جون فيلبي: «لورانس السعودية» الذي أسس مملكة النفط
منذ أيام، أعلنت وزارة السياحة السعودية أنها قررت ترميم منزل ضابط المخابرات البريطاني توماس إدوارد لورانس، المعروف باسم «لورانس العرب»، وهو ضابط الاتصال بين البريطانيين والشريف حسين، ولعب دورًا كبيرًا في تدعيم الثورة التي قام بها الهاشميون ضد العثمانيين.
وبالرغم من النجاح النسبي لرجل بعد ما انتهت مهمته بتنصيب الأمير فيصل ملكًا على العراق، والأمير عبد الله ملكًا على الأردن، فإن الوعد الإنجليزي الأكبر للهاشميين بأن تُتاح لهم الفرصة لقيادة العرب أجمعين لم تتحقق.
حقّق الرجل شهرة ساحقة استدعت إنتاج فيلم هوليودي خصيصًا عن حياته خلّدت اسمه في أدبيات التاريخ العربي.
لكن هذا التكريم السعودي المتأخر استدعى إلى ذاكرتنا «لورانس آخر» لعب دورًا بالغ الأهمية في مساعدة الملك عبدالعزيز على تأسيس السعودية، وهو جون فيلبي.
ولكي نفهم طبيعة الدور الذي لعبه هذا الرجل في تشكيل خارطة الشرق الأوسط، سيكون علينا أن نعود إلى الخلف 106 أعوام.
لِمَ لا نحاصر العثمانيين بالعرب؟
في عام 1914م اندلعت الحرب العالمية الأولى بين ألمانيا والمجر والدولة العثمانية من ناحية وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا من ناحية أخرى.
اعتبرتها بريطانيا فرصة ذهبية لانتزاع منطقة الشرق من بين أيدي العثمانيين، وتأمين حقول النفط في فارس مصدر الطاقة الأول للأساطيل البحرية الإنجليزية، لكن تلقى الإنجليز سلسلة من الهزائم المتتالية على أيدي القوات العثمانية.
لذا قررت بريطانيا اللجوء إلى طريقة أخرى تكفل لها الاستيلاء على المنطقة دون إهدار المزيد من الدم الإنجليزي.. لم لا نستبدله بالدم العربي؟
سعت الخطة الإنجليزية الجديدة إلى دفع الزعماء المحليين الموالين لها لقتال الأتراك، على أن تمدهم بكل ما سيحتاجون إليه من دعمٍ عسكري.
وفي هذه الأثناء، كانت السعودية التي نعرفها اليوم مُقسَّمة إلى 3 قطاعات؛ نجد ويحكمها آل سعود، الحجاز ويحكمه الشريف الهاشمي الحسين بن علي، وأخيرًا إمارة حائل تحت سيادة بني رشيد.
أقامت لندن حلفًا مع الهاشميين أداره الضابط توماس لورانس على أرض الواقع، ورفض آل رشيد اليد الإنجليزية وتمسّكوا بمدِّ أواصر الصداقة مع العثمانيين، أما آل سعود فقد استجابوا سريعًا لمعاهدة أمنية وضعت نجد تحت الحماية البريطانية.
وهو المطلب الذي سعى إليه عبدالعزيز بن سعود منذ سنوات عقب انتزاعه الرياض من الرشيديين عام 1902م، ووجّه مناشدة تلو الأخرى إلى الحكومة البريطانية بأن تضعه تحت حمايتها.
أخيرًا تحقق لابن سعود ما أراد، فضمن الحماية الإنجليزية إضافة إلى راتب شهري قدره 5 آلاف جنيه إسترليني كان يتسلمها بموجب إيصال رسمي.
قاد النقيب الإنجليزي ويليام شكسبير القوات السعودية في حربها ضدَّ الرشيديين حلفاء العثمانيين.
في هجومٍ سعودي على حائل، قُتل النقيب شكسبير خلال قيادته للمدفعية السعودية، فتم تعويضه بجون فيلبي المساعد الشخصي لبيرسي كوكس مسؤول المصالح البريطانية في الشرق الأوسط، والذي درس أحوال العالم الإسلامي بعناية وأجاد اللغة العربية بطلاقة.
