مستقبل الوظائف في مواجهة تسونامي «الثورة الرقمية»
لم يكن هناك وقت أسوأ من اليوم، أن تكون فيه عاملًا يتمتع بمهارات وقدرات «عادية» فقط لتقديمها، لأن أجهزة الكمبيوتر والروبوتات والتقنيات الرقمية الأخرى تكتسب هذه المهارات والقدرات بمعدل غير عادي.
اليوم، نشهد الثورة الصناعية الرابعة أو الثورة الرقمية، والتي يمكن وصفها بظهور «الأنظمة السيبرانية الفيزيائية» التي تنطوي على قدرات جديدة تمامًا للأشخاص والآلات. ويمكن تعريف «النظام السيبراني الفيزيائي» على أنه آلية يتم التحكم فيها أو مراقبتها بواسطة خوارزميات قائمة على الكمبيوتر، ومتكاملة بإحكام مع الإنترنت ومستخدميها.
وكانت الثورة الصناعية الرابعة موضوع المنتدى الاقتصادي العالمي لعام 2016 في دافوس، حيث نشر البروفيسور «كلاوس شواب»، المؤسس والرئيس التنفيذي للمنتدى الاقتصادي العالمي، كتابًا حول هذا الموضوع، يشير فيه إلى أن هذه الثورة هي مزيج من الصناعة والخدمات الذكية.
الثورات الصناعية الكبرى
الثورة الصناعية الأولى (1760-1840)
انتشرت على الصعيد الدولي كالنار في الهشيم، وكانت هذه الفترة مدفوعة بالاختراعات التكنولوجية، وخاصة إنجاز المحرك البخاري، الذي أدّى إلى تحسين طريقة تشغيل الآلات بشكل عام.
كان التطبيق الإستراتيجي للمحرك البخاري هو القاطرة البخارية التي تم اختراعها في عام 1804، ومن ثَمَّ تم افتتاح أول خط للسكك الحديدية في هولندا في عام 1839، وذلك أدى بدوره إلى توسيع شبكة السكك الحديدية، مما أدى إلى توجيه الأيدي العاملة نحو التصنيع. وساعدت ميكنة الزراعة على نمو العديد من المصانع الجديدة، على سبيل المثال: مصانع السكر ومصانع البطاطس ومصانع الدقيق ومصانع القش، حيث احتلت الزراعة مكانة كبرى في الاقتصاد الهولندي خلال القرن التاسع عشر.
أدى التصنيع أيضًا إلى ظهور صناعات أخرى مثل: صناعة النسيج، وصناعة الآلات، وصناعة الأحذية الجلدية، وتطلبت هذه التطورات مهارات جديدة من العمال.
الثورة الصناعية الثانية (1870-1914)
يُطلق عليها «الثورة التكنولوجية»، حيث جلبت التقنيات الجديدة للإنتاج الضخم والتصنيع السريع المصحوب بإدخال خطوط التجميع والكهرباء، وتم إنشاء وظائف جديدة للبشر للعمل على الآلات. وتم إحلال الآلات محل بعض فئات العمال، كما في بعض المهام الزراعية.
الثورة الصناعية الثالثة (1960-1990)
هي التي جلبت معها أجهزة الكمبيوتر المركزية، لنشهد ميلاد طفرة الحوسبة الشخصية في السبعينيات والثمانينيات، والإنترنت في التسعينيات.
غيّرت هذه الثورة التفاعل بين الأفراد والشركات للأبد، ولكن أدى ذلك التقدم التكنولوجي إلى الضغط على الطبقة الوسطى التقليدية التي عملت في وظائف عدة تم الاستغناء عنها تدريجيًا.
على سبيل المثال، انخفضت الوظائف التالية بين 1970-2010: الكاتب العام (انخفضت بنسبة 37%)؛ وظائف مسك الدفاتر (انخفضت بنسبة 43%)؛ السكرتارية (انخفضت بنسبة 59%)؛ مُشغلي الهاتف (انخفضت بنسبة 86%).
ولكن من ناحية أخرى، تم استحداث الكثير من الوظائف غير المتعلقة بالمعاملات وغير الإنتاجية التي تتطلب مهارات معقدة في حل المشكلات وخبرة كبيرة ومعرفة سياقية محددة، فظهر -على سبيل المثال- مُطورو البرامج، ومُصممو برامج الكمبيوتر، ومُتخصصو الشبكات، وفنيو الطابعة ومستشارو تكنولوجيا المعلومات.
