بين القاعدة وداعش: الخطط الجهادية لاغتيال «الإعلاميين»
عبر إصدار دعائي مطبوع دعا تنظيم القاعدة لاغتيال الإعلامي المصري «إبراهيم عيسى»، قائلًا إن الأخير يُشارك في موجات الردة الحديثة ويسعى لنقض ثوابت الدين الإسلامي، وينتقص من قدر أصحاب النبي محمد، ومنهم الصحابي والقائد العسكري خالد بن الوليد الذي خصص عيسى إحدى حلقات برنامج شهير يقدمه لاستعراض سيرته بصورة نقدية.
وجاء الإصدار المعنون بـ «وفاءً وذبًّا عن سيف الله المسلول خالد بن الوليد»، ضمن سلسلة جديدة أطلقتها مؤسسة السحاب، الذراع الإعلامية للتنظيم، تحت اسم «إلجام لئام الإعلام»، ووقِّع باسم أواب بن حسن الحسني، وهو أحد نشطاء القاعدة العاملين في الجانب الدعائي، وبدا من صياغته أن التنظيم يحاول العودة لتصدر المشهد الجهادي من جديد عبر المشاغبات والمعارك الكلامية مع خصومه.
غير أن التحريض المباشر الذي تضمنه الإصدار على قتل إبراهيم عيسى أعاد التأكيد على موقف التنظيمات الجهادية من الإعلاميين والصحفيين، والذين تعتبرهم الأدبيات الجهادية التقليدية «سحرة فرعون»؛ لأنهم: «يُسارعون في إلهاء الناس وتحريف الحق ويصدون عن سبيل الله»، بتعبير أبي حمزة المهاجر (عبد المنعم عز بديوي)، أمير تنظيم القاعدة في العراق، ووزير الحرب بتنظيم دولة العراق الإسلامية سابقًا (داعش حاليًّا)، في آخر كلماته الصوتية التي سجلها قبل مقتله، في أبريل/ نيسان 2010، وخصصها للحديث عن الإعلام الجهادي والإعلام المعادي للجهاديين.
فمنذ بروز الحركة الجهادية المعاصرة بتنظيماتها المختلفة، سواء المحلية منها أو العالمية، شغلت مسألة التعامل مع الإعلاميين المخالفين حيزًا كبيرًا من العقل الجمعي للتيار الجهادي الذي رأى أن الإعلام يحول دون وصول دعوته إلى الناس بالصورة المطلوبة، وهو ما يؤدي إلى نفور «الحاضنة الشعبية» من الجهاديين، وبالتالي تفشل مشاريعهم التغييرية أو القتالية، ولذا روج الجهاديون- وكذلك غيرهم من الإسلاميين – مقولة: «اسمع منا لا تسمع عنا» كجزء من تكتيك دفاعي في إطار الدعاية المضادة الهادفة لامتصاص الزخم الإعلامي الرافض لهم، وتهيئة الأفراد لقبول دعاوى الجهاديين.
وبالإضافة للدعاية المضادة، تبنى الجهاديون نهج التصفية الجسدية أو الاغتيال باعتباره وسيلة ردع ناجعة ضد الإعلاميين، وعزز من تبني هذا الخيار وجود تنظيرات حركية قائمة على تفسيرات دينية تراثية تُشرعن عمليات قتل الإعلاميين والصحفيين باعتبارهم «أعداءً للدين»، من المنظور الجهادي.
