جون ماكين: هذا الذي تمجدونه لم يكن بطلًا
محتوى مترجم | ||
المصدر | ||
التاريخ | ||
الكاتب |
لا شيء يُصلح صورة سياسية مشوهة تمامًا كما الموت. هذا ما حدث مع «نيكسون»، و«ريجان»، وربما يحدث مع «بوش»، وهو تمامًا ما يحدث مع «جون ماكين» الآن.لا يزال ماكين على قيد الحياة، لكنه قبل أسبوع شُخّصَ بنوع نادر وخطير من سرطان الدماغ، والذي يتطلب عملية جراحية لإزالة الورم. وقد أدى انتشار هذا الخبر إلى موجة من الحزن والتمنيات بالشفاء العاجل من الديمقراطيين، والجمهوريين، والليبراليين، والمحافظين على حدٍ سواء، فضلًا على فيضان من الخُطب المبجلة والتي تثمّن ماكين كبطل أمريكى نبيل.
كما أعلن مجلس تحرير صحيفة واشنطن بوست عن رغبته في أن «تتوقف واشنطن والعالم من بعدها للحظة؛ لاستيعاب المثال الذي يصنعه السيد ماكين كل يوم، لأنه في الوقت الذي فيه يقول السياسيون عن أي شي إنه صحيح أو غير صحيح، فقط للحصول على منفعة ما، يظلّ ماكين ملتزمًا بقناعاته، كما حافظ على عمله السياسي؛ ليس رغبة في الفوز، ولكن لجعل عالمنا مكانًا أفضل»، توقف للحظة لتمسح دموعك!
أوباما كير: من المعارضة إلى معارضة الإلغاء، تاريخ من التقلب
احتفى الديمقراطيون بماكين احتفاءً كبيرًا وأحاطوا به لدى عودته إلى مجلس الشيوخ. وفي الوقت نفسه حذّر الصحفيون الليبراليون بشدة أي شخص من أن يوجه أي نقد لماكين في مثل هذا الوقت العصيب.وقد تفاقم هذا التملُق أكثر خلال الليلة الماضية، عندما قرر ماكين التصويت بالقضاء على كل الجهود التي بُذلت لتدمير مشروع أوباما كير على الأقل في المستقبل القريب. وكان التصويت مفاجئًا وغير متوقع، وأمرًا مؤثرًا لكل من لم يُرِد أن يرى الملايين من الناس يفقدون رعايتهم الصحية. كان الطريق طويلا إلى لحظة تمرد ماكين على حزبه بمعارضته لإلغاء المشروع، كما أنه ما كان لينتهي غالبًا بدون أن ينصِّب ماكين نفسه خصمًا عنيدًا لترامب، بالرغم من أنه كان داعمًا للرئيس في كل ما فعله تقريبًا، لذا فسرعان ما وُصِفَ تصويته الليلة الماضية بـ«العمل البطولي».
ليس هناك من شك أن تصويت ماكين كان أمرًا حاسمًا يساهم في وقف الحملة الشرسة للحزب الجمهوري، والتي استمرت لسبع سنوات في محاولة للقضاء على أوباما كير. ولكن دعونا لا نعطي الأمور أكبر من حجمها.قضى ماكين سنوات طويلة في مهاجمة مشروع «أوباما كير»، واصفًا إياه بأنه تشريع حزبي بامتياز كُتب سرًا ومُرر بالقوة في الكونغرس، ومع أن هذا الوصف أكثر ملاءمة لـ «حقبة الحزب الجمهوري لعام 2017»، التي هي عبارة عن سلسلة من الإخفاقات في إلغاء الرعاية الصحية أو قانون أوباما، على حد سواء. وقد تفاخر بهذا نهاية العام الماضي قائلًا: «إنه القانون الذي حاربته لعدة أسابيع بلا انقطاع». لقد قضى أيضًا جُل هذا الوقت يدعو ويصوت لإلغاء القانون واستبدال ما أسماه «نهج السوق الحرة» للرعاية الصحية به.