء بعينها، فالتحريم الذي تخضع له المرأة بناء على نوعها هو المثل الظالم الوحيد في التشريع الحديث، فلا توجد حالة أخرى غير هذه الحالة التي تمنع نصف الجنس البشري من القيام بأنشطة معينة بسبب «صدفة المولد»، فالقانون هُنا لا ينصف المرأة فحسب بل يبيح ويشرعن استرقاقها.
الدين كمفسر لعبودية المرأة
هاجم مل لجوء أنصار حرمان المرأة من حقوقها والإبقاء على استعبادها إلى الدين لتبرير رأيهم، فهؤلاء الذين يفرضون واجب الطاعة والخضوع على الزوجة باعتباره حكمًا من أحكام الدين، معتمدين في ذلك على أقوال القديس بوليس:
هؤلاء يتناسون أن أقوال «بوليس» في عبودية المرأة مجرد جزء من خضوعه هو للوضع الاجتماعي السائد.
استشهد بقوله «أيها العبيد أطيعوا في كل شيء ساداتكم» ليؤكد أن بوليس اعترف بجميع الأنظمة الاجتماعية القائمة بلا استثناء، فلماذا تجاهلوا أقواله السياسية عندما تمردوا على الظلم واحتفظوا بنظرته المتأخرة للمرأة؟
الزواج.. منظومة العبودية الكاملة
يرى مل أن الزواج هو حالة العبودية الوحيدة التي يعرفها المجتمع، فلم يعد هناك – من الناحية القانونية – عبيد سوى كل ربة منزل.
ويذهب مل إلى أن «قانون العبودية» في الزواج يجرد المرأة من كل حقوقها ويبقيها في حالة خضوع وعبودية كاملة للرجل، ويقول إنه عندما تزوج صديقته هاريت تايلور، لم يفقدها أيًا من الحقوق التي تمتعت بها قبل الزواج، انطلاقًا من قناعته بأن الزواج لا يجب أن يكون مبررًا للعدوان على استقلال شخصية المرأة.
ولفت مل انتباه المجتمع إلى أن القانون لا يحمي الزوجة إذا أُهينت أو أصابها زوجها بضرر، بل يجبرها على الحياة تحت سقف واحد مع من يهينها ويؤذيها، وهكذا وقع الرجل فريسة لعادات استبدادية زادت من توحش شخصيته، فيما وقعت المرأة ضحية لعادات الخضوع والخنوع.
هذه هي الأجواء التي حرص مل على سردها لتوضيح الخلل القائم في الأسرة عندما تُدار بواسطة فرد واحد وبشكل مطلق، فهل يملك فيلسوف الحرية بديلًا آخر لهذا النمط من الحكم؟ يجيب مل ويقول إن الوضع الطبيعي أن يتقاسم الرجل والمرأة المسؤوليات داخل الأسرة، ولكن كيف يحدث ذلك والرجل يتمتع بالعديد من المميزات التي تنصبه ملكًا منفردًا على الأسرة مثل كبر سنه بخلاف أنه مصدر دخل الأسرة.
هنا توصل مل إلى فكرة «الند» أو «النظير»، باعتبارها الحل الأمثل للمشكلات الناجمة عن أوضاع الزواج الظالمة، وفكرة «الند» عكس قانون القوة الذي ينتج علاقة السيد والعبد ويشكل علاقات التبعية والخضوع ويفرضها على المرأة باعتبارها قواعد أخلاقية.
ذلك القانون الذي يعتبر «الند» عدوًا للرجل، يرفضه مل على اعتبار أن الأساس الطبيعي الذي يجب أن يحكم الأسرة هو المساواة بين الجنسين، وبذلك يصبح الأمر والطاعة مجرد استثناء لا القاعدة الحاكمة، فالزواج الذي يتم بين «ندين» في الثقافة والتعليم وعدم الشعور بالخوف أقوى من الزواج الذي يتم بين طرف أدنى وطرف أعلى، ويعتقد مل أن الرجال الذين يفضلون حالة التبعية يمنعون العالم من الاستفادة من نصف مواهبه، ويفشلون في إقامة حياة زوجية سعيدة، فالزواج بين شركاء غير متجانسين يؤدي إلى شقاء دائم.
من هُنا حرض مل المرأة على المطالبة بالمساواة والحرية، فالسعادة التي تتوهمها من نموذج التبعية مجرد سعادة زائفة ستتلاشى بمجرد أن تحل علاقة «الند بالند» محل علاقة التبعية والقيادة، واقترح مل أن يحدث ذلك من خلال تقسيم الواجبات، فيصبح الرجل مسؤولًا عن الدخل – في حالة عدم عمل المرأة – وتقوم الزوجة بالإشراف على الإنفاق المالي بجانب تربية الأطفال.
ويهمس مل في أذن المرأة قائلًا: «لا يوجد شيء في الدنيا يستحق التضحية بالحرية» معتبرًا أن كل امرأة يعولها زوجها – حتى ولو كانت رعايته جيدة – قد باعت حريتها بثمن بخس عندما استبدلت بها الطعام والمأوى، فهذه الصفقة لا تعبر عن شخص حر أو مجتمع حر.