محاولات تفجير ماسبيرو ومدينة الإنتاج الإعلامي
وبناءً على الرؤية السابقة، كثف الجهاديون محاولاتهم لإسكات الأصوات الإعلامية الرافضة لهم، لا سيما في السنوات التي تلت الإطاحة بحكم جماعة الإخوان من مصر (صيف 2013)، والتي شهدت حالة سيولة أمنية كبيرة، وفي هذه الأثناء خطط قيادات تنظيم أنصار بيت المقدس (بايع تنظيم الدولة الإسلامية في أواخر عام 2014، ويُعرف حاليًّا بتنظيم ولاية سيناء) لشن سلسلة عمليات منسقة تستهدف المقرات والمباني الإعلامية الكبرى، ومنها مبنى الإذاعة والتلفزيون (ماسبيرو)، ومدينة الإنتاج الإعلامي، ومقر القمر الصناعي (نايل سات)، وكذلك اغتيال إعلاميين وصحفيين بارزين.
واعترف أعضاء في تنظيم أنصار بيت المقدس أمام نيابة أمن الدولة في القضية رقم 25 لسنة 2014 جنايات أمن الدولة العليا والمعروفة إعلاميًّا بقضية «أنصار بيت المقدس 1»، بأن توفيق فريج المكنى بـ «أبي عبد الله» كلف محمد عفيفي ناصف، الرجل الثاني في التنظيم، بتأسيس خلايا رصد وتنفيذ للعمليات الإرهابية تكون مهمتها مراقبة إعلاميين وجمع معلومات تفصيلية عنهم لتنفيذ عمليات إرهابية ضدهم.
وجرى التخطيط في غضون الفترة الممتدة من أواخر 2013 إلى 2014، لاستهداف إعلامي مصري بارز يقطن بالقاهرة الجديدة، واستهداف مقر قناة فضائية شهيرة تبث من داخل مدينة الإنتاج الإعلامي، وبالفعل تمكن أحد أعضاء تنظيم أنصار بيت المقدس من دخول المدينة، مستغلًّا علاقته بأحد أصدقائه العاملين فيها، وقام بتصوير مقر القناة ورفع تقرير رصدها إلى قيادة التنظيم لوضع خطة استهدافها.
ونجحت الأجهزة الأمنية المصرية في إحباط المخططين والقبض على عناصر المجموعات المنخرطة في التخطيط لهما، بيد أن المحاولات الجهادية استمرت، واضطلعت مجموعة كتائب الفرقان (كانت جزءًا من تنظيم أنصار بيت المقدس)، التي أسسها الأستاذ السابق بجامعة قناة السويس محمد نصر بتنفيذ مخططات «الحرب ضد الإعلام» بدعوى أنه يتسم بالغلو، على حد تعبيره.
وشارك محمد نصر مع رفيقه هاني مصطفى (أبو بلال) في تخطيط وتنفيذ الهجوم على مقر الأقمار الصناعية بمنطقة المعادي، والتي تبنتها كتائب الفرقان ونشرت مقطعًا مرئيًّا يصور عملية رصد الهدف وإطلاق قذائف RPG على المبنى، كما جرى التخطيط لقصف مدينة الإنتاج الإعلامي بصواريخ كاتيوشا،لكن حريقًا نشب بالمزرعة التي خُزنت فيها الصواريخ أدى إلى انفجارها، وبالتالي فشل المخطط، واكتشفت أجهزة الأمن المصرية الأفراد المتورطين فيه وألقت القبض عليهم.
كما دخلت تنظيمات أخرى على خط استهداف الإعلاميين والمؤسسات الإعلامية، فعلى سبيل المثال فجر عناصر من حركة العُقاب الثوري عبوات ناسفة ضد أبراج الكهرباء التي تُغذي مدينة الإنتاج الإعلامي، منتصف أبريل/ نيسان 2015، وأدى التفجير إلى انقطاع بث جميع القنوات لمدة ساعات.