كانت حملة إعادة انتخابه عام 2016 تتمركز على المعارضة الصارمة للقانون، كما أنه في عام 2015 صوّت لصالح مشروع قانون جمهوري الذي -إلى جانب عدة أمور أخرى- أحبط التوسع في المساعدات الطبية التي يقوم بها المشروع.ناهيك عن ذكر حقيقة أن ماكين صوَّت في البداية لمحاولة الحزب الجمهوري الأخيرة لإلغاء المشروع، وعلى الرغم من خطابه المتملق الذي ندد فيه بالقانون وكيفية وضعه. فإن قرار ماكين بالتصويت ضد الإلغاء ونتائجه الوحشية؛ هو أقل رد فعل إنساني طبيعي لائق لوضع مماثل، ولا سيما لشخص ربما نجا قبل عدة ساعات بفضل خطة الرعاية الصحية الممولة من القطاع العام. وربما لحقيقة أن تحوله جاء بعد انتقاد واسع النطاق ندد بنفاقه. أو لأن نائبتين أخريين من الحزب الجمهوري قد صوّتتا بإصرار في وقت مبكر أنه «لا» للإلغاء. وتخبرنا الآن صحيفة «واشنطن بوست» أن ماكين صوت ضد مشروع القانون لأنه لم يكن واثقًا بما فيه الكفاية من أن «مفاوضات لمجلس النواب لإعادة مناقشة القانون قد تتم لاحقًا». ومع ذلك، وبغض النظر عما إذا كان تصويت ماكين ضد الإلغاء محسوبًا أو غير مؤثر، فإنه سيضيف إلى مكارمه ويخلد فكرة كونه رجلا نبيلا، وحارسًا بطلا للشخصية الأمريكية، الذي يترفع دائما عن الصراعات الحزبية التافهة من أجل تحقيق ما هو أفضل؛ مما سيشجع على تجاهل أي انتقاد شرعي لأفعاله وسجله السياسيين.علينا أن نقاوم مثل هذه المحاولات. فماكين ليس مجرد شخصية عامة ذي سلطة ونفوذ كبيرين، لكنه وإرثه قابلين للانتقاد. وكما حدث مع ريغان، فإن تثمين نهاية حياته يشوه سجل ماكين السياسي الفعلي، الذي هو أبعد ما يكون عن الصورة البطولية التي يجري التسويق لها الآن.فخلال الأسبوع الماضي أشار البعض إلى الصورة المتمردة المصطنعة لماكين. وأشار آخرون إلى مئات الآلاف من الأرواح البريئة التي ساهم ماكين في تحطيمها من خلال دعمه لكل الحروب دون تردد.من الواضح أن سجله السياسي كريه. وبما أن أغلب التبجيل لماكين يركز على أخلاقه ولباقته، فأنا أريد أن أركز على موضوع آخر؛ ألا وهو حملته الرئاسية البغيضة في عام 2008.
يا للخطورة، ويا للخزي!
عقب إعلان خبر إصابته بسرطان الدماغ، قام عدد من الصحفيين بنشر فيديو -أصبح من أكثر المقاطع شيوعًا في وسائل الإعلام- لماكين في حملته عام 2008، يدافع فيه عن أوباما، خصمه الديمقراطي، ضد غضب وتعصب أحد أنصاره. وقد نشر هذا الفيديو عدد من الصحفيين وغيرهم كدليل على أخلاق ماكين وشرفه ونزاهته.كتب أحدهم: «سأحترم جون ماكين دائمًا بسبب هذه اللحظة،لقد تكلم ضد الأغبياء والمجانين. كان هذا هو الشيء الصحيح الذي يجب القيام به»، وكتب آخر: «لقد كان هناك ذلك الوقت الذي كان فيه المرشحون الرئاسيون رحبي الصدر . شكرًا لنائب الشعب ماكين».كان هناك نقد ضمني لدونالد ترامب خلال هذه التصريحات، على عكس ترامب، الذي استثار ببراعة أكثر مؤيديه تعصبا، فإن ماكين حارب لرفع الخطاب العام وتحدث ضد رغبات ناخبيه الرئيسية.