لماذا يعترض الرجل على عمل المرأة؟
يعتقد مل أن فكرة المساواة بين الرجل والمرأة تقتضي السماح لها بالعمل في كل المجالات التي يعتبرها الرجل حكرًا عليه، فتحريم الرجل لعمل المرأة يعود إلى رغبته في الإبقاء عليها داخل المنزل، لأنه لم يعتد فكرة العيش مع نظير أو ند.
ويدحض مل الحجج التي تُساق ضد عمل المرأة، مثل أنها ضعيفة لن تقدر على العمل أو أن نجاحها سيكون باهرًا في الأعمال المنزلية أو أن النساء أقل موهبة عقلية من الرجل، حيث يرى أنها حجج باطلة لأن تجربة العصور الماضية والحديثة أثبتت أن النساء قادرات على القيام بمهام الرجال بصورة مشرفة، بل إن كثيرًا من الوظائف التي يشغلها الرجال لو أُتيحت للنساء سيثبتن كفاءة أكثر منهم، كما أن هناك وظائف يؤديها الرجال بكفاءة تفوق النساء، وتلك مسألة طبيعية في قانون التنافس.
ويذهب مل إلى أن تحريم العمل على النساء لا يضرهن فقط بل يضر من يستفيد من خدماتهن، لأنه عندما يحرم المجتمع نوعًا معينًا أو فئة معينة من الترشح للبرلمان مثلًا أو العمل بالطب أو المحاماة، فذلك يؤثر بالسلب على المتعاملين مع هذه الفئات، بحرمانهم من ثمار المنافسة.
ماذا خسر العالم باستعباد النساء؟
يرى مل أن العالم يفرض على نفسه خسائر فادحة بقوانينه الظالمة تجاه المرأة، وعدّد مجموعة فوائد من المنتظر أن تعود على البشرية إذا تحررت المرأة من أغلال العادات والقوانين، أعظم هذه الفوائد – من وجهة نظره – يكمن في تنظيم العلاقات البشرية تنظيمًا جديدًا يقوم على العدل، ومن ثم زوال صفات بشرية سيئة مثل الأنانية وعبادة الذات، فكل هذه الرذائل تتغذى على القواعد الظالمة التي تحكم علاقة الرجل بالمرأة.
هذه القواعد، في رأي مل، لا تسيء للمرأة فقط، بل ترتكب جريمة في حق الأطفال، فالذكر الذي يولد ويشب على شعور زائف بأنه أفضل من الأنثى فقط لأنه ذكر، يميل فيما بعد إلى الانحراف كفرد وككائن اجتماعي، لأنه يتعلم مبكرًا عبادة الذات نتيجة التفاخر بميزة لم يصنعها لنفسه بل بناء على ميراث وعادات وتقاليد، فتتشكل شخصية الرجل على العجرفة والغرور الفارغ الذي يستطيع كبحه فقط مع رجال أنداد له، وما دون ذلك من موظفين أو زوجة، فيمارس هذا الغرور عليهم.
من هُنا يرى مل أن الحياة الزوجية القائمة على التبعية تتناقض مع أول مبادئ العدل الاجتماعي، وهي المسؤولة عن انحراف شخصية الرجل، ويذهب إلى أن إحلال المساواة محل علاقة التبعية ينتصر للمبدأ الأساسي في الأخلاق والسياسة وهو أن «السلوك وحده يؤدي للاحترام»، وبالتالي يصبح احترام المرأة للرجل مبنيًا على عمله لا وضعه، ويكون السبيل الوحيد المشروع للحصول على السلطة هو التفوق لا مجرد كونه ذكرًا.
ويوضح مل خطورة استمرار علاقات القوة بين الجنسين، فيقول إن الإنسان إذا ما فقد الحرية فإنه يسعى وراء القوة والسلطة، فعدم السماح للموجودات البشرية بأن يكون لها وجود مستقل قائم بذاته، بل أن يكون وجودها باستمرار معتمدًا على غيرها، يفتح الباب لاستغلال الآخرين. وعندما يكون الأمل في الحرية بعيدًا ولا يكون قريبًا سوى السلطة، فإن القوة تصبح هي الهدف للرغبة البشرية، ومن هنا جاءت رغبة النساء العارمة نحو الجمال الشخصي والملابس وحب الظهور والاستعراض وما يستتبع ذلك كله من شرور اجتماعية وبذخ بالغ الضرر.
أما الفائدة الأخرى من تحرير المرأة فتتمثل في مضاعفة الملكات العقلية المتاحة لخدمة البشر، فالفرصة التي تُتاح لشخصين تُعظم من المنافسة، وتساعد في توظيف الكفاءات العقلية، بغض النظر عن النوع، ويستفيد المجتمع من ثمار هذه الحالة التنافسية، كما يعتقد مل أن تحرير المرأة يضيف لذهنية الجنس البشري قيمة تربوية كبرى، فالتربية القائمة على المساواة من شأنها أن تنهي عجرفة الرجل وغروره.