عبر رحلة كتابته للشعر التي ناهزت الستين عامًا، احتل الشاعر الأمريكي جون آشبيري (1927–2017) مكانة شديدة الخصوصية والثراء في الحركة الشعرية الحديثة في الولايات المتحدة الأمريكية والعالم.

وبالرغم من انقسام آراء العديد من النقاد والقُرّاء حول مستويات الغموض في قصائده، فإنهم جميعًا أكدوا على اختلاف تجربته الشعرية وتفردها وتمكنّه من فتح الأبواب الموصدة أمام أجيال لاحقة من الشعراء الشباب، بابتكاره أساليب لغوية أكثر تشابكًا وتأملًا لجوهر الأشياء.

ولقد كان من دواعي حظنا أن تظهر مجموعة متنوعة من قصائده في ترجمة عربية أنجزها الشاعر السعودي «غسان الخنيزي» بعنوان «جون آشبيري: صورة ذاتية في مرآة محدبة وقصائد أخرى» (مجموعة كلمات، دار روايات، 2018) بالشارقة.

وبالرغم من أن القصائد الواردة داخل هذا الكتاب جاءت في مجموعات شعرية مختلفة، فإن المترجم آثر أن يعنونها بـ «صورة ذاتية في مرآة محدبة»، وهو عنوان قصيدته الأكثر شهرة، والتي أفردت لها مجلة الشعر الأمريكية نصف صفحاتها لعددها الصادر في أغسطس/آب عام 1974.

وبعدها بعام صدرت مجموعته الشعرية السابعة حاملة العنوان ذاته، ليتوّج بأرفع الجوائز الأدبية في الولايات المتحدة الأمريكية، فنال جائزة بوليتزر وجائزة الكتاب الوطني والجائزة الوطنية لحلقة النقاد، فصار «آشبيري» أيقونة الشعر الأمريكي الحديث لعقود متتالية.

بدايات آشبيري

منذ طفولته التي عاشها وسط المزارعين في «روشستر»، أدرك «آشبيري» أهمية الصمت وضرورة إفراد مساحة كافية للتأمل وسط هذا الحيز الجغرافي الريفي المغطى بالثلوج الكثيفة. وبعد أن التحق بجامعتي «كولومبيا» و«هارفارد»، انخرط في مجال الدعاية والإعلان قبل أن يندمج تمامًا مع الموسيقى وعالمها.

لكن ضربته الأولى في عالم الشعر جاءت عن طريق ديوان «بعض الأشجار» (1956)، والذي نال عنه جائزة جامعة «ييل» للشعراء الشباب عبر لجنة ترأسها الشاعر الكبير «و.هـ. أودن»، لكن هذا المغامر آثر الانتقال إلى باريس فعمل مراسلًا ومترجمًا وناقدًا لمجموعة من المجلات الأمريكية، قبل أن ينجز ترجمة بعض القصائد من اللغة الفرنسية مباشرة.

فهذه الموهبة الشعرية المتوحشة سرعان ما اندمجت في كيان آخر عُرف باسم شعراء مدرسة نيويورك، الذين ربطتهم علاقات شخصية قوية بفنانين تشكيليين بارزين في المجتمع، فكانت قصائدهم تجنح إلى ربط ضفتي الشعر والرسم، فكانت القصائد تميل في مجملها إلى محاكاة اللوحات التشكيلية، وتوالت مجموعاته الشعرية في الصدور: «قسم ملعب التنس» (1962) و«الحلم المزدوج للربيع» (1970) و«ثلاث قصائد» (1972) و«صورة ذاتية في مرآة محدبة» (1975).

انفتحت هذه المجموعات على طاقات شعرية هائلة بعيدًا عن الجمود والتقليدية، كما امتازت بتعدد الأصوات مع استلهام الأساطير الشعبية والثقافة اليومية الدارجة (Pop Culture). وباتت قصائد «آشبيري» نموذجًا فريدًا للغموض واستنباط صور متعددة للحالات الشعورية، ولذلك لم يكن غريبًا أن يقول عنه الروائي الأمريكي الشهير «بول أوستر»:

لا أحد يكتب الشعر مثل آشبيري.