المشكلة الوحيدة هنا أنه لا شيء من هذا صحيح
دعونا نفترض حسن نية ماكين وأنه في الواقعة التي ظهرت في الفيديو عام 2008، قد فهم أن المرأة التي وصفت أوباما بأنه «عربي» كانت تقصد بذلك أنه «إرهابي»، في حين أنه كان يقصد أن العرب ليسوا أشخاصًا لائقين. وقد انعكس هذا بصورة جيدة على ماكين. ولكنه جاء بعد أسبوع كامل من التوتر واليأس والتراشق بالعبارات، حين أطلق ماكين ونوابه على أوباما «الإرهابي الغريب»، مما أثار مجموعة من مؤيديه على طريقة ترامب.وإضافةً إلى ذلك، فإن جهود حملة ماكين لمحاولة إظهاره كأوباما «آخر» قد استمرت بصورة جيدة بعد تجاوز هذه النقطة. وفي الواقع، ربما تكون حملة ماكين العنصرية عام 2008 قد ساهمت في إنتاج الحياة السياسية لترامب. هذه التفاصيل تستحق أن تُسرد ليس دفاعًا عن أوباما –الذي يستحق إرثه في أغلب القضايا نقدًا قاسيًا- ولكنها فقط وسيلة لفهم كيف أن ما يحدث حاليًا من تبجيل لماكين هو أمرٌ خاطئٌ.عندما بدأت الحملة العامة ظلّ ماكين مطاردًا بذكريات حملة ولاية كارولينا الجنوبية سيئة السمعة، والتي أخرجته عن السباق عام 2000، وعلى ما يبدو فقد أراد أن يدير حملة غير عنصرية فريدة، فتجنب هجومًا على أوباما لارتباطه مع القس جيرميا رايت، واستنكر على الحزب الجمهوري في ولاية كارولينا الشمالية إعلانه لهذا الأمر، مشيرًا إلى أن «كل ما يمكنني فعله هو فصل نفسي عن هذا النوع من الحملات الانتخابية».
كما أنه عندما استخدم مضيف راديو محافظ اسم أوباما الأوسط «حسين» ثلاث مرات مستخفًا به في خطابه لتقديم ماكين في تجمع ما، عقد ماكين مؤتمرًا صحفيًا يؤكد فيه مجددًا نزاهة أوباما بينما يعتذر ويدين التصريحات، ووعد أن «هذا لن يحدث مجددًا أبدًا».استمر هذا الموقف تقريبًا طوال فترة بقاء ماكين كمنافس لأوباما في استطلاعات الرأي فقط، وحتى هذه اللحظة التي بدأت الحملة فيها الهجوم. في البداية، كان الأمر في حدوده الأدبية المعتادة، فيما كان أوباما ساذجًا وعديم الخبرة. ولكن بظهور الأزمة المالية، وردود فعله العصبية، تراجعت شعبية ماكين في استطلاعات الرأي، وأحبطت الحملة. لذا وفي أوائل أكتوبر/تشرين الأول، أطلقت الحملة خطة سياسية للهجوم العنيف على شخصية أوباما وانتماءاته الشخصية.وفي الأسبوع التالي، رأينا سيلًا من الهجمات المستمرة من ماكين، ورفيقته سارة بالين، والتي وصفت أوباما بالدخيل غير الأمريكي المشكوك بأمره! كان للحملة بعض الممارسات على هذا النهج بالفعل . ففي نيسان/أبريل، طرح ماكين لأول مرة قضية علاقة أوباما بـ«بيل آيرس»،العضو السابق في شركة «ويذر أندرجراوند» والذي كان معلمًا في شيكاغو لفترة طويلة، وبعد بضعة أيام فقط، أرسل نائب مدير الحملة رسالة لجمع التبرعات عبر البريد الإلكتروني هاجمت أوباما لتلقّيه الثناء من أحد مسئولي حماس. (ومن المفارقات، أن أحد مؤيدي القاعدة حثّ التنظيم في وقت لاحق على مساعدة ماكين على الفوز، لأن حبه الذي لا يرحم للحرب يعني أنه سيكون من الأسهل النجاح في استنزاف أمريكا).