ويوضح فيلبي مهمته قائلاً:
وكشف الأستاذ محمد حسنين هيكل في كتابه «العربي التائه» عن مشاهدته 18 خطابًا معروضة في صالة سوثبي للمزادات، مكتوبة بخط يد جون فليبي وموجهة إلى السير بيرسي كوكس المقيم البريطاني العام في منطقة الخليج.
اعتبر هيكل أن هذه الخطابات تكشف عن أن مهمة فليبي الأساسية كانت العمل على تصفية وجود الخلافة العثمانية في شبه الجزيرة العربية، وهي الخطوة التي اعتبرتها ستُمهِّد للإجهاز على الخلافة نهائيًا.
الملك عبدالعزيز: مفتاح مشاكل بريطانيا في المنطقة
بدأت العلاقة بين الرجلين عام 1917م بلقاء في نجد جمع فليبي بعبدالعزيز لبحث استمرار التعاون السعودي مع البريطانيين عقب وفاة النقيب شكسبير.
ومن اللحظات الأولى أُعجب فيلبي بشخصية عبدالعزيز واعتبر أنه سيكون المفتاح لحل كافة مشاكل بريطانيا في المنطقة.
كان فيلبي مقتنعًا أنه من مصلحة بريطانيا أن تُقام دولة عربية واحدة في الجزيرة بدلاً من عددٍ من الإمارات المتنازعة، وبعد لقائه بعبدالعزيز اقتنع بأنه سيكون خير قائد لهذه الدولة التي حلم بها بدلاً من الشريف حسين الذي تدعّمه بريطانيا ليكون «ملك العرب» المقبل.
وفي كتابه «أيام عربية»، تحدث فليبي عن ابن سعود قائلاً: «إذا قُدِّر له أن يعيش هذا الأمد، فإن الجزيرة العربية التي سيخلفها وراءه ستكون مختلفة كل الاختلاف التي نعرفها الآن، ولن يجد خلفه أي صعوبة في السير بها في الطريق الذي اختطه سلفه العظيم».
عمل فيلبي على معاونة السعوديين على نشر نفوذهم في أنحاء الجزيرة، فشجّعهم على مواصلة هجومهم على إمارة حائل، كما أصلح الخلافات الحدودية التي اندلعت بينهم وبين حكام الكويت وعجمان، وسعى أيضًا لرأب الصدع بين عبدالعزيز والشريف الحسين، أملاً منه في أن يكوّن الزعيمان العربيان جبهة واحدة ضد الأتراك وآل الرشيد ذراعهم العسكرية في المنطقة.
في هذه الأثناء كانت الحرب العالمية الأولى قد وضعت أوزارها، وتراجعت بريطانيا عن وعدها بإقامة دولة عربية كبرى تحت قيادة الشريف حسين، وأيَّدت وضع كلٍّ من سوريا ولبنان تحت الاستعمار الفرنسي وفقًا لمعاهدة سايكس-بيكو.
تسبب هذا القرار في صدعٍ هائل بين الشريف حسين وبريطانيا، وبالتالي لم يعد لها صديقٌ في الجزيرة العربية إلا الملك عبد العزيز، فأمرت عميلها فيلبي ببذل كل الجهود الممكنة لدعم حليفها الأخير، كما أقرَّ له وزير المستعمرات وينستون تشرشل 100 ألف جنيه إسترليني سنويًا.
وبفضل هذا الدعم السخي واصل آل سعود حملاتهم الضارية على معاقل الرشيديين.
وفي واحدة من هذه الحملات شارك فيلبي بنفسه، لكن الملك عبدالعزيز منعه من المساهمة في القتال خوفًا من فقدان «شكسبير آخر» على حد قوله، فشاهد فليبي المعركة من شرفة عالية في برج قريب، وهو الإجراء الذي أثار غضب فيلبي وحكى عنه لزوجته قائلاً: «من المؤلم عدم مرافقتهم ومشاهدة حملتي. نعم حملتي من البداية وحتى النهاية، فقد عملت طيلة عشرة أشهر حتى تمكنت من الوصول إلى تلك النتيجة».