مستقبل الوظائف
دخل العالم عصر الثورة الصناعية أو الثورة الرقمية في العقد الثاني من القرن الـ 21، وكما كان للثورات السابقة تأثير كبير في مجال إحلال الآلة محل الإنسان، فمن المتوقع أن يحدث الأمر نفسه حاليًا ومستقبلًا، ولكن بدرجه أشد وأكبر.
وقد أثار هذه القضية العديد من الاقتصاديين حول العالم، وأعربوا عن قلقهم بشأن تأثير التكنولوجيا على القوة العاملة حيث توقعت دراسة من جامعة أكسفورد (2013) أن 47% من جميع الوظائف في الولايات المتحدة من الممكن أن تختفي خلال العقدين المقبلين، وذلك باحتمالية 70%، وأشارت تحديدًا إلى وظائف: المُسوِّقين عبر الهاتف، والمحاسبين والمدققين، ومندوبي مبيعات التجزئة.
وفي عام 2015، أجرى المنتدى الاقتصادي العالمي دراسة عن التأثير قصير المدى للثورة الرقمية على التوظيف العالمي، وقد توصلت إلى أنه في 15 اقتصادًا رئيسيًا متقدمًا وناشئًا (باستثناء الصين)، ستنخفض الوظائف في الفترة (2015-2020) بمقدار 5.1 مليون وظيفة، ما بين فقدان حوالي 7.1 مليون وظيفة (فقدوا قيمتهم)، وإضافة 2 مليون (من بين الوظائف المستحدثة).
ضرورات التأقلم مع المهارات المطلوبة
معظم التقنيات التي تمت مناقشتها في الفقرات السابقة، والتي هي طرح أشجار التحول الرقمي، كان لها بالفعل تأثير كبير على مهارات الموظفين، حيث القدرة على التعامل مع الإنترنت، والتكنولوجيا السحابية، وقوة المعالجة، والبيانات الضخمة، وإمدادات وتقنيات الطاقة الجديدة، والاقتصاد التشاركي.
ومن المتوقع أن يكون للتقنيات الأخرى تأثير أكثر عمقًا حتى عام 2025، بما في ذلك: علم الروبوتات؛ والنقل المستقل للذكاء الاصطناعي؛ والطباعة ثلاثية الأبعاد، والتكنولوجيا الحيوية. ويمكن القول إننا أمام مفارقة شديدة فيما يتعلّق بتوقيتات الدراسة والتعلم؛ حيث إن تسريع التكنولوجيا سيؤدي إلى تقصير العمر الافتراضي للمعرفة والخبرات والمهارات الحالية، وسيتطلب كفاءات مختلفة تحتاج إلى تطوير.
على سبيل المثال، عندما تتحول وظائف معينة إلى نشاط رقمي، سيُطلب من الأشخاص التركيز على الأنشطة بشكلها الجديد وهو الأمر الذي يتطلب مهارات مختلفة. وستشهد المهارات التكنولوجية التغيير الأسرع. فمثلًا عند الالتحاق بكلية عملية، تمنح معارف تكنولوجية مُحددة، قد تصل إلى سنة التخرج، ويكون ما تعلمته من معارف قد عفا عليه الزمن بالفعل، فتحتاج إلى تطوير مهارات تقنية إضافية لديك، والتي ستتناسب مع متطلبات سوق العمل وقت تخرجك، وستصبح شرطًا لكي تلتحق بركب الطبقة العاملة.
ولذلك، فإن المهارة التي ستظل تتمتع بثبات زمني ممتاز، وستظل الأهم عبر التاريخ، هي الإبداع، فهي المهارة التي تتأقلم وتتطور مع باقي المتغيرات، والتي تتحرك -نسبيًا- مع الزمن ومع سيل التقنيات وطرق العمل الجديدة.
يحتاج الناس إلى أن يصبحوا أكثر إبداعًا من أجل الاستفادة من هذه التغييرات، وتشير التقديرات إلى أنه خلال العقود القادمة، سيكون أكثر من ثلث المهارات الأساسية المطلوبة للمهن حينئذ، هي مهارات جديدة، غير أساسية في الوقت الحالي.