اللجوء للعنصرية كبديل غير آمن
لكن في تشرين الأول / أكتوبر، تحولت الحملة إلى تجاوز عنصري ما أعطى مصداقية الشائعات الهزلية التي تم نشرها في الأوساط اليمينية حول أوباما؛ مثل القول بأنه كان إرهابيا مسلما سرا، أو متطرفا أجنبيا يعمل على الإطاحة بالحكومة الأمريكية. بالإضافة إلى ربطه مرارا بـ«الإرهابيين»، والقول بأن علاقته بأمريكا وقِيمها تكاد تكون منعدمة، واستمرت الحملة باللمز حول الأمر . ولأن الخرافة تجد دائما من يصدقها فقد صدق البعض هذه الشائعات.ففي حملة لجمع التبرعات قالت سارة بالين إن «أوباما ليس رجلًا يرى أمريكا كما ترونها أنتم، وكما أراها أنا».شارك ماكين بنفسه في تلك التجاوزات، مع تلميحات عنصرية غامضة حول أوباما، وأصبحت جزءًا من خطابه الأساسي. وفي وقت ما، نوّه بأن حملة أوباما أعادت 33 ألف دولار من الأموال الأجنبية غير المشروعة من متبرعين فلسطينيين.كانت التغيرات في هذه الأفكار العرقية قد سبقت بالطبع حملة ماكين، تطوف في أوساط اليمين المتطرف. وكانت فكرة أن أوباما كان مسلمًا شيوعيًا سرًا وكان عازمًا على الإطاحة بالديمقراطية الأمريكية، تُقدَّم على المواقع الإلكترونية الهامشية غير الرسمية، ومنتديات الإنترنت، وسلاسل البريد الإلكتروني التي يرسلها لك عمك وقريبك الجمهوري. لكن هذه كانت المرة الأولى التي يعطي فيها مرشح الحزب الجمهوري مصداقية الشائعات من خلال إعطاء هذه الافكار المغرضة، وما يمكن وصفها باللمزات الخبيثة.عملت هذه الاتهامات على استثارة مؤيدي ماكين حد الجنون، فكنت تجدهم غالبًا ما يصرخون بأشياء مثل «خائن»، و«إرهابي»، و«اجلبوا رأسه!»،وفي أحد مؤتمرات الحملة عندما سأل ماكين مرة أخرى (من هو أوباما الحقيقي؟)، صاحت امرأة: «إنه قنبلة»، وأعلن رجل آخر خوفه قائلًا: «إن الاشتراكيين يسيطرون على البلاد». وفي تجمع آخر، تحولت الجماهير إلى الصحافة، وأطلقوا العنان للشتائم والإساءات على الصحفيين وطاقم التصوير، وصرخ أحدهم على رجل الصوتيات أسود البشرة مستهزئا: «اجلس يا ولد».وقد أعرب عدد من حلفاء ماكين السابقين من الجمهوريين عن اشمئزازهم من أساليبه، فكتب له أحدهم خطابًا عامًا يحذره من أنه «إن لم تتوقف حملتك عن نعت باراك أوباما بالإرهاب، والتشكيك في وطنيته وتصويره بأنه ليس واحدا منا، فإنني سأتهمك بتغذية أكثر العناصر المعتوهة في مجتمعنا بالكراهية، مما يزيد من احتمالية التحريض على العنف».كان هذا هو السياق الشجاع واللائق للموقف الذي كان على ماكين أن يتخذه ضد هذا الفيديو المشين. لم يكن هذا تصرفًا مشرفًا له، لقد أراد ماكين الخروج من القطار المتحرك الذي استقله لأنه شعر بالذعر.
جون ماكين الحقيقي
صحيح أن التبجيل الذي غمر ماكين فجأة من كل الأطياف السياسية لم يكن مفاجئًا، لكنه كذلك غير مبرر. لم يكن ماكين في حملته عام 2008 -والتي توصف الآن بسخرية بأنها أفضل ساعاته- رجلًا نبيلًا، لقد كان الرجل الذي استخدم العنصرية والاتهامات السخيفة بالتعاطف مع الإرهابيين في محاولة للفوز في الانتخابات.وما يجعل هذا التبجيل غريبًا بشكل خاص، هو أن قدرًا كبيرًا منه يأتي من أولئك الذين يعتبرون أنفسهم خصوما عنيدين لترامب. وفوق ذلك جماهير حملة ماكين في أكتوبر/تشرين الأول 2008، مع تحريضهم على الغضب والتعصب والعداء المفتوح للصحافة، والذين أصبحوا بطريقة أو بأخرى رواد حملة ترامب الخاصة بعد ثماني سنوات. إن ترامب -وبلا شك- قد تلقى بعض الإلهام لهجماته العامة على «أمريكية أوباما» عام 2011 من تلميحات حملة ماكين -التي لم تكن بهذا الخبث- قبل ثلاث سنوات. لقد كان منتبهًا، كما أنه وفي النهاية كان من مؤيدي ماكين في حملته عام 2008 .لقد استحق أوباما العديد من الانتقادات المشروعة خلال حملته عام 2008، وكذلك العديد من الأمور التي تفاقمت خلال فترة توليه منصبه. وبالرغم من أن أيًا من تلك الانتقادات لم يأت من جون ماكين. فإنه لا يتعين على المرء أن يشمت في مرض ماكين ليقتنع بأن الثناء الحالي الذي يغمره هو صورة مشوهة لسجله الفعلي.إذا اعتقد المرء أن جل هدف ترامب السياسي هو الاستيلاء على النجاح الانتخابي لليمين المتطرف، كما يظن الكثيرون، فإنه من غير المعقول التعامل مع ماكين كبطل بينما هو قد فعل الشيء نفسه. من هو جون ماكين الحقيقي؟ لقد أخبرنا بالفعل في أكتوبر/تشرين الأول 2008.