وفي النهاية تمكن السعوديون من إزالة الدولة الرشيدية تمامًا في نوفمبر 1921م، وبعدها أتى الدور على آخر خطر يُهدد آل سعود وهم الهاشميون، والذين لم يصمدوا أمام جيوش عبدالعزيز أكثر من 3 سنوات.
وفي عام 1924م، استولت جيوش ابن سعود على مدينة مكة من الشريف حسين لتُنهي 700 عامٍ من الحكم الهاشمي للمدينة، وعلى أثر هذا التفوق العسكري تنازل الشريف حسين عن العرش لصالح ابنه علي الذي اتخذ من جدة عاصمة جديدة له.
لم يهنأ الملك الهاشمي بعرضه الجديد فسرعان ما فرض ابن سعود على جدة حصارًا مُحكمًا لعدة شهور، استسلم بعدها الملك علي مُعلنًا نهاية حُكم الهاشميين لبلاد العرب بشكلٍ تام.
ولم يكد يمرُّ أسبوع واحد على سقوط جدة، حتى نصّب عبد العزيز نفسه ملكًا على الحجاز ونجد، وكان فيلبي أول مَن نقل هذا الخبر إلى العالم عن طريق برقية بعث بها إلى صحيفة التايمز.
وخلال حفل تتويجه ملكًا على كافة أنحاء الجزيرة، كان عبد العزيز حريصًا على دعوة فيلبي لحضور هذه المراسم.
وفي رسالة بعثها لأحد أصدقائه، كتب فليبي: عشنا احتفالات عظيمة هنا بمناسبة يوم التتويج التي حضرها معنا عدد من قيادات الصحافة المصرية، وقد كانت لي معهم محادثات عديدة ومطولة، وكانت بريطانيا من أسرع الدول اعترافًا بالدولة الحجازية الجديدة «السعودية».
فيلبي: مستشار الملك ورجل أعمال أحيانًا
على الرغم من نجاح فيلبي التام في مهمته فإنه تقدّم باستقالته من العمل مع الحكومة البريطانية بسبب إصرارها على توطين اليهود في فلسطين.
يقول فليبي في كتابه «بنات سبأ»:
وحمّل فيلبي في استقالته مسؤولية تخليه عن منصبه إلى المندوب السامي البريطاني على فلسطين هربرت صموئيل، فكتب فيها: «لم أعد أستطيع الاستمرار في العمل مع المفوض السامي الحالي، الذي، لكونه يهوديًا صهيونيًا، لا يمكنه تحمل الميزان حتى بين المصالح الصهيونية والعربية».
لم يرتح فيلبي لسياسات بلاده الجديدة في المنطقة، وعبّر عن هذه الآراء علنًا في كبريات الصحف الإنجليزية، حتى وصفته بعض المراسلات الحكومية السرية بلقب «تاجر الأذى المحلي»، كما قال عنه تقرير أعدته المخابرات البريطانية أن «له طموحات سياسية بنوايا فاشية».
بعد هذه الاستقالة لم يعد فيلبي إلى بلاده، وإنما بقي في السعودية قريبًا من الملك الذي عمل إلى جواره مستشارًا أول وناصحًا أمنيًا.
قدّم فيلبي دعمًا مستمرًا للملك عبدالعزيز لدرجة دفعت بعض المحللين إلى اعتبار أن الملك عبدالعزيز نجح في تحويل دفّة قناعته لخدمة آل سعود وليس لندن التي دسّته في هذه البلاد لتحقيق مخططاتها.
يقول محمد المانع الذي عمل بالديوان الملكي في زمن الملك عبد العزيز، وكان شاهدًا على طبيعة العلاقة بين الطرفين:
«لا شكّ في أن آراء فيلبي كانت ذات فائدة عظيمة لابن سعود. ففي سنة 1929م– مثلاً – اقترح عليه أن يُقيم اتصالات لا سلكية بين الأجزاء المختلفة من المملكة. وما أن قبِلَ جلالته الفكرة اتصل فيلبي بشركة ماركوني في تشيلمفورد في إنجلترا لتُعِدّ الأجهزة اللاسلكية الضرورية، كما اقترح إرسال بعض السعوديين إلى هناك ليتدربوا على استعمالها وصيانتها.»
