رحيل بولتون: قطعة الشطرنج التي خدع ترامب بها العالم
في المجرة التي يسكنها الرئيس الأمريكي «دونالد ترامب» يجب أن يكون هو شمسها الوحيدة. الأخبار والأنظار يجب أن تتعلق بترامب وحده، ولا يصح أن يُقال فعل الرئيس ذلك بناءً على مشورة آخرين. لذا، فكل أحد يحاول منازعة الرئيس دائرة الضوء يجب أن يخرج فورًا. حتى لو كان جون بولتون مستشاره للأمن القومي، ومحط إعجاب ترامب لوقتٍ طويل. ورفيق أفكاره حول الكثير من القضايا الدولية. فقد حانت لحظة الفراق بعد أن أظهر الثنائي تناغمًا مرعبًا فيما يتعلق بإيران وكوريا الشمالية والشرق الأوسط.
بولتون انضم لقائمة ترامب الطويلة من الإقالات والاستقالات. دائمًا ما تكون الأسباب المعلنة خلاف في وجهات النظر. هو ذات السبب هذه المرة أيضًا، في تغريدته قال ترامب إنّ خلافات شديدة في الآراء حدثت بين الرجلين مؤخرًا. لكن بولتون لا يُغيّر رأيه، الرجل يعشق الحرب. يحلم بنسف إيران، وتفجير كوريا الشمالية. فهل رأي ترامب في إيران وكوريا الشمالية هو ما تغيّر؟
في السياسة لا توجد معادلات حسابية. لا يمكن حصر الأمر في اختيارين فقط، دائمًا هناك عدد لا نهائي من الاختيارات. وزير الخارجية «مايك بومبيو» ووزير الخزانة «ستيفن منوشين» لم يخفيا فرحتهما بخروج بولتون من الإدارة. ووضعا لنا بشكل غير مباشر تصورًا لما يمكن أن يكون الاختيار الثالث. بولتون لم يستطع أن يعطي ترامب ما يريد. لم يستمر في القبول بكل ما يقول ترامب، بل يجادله في كثير من الأحيان. كما أن بولتون ظل يُصر على أن ولاءه لفكرته ومبدئه، ليس للرئيس مهما تغيّرت أفكاره ومبادئه كما يحب ترامب من أتباعه، وكما يفعل بومبيو.
أما إذا أردنا أن نتوسم العقلانية في ترامب، وقلنا بأن السبب يجب أن يكون أعمق من مجرد عدم إظهار الولاء بشكل كافٍ، فهناك اختيار رابع. المناورة، كلمةٌ يشيع استخدامها وتنفيذها خصوصًا إذا كنت رئيسًا على أعتاب انتخابات الولاية الثانية في 2020. سياسة ترامب في الفترة الأولى حققت نجاحًا صادمًا. الضربات المتتابعة التي وجهها لحلفاء الولايات المتحدة جلبت له مليارات الدولار، وخلقت للمواطن الأمريكي آلاف الوظائف. لكن لم تعد الولايات المتحدة عظيمة مرة أخرى، ولم يصب الرعب كل بقاع العالم كما وعد ترامب ناخبيه عام 2016.
خدعة الرئيس
إيران تمضي بثبات نحو امتلاك سلاحها النووي بعد انسحاب ترامب من الاتفاق النووي. كوريا الشمالية لم تفكك منظومتها النووية رغم تحذيرات ترامب. الصين صاعدة للسيطرة على العالم دون أن تتأثر بالحرب التجارية الأمريكية. روسيا نفضت عنها فضيحة التدخل في الانتخابات الأمريكية وتستمر في لعب دورها الرئيسي في العالم. الجنود الأمريكيون في أفغانستان ولم تترك حركة «طالبان» سلاحها.
مشاكل ضخمة يراها الناخب الأمريكي بوضوح. ويرى كذلك أن عصبية بولتون لن تجدي فيها. ويبدو أن ترامب أدرك أن النصر الأسطوري الذي أراده في سيرته الذاتية لن يتحقق. فلا إيران سترفع يديها استسلامًا له، ولا كوريا الشمالية ستركع عند قدمه طالبةً المعونة. ولن ترسل له الصين رسالة استغاثة ليُوقف حربه التجارية ضدها. إذن على ترامب أن يبيع للشعب الأمريكي إنجازات أخرى، أقل مما يطمح هو وبولتون، لكنّها بالتأكيد أكثر من الصفر الذي حققه ترامب حتى الآن. خاصة أن أحدث الاستطلاعات تقول إن قرابة 40% ممن انتخبوه يرون أنه لا يستحق إعادة الانتخاب مرة أخرى.
الإنجازات التي يريدها ترامب هي الظهور كرجل دولة، سياسي مُحنك يلتقي هذا ويجلس على طاولة المفاوضات مع ذاك. مجموعة من الإنجازات التجميلية تمنحه نقاطًا إضافية في استطلاعات الرأي. لذا فخروج بولتون كان ضروريًا لتكتمل الصورة. وليثبت ترامب بشكل جاد أنه سينهج نهجًا جديدًا في السياسة الخارجية. خاصةً أن بولتون قد اعترض صراحةً على إحضار «إرهابيي» طالبان لكامب ديفيد من أجل التواصل معهم لصفقة تسمح بعودة الجنود الأمريكيين لبلادهم.