عرش الشعر الأمريكي

هذه الطاقات الشعرية الهائلة فجرها «آشبيري» عبر 27 مجموعة شعرية صدرت على مدى ستين عامًا، تربع خلالها على عرش الشعر الأمريكي الحديث كما قال عنه «لونغدن هامر» رئيس قسم اللغة الإنجليزية بجامعة ييل:

لا قامة تلوح في أفق الشعر الأمريكي خلال الخمسين عامًا المنصرمة أكبر من آشبيري… ولم يمتلك شاعر أمريكي قط ما امتلكه من تنوّع وثراء لغوي، لا والت ويتمان ولا حتى عزرا باوند.

والحق أن «الخنيزي» قد بذل جهدًا مضنيًا في ترجمة هذه المختارات الشعرية التي أشرنا لها سابقًا، وذلك عبر تقصي أخبار الشاعر عبر وسائل عدة منها: الأعمال الشعرية المطبوعة، والقصائد المرفقة عبر المواقع الإلكترونية، وحوارات الشاعر عبر منصات الجامعات الأكاديمية… إلخ.

ولنتأمل هذا المقطع لآشبيري من قصيدة «تاريخ حياتي» الذي يقول فيه:

في يوم من الأيام كان هناك شقيقان
ثم كان هناك واحد فقط: أنا نفسي.

ويقول في قصيدة «هذه الغرفة»:

الغرفة التي دخلتها كانت حلمًا بهذه الغرفة
حتمًا كل آثار الأقدام على الأريكة هي لي
الصورة الشخصية البيضوية
لكلب هي صورتي في عمر مبكر
شيء ما يتلألأ
شيء ما قد امحى
كنّا نأكل المعكرونة ظهر كل يوم
ما عدا الآحاد عندما يُستجلب طائر سمان صغير
كيما يُقدم إلينا
لماذا أخبرك هذا كله؟
أنت حتى لست هنا.

نعم، إنه هذا التصالح مع الواقع المرير وفقدان الأحباب وتجاوز التخوم الفاصلة بين الحلم ومرآة الواقع، فكل انعكاس في النهاية هو وضوح للصورة وليس تشويشًا فيها، وليس هناك من شك أن الانفتاح الذي امتلكه «آشبيري» على لغات وثقافات أخرى جعلت من نصّه الشعري متحفًا للأدب العالمي، فنجده يقول:

سيرفانتس كان نائمًا عندما كتب دون كيخوته
جويس نام خلال فصل الصخرة المرتحلة في عوليس
هومر هز رأسه من النعاس ونام بين ساعة وأخرى خلال الجزء الأكبر من الإلياذة
على أنه كان مستيقظًا عندما كتب الأوديسة.

هذه التيمة ذاتها التي تكررت في قصائد أخرى مثل: «زهرة الليلك»، ولا يترك «آشبيري» مناسبة إلا ويغتنم خلالها تجربة محاكاة الطبيعة والتماهي مع مفرداتها كما في قصيدة «مزرعة III» التي يقول فيها:

موجات صغيرة تخبط الأحجار الدكناء
الزوجة تقرأ الرسالة
ليس هناك من شيء نهائي: إشارات للحروف الشمسية الأخيرة
للماشية والدواب المرقطة التي غزت المكان.

القصائد المُعمِّرة

لقد كان مثالًا واضحًا على ارتباط الشعر بالتأمل وبواطن الأمور، فاللحظة الشعرية أولى بها أن تُعاش بدلًا من محاولة تفسيرها والانهماك في تقصي معناها، ولعل هذا ما عبّرت عنه الشاعرة والناقدة «ميغان أورورك» عن أشعار آشبيري، ناصحة القراء بـ «عدم محاولة فهم القصائد، بل الاستمتاع بصياغتها، على النحو الذي نستمع فيه إلى الموسيقى».

ولعل هذه القدرة على التقاط الشعر من جزيئات الهواء المتطايرة وتحويلها إلى بناء فني متكامل، هو ما دفع بلجنة تحكيم جائزة «غريفين» الأدبية الدولية في كندا إلى منحها لديوانه «ملاحظات من الهواء: مختارات شعرية لاحقة» عام 2008، حيث ارتأت اللجنة أن هذه المختارات الشعرية – التي أشرف على اختيارها الشاعر بنفسه – تعدّ كنزًا قوميًا يظهر خلاله التطور الملحوظ لقصائده منذ منتصف الثمانينيات حتى الوقت الحاضر، وهذا يعني أن «آشبيري» الذي فارق الحياة في سبتمبر/أيلول 2017 ما تزال قصائده تضيء وتنتشر بين النقاد والقراء حول العالم.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.