ويضيف: «كان فيلبي الرجل الغربي الوحيد الذي استطاع الملك أن يعتمد على مشورته كثيراً في الأوضاع والمواقف الخارجية. وقد أدّت مقدرته على الوصول إلى هذا الموقع الفريد إلى كثير من التساؤلات في الديوان حول الطبيعة الحقيقية لدوافعه. فخشيَ كثير من الناس، وأنا من بينهم، بأنه كان عميلاً للحكومة البريطانية، وأن غرضه كان إقناع الملك بتبنّي سياسة مؤيدة لها.»
بعد ذلك، اتجه فيلبي إلى ممارسة الأعمال التجارية، ومنحه الملك إذنه بِافتتاح ما سماه «الشركة الشرقية المحدودة» في جدة، كما لعب دور الوسيط في منح رجل الأعمال ريمي فيشر عددًا من الامتيازات التجارية في بلاد الحجاز.
يقول فليبي: كنت أقضي وقتي في هذه الأعوام متجولاً في الأسواق، وطائفًا بالوجوه والتجار؛ لأحصل على المعلومات اللازمة عن أوضاع المدينة الاقتصادية والاجتماعية، لا سيما في هذه السنوات التي أخذت تنمو فيها نموًا عجيبًا، وتزدهر تجارتها ازدهارًا سريعًا.
وبرغم ذلك، لم تحقق الشركة نجاحًا كبيرًا بسبب معارضة قوة الإخوان التي شكّلت القوام الرئيسي لجيش السعوديين لأي عمليات تطوير أو تحديث، لكن بدءًا من عام 1930م، زاد حجم سخاء الدعم البريطاني لآل سعود ما مكّنه قادرًا على التخلص من قوة الإخوان بشكلٍ تام، ما أطلق يد عبدالعزيز في الحكم ومن ورائه مستشاره الأمين فيلبي.
خلا الملعب لفيلبي، وحصل من صديقه عبد العزيز على عددٍ من الامتيازات التجارية في صناعة السيارات والزيوت والوقود، كما حصلت شركته على حق احتكار توريد السيارات للمواصلات العامة.
لم يستطع فيلبي الاستفادة من كافة هذه الامتيازات بسبب دخول السعودية في أزمة اقتصادية عام بسبب نقص أعداد الحجاج، ما دفع عبدالعزيز إلى الاستجابة لنصيحته بالاعتماد على ثروات البلاد الداخلية كمصدر للثروة بدلاً من الحج.
وفتحت هذه النصيحة الباب لدخول الشركات الأجنبية لاستكشاف أراضي المملكة بحثًا عن الثروات المخبئة في باطنها، وهو الإجراء الذي غيّر شكل السعودية إلى الأبد.
الشيخ عبد الله فليبي
أدرك فيلبي أن استمراره مسيحيًا سيعيق انغماسه في السعودية، لذا أعلن إسلامه في العام 1930م ليُتوِّج بهذا القرار سنوات خدمته الطويلة في بلاد العرب.
رحَّب الملك كثيرًا بهذه الخطوة ومنحه لقب «الشيخ عبد الله»، وعندما دخل عليه فليبي قصره أجلسه إلى جواره وقال للحضور: «لقد عمل فليبي الكثير من أجلي ومن أجل قضية نجد، ولقد ضحى بالكثير في سبيلنا، إذ اختلف مع سياسة حكومته بسببنا، وتخلى تبعًا لذلك عن مناصبه الرسمية.»
في ذات العام قام الشيخ عبدالله بحجته الأولى، وأمَّ إحدى صلوات المسلمين في الحرم وألقى على المصلين خطبة أشاد فيها بالملك عبدالعزيز.
يقول فليبي في كتابه «أربعون سنة في الصحراء»:
ويضيف في كتابه «أيام عربية»:
وفي أبريل 1931م اصطحبه معه الملك في رحلة الحج الشخصية التي كان يقوم بها، ولم يُسمح لأحد بالاشتراك فيها إلا مستشارو الملك المقربون، كما أمر الملك بتلقين فيلبي بعض مبادئ الشريعة الإسلام على يدي الفقيه محمد آل الشيخ، أحد أحفاد الإمام محمد بن عبد الوهاب.