وقد منحته كوريا الشمالية مقدماتٍ لهذا النصر. إذ بدأ المسئولون الشماليون يتحدثون فجأة عن الاستعداد للعودة إلى طاولة المفاوضات مرةً أخرى. ويُنتظر أن يحدث لقاء تاريخي بين الرئيس الإيراني حسن روحاني وترامب في الجمعية العامة للأمم المتحدة في أكتوبر/ تشرين الأول 2019. ومن تصريحات بومبيو الصادرة بعد رحيل بولتون مباشرةً بدا الرجل شغوفًا ومتحمسًا لهذا اللقاء، على عكس بولتون الذي يتجهم متى ذُكرت إيران. واستقبلت إيران هذه الإقالة بفرحٍ حذر، كما صرّح علي ربيعي المتحدث باسم الحكومة الإيرانية. وقال إنه بخروج بولتون باتت الحواجز بين الولايات المتحدة وإيران أقل. وإنّه ربما حانت الفرصة ليفهم الطرفان بعضهما.
أحداث 11 سبتمبر
المصادفة الساخرة أن تأتي الإقالة في عشية الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول 2019. فكأنما يشهد هذا التاريخ التحولات الأعنف والأغرب في تاريخ الولايات المتحدة. في نفس اليوم قبل 18 عامًا فُجر برجا التجارة العالميان، لتنتهج الولايات المتحدة نهجًا شديد العنف والصرامة في منقطة الشرق الأوسط. كان إفراز رجل مثل بولتون أحد نتائج هذه السياسة، فكأنما خُلقت تلك البيئة العدائية له وكأنما خُلق لها. لكن في عشية 11 سبتمبر/ أيلول 2019 خرج بولتون آخر صقور المحافظين الجدد في إدارة ترامب الحالية.
اقرأ أيضًا: جون بولتون ومايك بومبيو: صقور دونالد ترامب «الجارحة»
بنظرة أقل تفاؤلًا، يمكن القول بأن إقالة بولتون تعني الفوضى لا الاستقرار. بولتون كان ينفذ رغباته التدميرية الواضحة بأسلوب منطقي. كان متطرفًا لكن بوسائل السياسة الأمريكية المعروفة. أما ترامب فهو عاشق للحظة والصورة. يمكنه أن يتخذ قرارًا مفاجئًا كما فعل في التجول مع زعيم كوريا الشمالية، ثم يعود ليهاجمه مرةً أخرى. تلك المخاوف لم تغب عن عقول أعضاء الكونجرس الأمريكي الجمهوريين والديموقراطيين. العديد منهم رحب برحيل بولتون، لكنّه ترحيب حذر يتبعه تخوّف من أن تحكم الفوضى سياسة البيت الأبيض.
الأكثر هو خوفًا هم أعضاء لجنة القوات المسلحة في الكونجرس. تنوعت الكلمات التي استخدموها لكن وحدّهم المعنى. ترامب رئيس مختلف، لا أحد يدري ما يدور في ذهنه، ولا يعرفون أين سيتجه. وفي غياب أشخاص ذوي آراء صلبة ومواقف معلنة لن يعرف أحد خطوة ترامب القادمة.
بولتون أو الفوضي
بداية صغيرة لكن لا يُتوقع أن تنتهي عند هذا الحد. خاصةً أن بولتون لديه نزوع للوجود تحت الأضواء وقائمةً شديدة الطول من العلاقات الإعلامية النافذة. حتى لو لم يذكر مثالب ترامب، فسيكتفي بذكر إنجازاته ونصائحه لترامب. تلك النصائح التي اتبعها ترامب لمدة 17 شهرًا كاملة، مدة خدمة بولتون كمستشار للأمن القومي. النصائح التي ذكرها مصدر مُقرّب من بولتون بالقول بأنه طوال خدمة بولتون في البيت الأبيض لم يقم ترامب بأي صفقات سيئة أو مهينة للولايات المتحدة.
الفوضى يمكن أن تأتي من ثغرة لا يتوقعها ترامب. المُخيف في بولتون أنه لا يصمت، لن يكون هادئًا كوزير الدفاع المُقال «جيمس ماتيس». فمنذ اللحظات الأولى ألمح بولتون أن كلمات ترامب ليس صادقة تمامًا. فقال في تغريدته إنّه هو من قدّم استقالته إلى ترامب ولم تتم إقالته كما قال ترامب في تغريدته. وحين أكد السكرتير الصحفي للبيت الأبيض أن تغريدة الرئيس هى الأصدق، قال بولتون مباشرةً بأن كلام سكرتير البيت الأبيض غير صحيح.
اقرأ أيضًا: ترامب يخطط للحرب العالمية: 3 تغييرات تشرح لك.
وهو نفس ما تراه إسرائيل، الدولة الأهم بالنسبة للولايات المتحدة. لذا رضاها وسخطها يعتبر عاملًا مهمًا لا يمكن تجاهله. بولتون لم يكن مجرد مسئول مرضي عنه إسرائيليًا، بل كان معشوقًا لساسة إسرائيل وإعلامييها. لم تخف الحكومة الإسرائيلية ذلك وعبّرت عن قلقها من إقالته. كما تحدث الإسرائيليون صراحةً عن خوفهم من التقارب الأمريكي الإيراني المحتمل.
هذا القلق الإسرائيلي تضعه الإدارة الأمريكية في الحسبان. خاصةً أن جميع الأسماء المُرشحة لخلافة بولتون تنتمي لنفس التيار المحافظ. ربما ليست متطرفة كما كان بولتون، لكنها ليست منفتحةً على الآخر مثلما يأمل الكثيرون. فشعار عصر ترامب هو أمريكا أولًا، وإسرائيل ثانيًا، والبقية تأتي لاحقًا.