يقول محمد المانع: «بعد أن اعتنق فيلبي الإسلام ارتدى الملابس العربية، كما استفاد من النظام الإسلامي بالزواج من فتاة عربية أنجبت له ابنين. وأصبح يزور الملك باستمرار في كل من الرياض ومكة المكرمة. وبطبيعة الحال برّ جلالته بوعده له في أن يصطحبه في كثير من رحلاته. وصار فيلبي بجسمه الممتلئ ووجههِ المُلتَحي مشهداً مألوفاً لدى رجال الديوان، كما كان مِمّن يحضر بانتظام مجلس الملك العام والخاص. وكان أفراد الديوان يعتبرونه صديقاً ومستشاراً لجلالته.»
كتب فيلبي مقالة «من الأركان الأربعة.. مكة والعرب»، تحدث فيها عن الملك عبدالعزيز، قال فيها: «هو أكثر رجل يعمل بشدة في مملكته، ولا يعجز أصحاب الحظوة مثلي في الاعتراف والتعرف على عظمة الرجل الضرورية والمماثلة، والذي صنع السعودية الحديثة، وللعلم، فالبساطة هي المفتاح لشخصية الملك عبد العزيز، فليس للرجل ود مع الطقوس والمراسم والتباهي والتفاخر.
المغامر فليبي: يرسم حدود السعودية
استغلّ فيلبي صداقته بالملك عبد العزيز للقيام بعددٍ من الرحلات الاستكشافية التي وثّق بها ملامح المنطقة في كتاباته التي بدأها عام 1922م عن جغرافية الجزيرة العربية، حين نشر كتابه الأول عن هذه الرحلات وهو «قلب جزيرة العرب» وكان البداية في سلسلة كتب عن بلاد العرب بلغ عددها 15 كتابًا.
حلم فيلبي بتحقيق إنجاز أن يكون أول غربي يعبر منطقة الربع الخالي، وهي المهمة التي كانت ستمنحه المجد في بريطانيا.
كادت صداقته الوطيدة بالملك عبد العزيز تحرمه من هذه المغامرة، بعد ما رفض الملك عبد العزيز السماح له بالقيام بهذه الرحلة خوفًا على حياة مستشاره المقرّب.
وفي عام 1932م، استجاب عبدالعزيز أخيرًا لإلحاح فيلبي وموّل رحلته إلى الربع الخالي، التي انتهت بنجاح كبير برغم المتاعب الصحية التي تعرّض لها فليبي بسبب حرارة الشمس.
وكما توقّع لمع نجم فليبي في بريطانيا، ونال من الجمعية الجغرافية الملكية وسامًا ذهبيًا، واعتبره الكثيرون مفتاحًا أساسيًا عند التعامل مع بلاد العرب.
دعته الجمعية الجغرافية الملكية على عشاء شرف ألقى خلاله محاضرة على الحضور، وطلبت منه وسائل الإعلام البريطانية كتابة المقالات وإجراء الأحاديث الصحفية، كما أنهى وضع كتابه «الربع الخالي».
لم يُشبع هذا الإنجاز فضوله، ولم يتوقف شغف فيلبي بالترحال في أنحاء الجزيرة، وسمح له الملك عبد العزيز بالقيام بعددٍ من الرحلات الاستكشافية في أنحاء مكة.
وكان فيلبي ينتهز هذه الفرص لرسم خرائط تفصيلية للمناطق التي يمرّ بها، مستعملاً أحدث الأدوات والمعدات، وبلغت هذه الخرائط من الدقة درجة جعلتها أساسًا لكثيرٍ من الخرائط التي نعرفها للسعودية في الوقت الحاضر.
ولهذا لم يكن غريبًا، أن يُوفده ابن سعود إلى جنوب اليمن عام 1934م لرسم خريطة للحدود بين البلدين، وهي المهمة التي استغرقت 8 أشهر، وأتاحت لفيلبي زيارة وادي نجران لأول مرة، كما ألّف عنها كتابًا شهيرًا أطلق عليه اسم «بنات سبأ».
فلنفتح أراضينا لشركات البترول
في إحدى زياراته للندن، تلقّى فيلبي اتصالاً من فرانسيس بي لوميس، نائب رئيس شركة ستاندرد أويل ونائب وزير الخارجية السابق، أخبره فيه أنه مهتم بالتفاوض مع الملك للحصول على عقد تنقيب عن النفط في السعودية لصالح شركة التي بدأت في استخراج النفط من البحرين.
في عام 1933م، قدَّمت الشركة عرضًا سخيًا لفليبي تضمَّن راتبًا شهريًا قدره ألف دولار بخلاف مكافأة قدرها 10 آلاف دولار إذا تم التوصل إلى اتفاق.
في هذا الوقت كانت السعودية تعيش أوضاعًا اقتصادية صعبة بسبب انقطاع 75% من الحجاج عن زيارة مكة بسبب الاضطرابات التي سادت البلاد والأزمة المالية التي مرَّ بها العالم وحرمت المسلمين من القُدرة على السفر، وانخفضت واردات الخزينة السعودية من 5 ملايين إلى مليونين فقط.
كانت هذه الأحوال مثار شكوى دائمة من الملك، يحكي فيلبي: بدأ القلق يستحوذ على الملك عبد العزيز، وبدأت أرى معالم اليأس تتسلط على نفسه، فتضعف من حيويته ومن تفاؤله. وكنت في ذات يوم أستقل السيارة الملكية في معيته في جولة قمنا بها بعد الظهيرة، عندما انطلق يتحدث عن آمال بلاده وأوضاعها. أعرب عن قلقه بأن ضعف موسم الحج في السنة التالية سيؤدي إلى كارثة اقتصادية تحلُّ بالبلاد.
بالرغم من هذه الأوضاع الصعبة، حافظ فليبي على تفاؤله، معتبرًا أن عروض التنقيب عن النفط ستُنقذ ابن سعود من خطر الإفلاس.
قال فليبي للملك: بلادك ملأى بالكنوز الدفينة من نفطٍ وذهب، وأنتَ عاجز عن استغلالها بنفسك، ولا تسمح في الوقت نفسه للآخرين باستغلالها نيابةً عنك.. أنا أعرف رجلاً يستطيع أن يُساعدك.
وبعدها ببضعة أشهر أسفرت جهود فيلبي عن إقرار أول اتفاقية تنقيب عن البترول في السعودية، سمحت للشركة الأمريكية باستكشاف منطقة تقع شرق بلاد الحجاز وتبلغ مساحتها 360 ألف ميل مربع لمدة 60 عامًا.
نصَّ الاتفاق على تقديم 35 ألف جنيه إسترليني مقدمًا، و20 ألف إسترليني أخرى خلال 18 شهرًا على أن يتم تقديم 100 ألف إضافية فور اكتشاف النفط.
مثّل هذا الاتفاق ضربة موجعة لنفوذ بريطانيا في المنطقة، وكان موطئ القدم الأمريكية الأولى في الخليج، وبعد خروج كميات مبشرة من النفط من حقل الظهران في مارس 1938م، أصبح واضحًا لأي متابع أن أمريكا لن تخرج من المنطقة أبدًا.
وعندما تعطّلت مسيرة التدفق البترولي قليلاً بسبب اندلاع الحرب العالمية الثانية، وإغارة بعض الطائرات الإيطالية على حقول البترول السعودية، أصدر الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت في 18 شباط/فبراير بيانًا أعلن فيه أن أمن المملكة هو «أمر حيوي لدفاع الولايات المتحدة».
وبدءًا من عام 1940 وحتى عام 1944 تجاوز مجموع المساهمات الأمريكية 7 ملايين جنيه إسترليني أنعشت بها خزائن عبد العزيز الخاوية.
الملك عبد العزيز: فليبي فقد عقله
في عام 1939م، تنازل فيلبي عن امتياز توريد السيارات للحكومة السعودية نتيجة لخلاف مع وزير المالية السعودي، كما أثارت ديون الحكومة السعودية للشركة الشرقية خلافات بين فيلبي والملك عبد العزيز، بعدما تجاوزت قيمتها 120 ألف جنيه إسترليني.
على إثر هذه الخلافات غادر إلى بريطانيا حيث رشّح نفسه للبرلمان ولم ينجح، بعدها حاول أن يعرض خدماته على الحكومة الإنجليزية لكنه لم يلقَ اهتمامًا من أحد.
فعاد إلى السعودية، ومن هناك أعلن تأييده لهتلر وتمنّى له النصر في الحرب.
هذه المواقف أحدثت جفاءً بينه وبين الملك، كشف عن تفاصيله في رسالة بعثها لزوجته، قائلاً: لم أرَ الملك عبد العزيز لعشرة أيام، وأشعر أنه لا يخلو من عدم ارتياح وفق مسيرة الأمور هنا، رغم أن معظم الناس مسرورون بعض الشيء، وإن كانوا خائفين قليلاً. لا أنوي مقابلة الملك إلى أن يعتذر لي عن وصفه لي بأني كذاب حينما أخبرته بأن الألمان قد اقتحموا ميس (مدينة فرنسية).
في هذه الأثناء، نجح هتلر في احتلال فرنسا وبات على بريطانيا وحدها مواجهة الجحافل الألمانية، وتنقل وثيقة دبلوماسية بريطانية عن الأمير فيصل بأنه أخبر مسؤولاً إنجليزيًا أن الملك تشاجر مع فليبي بسبب توقعه هزيمة إنجلترا في الحرب.
كما كشف تقرير أرسلته مفوضية جدة البريطانية إلى وزارة خارجيتها، أن فيلبي أطلق العنان لأحاديثٍ حافلة بعدم الولاء والانهزامية أمام الجميع، وأكد التقرير أن ابن سعود لم يعد يثق كثيرًا في صديقه القديم، واعتقد أنه فقد عقله لذا أبلغ الحكومة الإنجليزية بشكوكه نحوه.
بعثت وزارة الخارجية برسالة إلى وزارة الداخلية تأمرها فيها باعتقاله في الهند بسبب «تصريحاته العلنية في السعودية والناقدة لسياسات حكومة جلالة الملك فيما يتعلق بالحرب»، وبالفعل قُبض على فليبي خلال رحلته إلى كراتشي، ونُقل إلى إنجلترا حيث سُجن لبضعة أشهر.
وعندما خرج فليبي من السجن، حاول أن يُغادر إلى السعودية فرُفض طلبه.
فعاش قدرًا من حياته في ويلز يكتب عن رحلاته ومغامراته الممتدة في بلاد العرب والتي غيّرت تاريخها للأبد، لكن بعد انتهاء الحرب عاد إلى السعودية مجددًا، حيث سدَّد له ابن سعود كافة مستحقاته، ثم أعاد تعيينه مستشارًا له.
في عام 1953م توفي الملك عبد العزيز وخلفه ابنه الملك سعود، الذي لم يكن لفيلبي نفس القدر من الاحترام الذي منحه إياه والده الراحل، بالرغم من أن فليبي كان أحد أوائل مَن شهدوا مبايعة سعود وليًا للعهد في الحرم المكي الشريف.
سريعًا دبَّ الخلاف بين الطرفين بعد ما لم يحتمل سعود من فليبي انتقادًا لاذعًا وجّهه لطريقة إدارة الحُكم فأمر بطرده من السعودية وإذاعة هذا النبأ في راديو مكة.
سافر فيلبي بصحبة زوجته وأبنائه إلى لبنان، وعاش فيها لمدة عام حتى عفا عنه سعود وسمح له بالعودة في السعودية، وبالرغم من هذا العفو، لم يُقم فيلبي في السعودية بشكلٍ دائم، وظلَّ يتنقل بين البلدان حتى تُوفِّي في بيروت، وهو في الـ 75 من عُمره.
أذاعت الصحف اللبنانية هذا النبأ في صفحاتها الأولى، وكشفت عن وداعٍ هزيل لا يليق بسيرة الرجل، فلم يشترك في تشييع جثمانه إلا 10 أفراد بينهم ولده وزوجته والحمّالون الذين نقلوا الجثمان إلى مثواه الأخير، الذي وضع عليه ابنه شاهدًا يقول: «هذا أعظم مكتشفي جزيرة العرب».