خلية اغتيال الإعلاميين: الوقائع غير المروية
ورغم أن غالبية مخططات استهداف المقرات الإعلامية والإعلاميين والصحفيين باءت بالفشل وتمكنت الأجهزة الأمنية المصرية من إحباطها قبل تنفيذها، فإن الجهاديين وفي القلب منهم مجموعات تنظيم أنصار بيت المقدس، والمجموعات الموالية لتنظيم الدولة الإسلامية «داعش» واصلوا العمل على استهداف الإعلام المعادي لهم، خصوصًا بعد أن تلقوا توجيهات مباشرة من قيادة التنظيم المركزية في العراق وسوريا، على فترات متفرقة، كما أظهرت الكلمات التحريضية التي نشرها داعش لمتحدثيه الرسميين وعلى رأسهم أبو محمد العدناني (قُتل في عام 2016)، وأبو حمزة القرشي (قُتل في 2022).
وتشكلت، في هذه الأثناء، واحدة من أخطر الخلايا الجهادية التي ركزت على استهداف الإعلاميين، وتسمت بـ «خلية اغتيال الصحفيين والإعلاميين المرتدين»، والتي تكونت نتيجة اندماج مجموعات من تنظيم «جند الله في أرض الكنانة» مع مجموعات من تنظيم أنصار بيت المقدس، وفق ما تكشفه نصوص التحقيقات في القضية رقم 326 لسنة 2014 حصر أمن دولة عليا (معروفة بقضية جند الله)، وإفادات قدمتها مصادر مستقلة – رفضت نشر اسمها – على صلة بقضايا العنف الجهادي التي ضربت مصر، منذ عام 2013.
وبلغ عدد أعضاء «خلية الاغتيالات» نحو 48 عضوًا مقسمين على مجموعات، منها الرصد، والتسليح والدعم اللوجيستي، والتنفيذ، وكان من بين أبرز أعضائها جهادي مصري يُكنى بـ «أبي السوداء» (هرب لاحقًا إلى سوريا وتولى منصب المسئول الشرعي لداعش في شمال سوريا، وقبضت عليه هيئة تحرير الشام وأودعته في سجونها)، وآخر يُعرف بـ «ألب أرسلان».
وبخلاف الخلايا الجهادية الأخرى التي ركزت على كبار الإعلاميين، وضعت «خلية الاغتيالات» قائمة أهداف تشمل إعلاميين مصريين شهيرين، وصحفيين أقل شهرة يعملون في عدد من المؤسسات الصحفية، واختيرت تلك الشخصيات بناءً على مشاركتها في الحملة الإعلامية ضد التنظيمات والجماعات الإرهابية.
ولم تحظَ هذه الخلية بقدر كبير من التركيز، وقتها، نظرًا لأنها فضلت أن تُعلن عن نفسها رسميًّا بعد تنفيذ عمليات استهداف الإعلاميين والصحفيين، بيد أن نجاح الأمن المصري في اختراق صفوف الجهاديين وتوصله إلى قادة وأمراء تنظيم أنصار بيت المقدس في سيناء والقاهرة، أجهض مخططات الخلية، خصوصًا بعد مقتل توفيق فريج زيادة، وأبي عبيدة الطوخي، أميري تنظيم أنصار بيت المقدس في سيناء والقاهرة، على التوالي، في مارس عام 2014.
كما أن الانقسامات والصراعات التنظيمية تفجرت داخل «خلية الاغتيالات» بسبب تباين وجهات النظر والمواقف من الشقاق الجهادي بين تنظيمي القاعدة، والدولة الإسلامية (داعش)، والذي حصل في نفس العام تقريبًا، وساهمت تلك الخلافات في وقف عمل المجموعة، لفترة من الوقت، وانشطارها إلى مجموعتين مختلفتين، إحداهما موالية لتنظيم داعش تحت قيادة أشرف الغرابلي، والأخرى موالية لتنظيم القاعدة تحت إمارة جهادي مغمور يُدعى «محمود التميمي».
وفضلت كل مجموعة من المجموعتين السابقتين أن تعمل وفق إستراتيجيتها الخاصة، فواصلت المجموعات الموالية لداعش شن هجماتها ضد قوات الأمن والمصالح الحكومية وأحيانًا ضد مقرات دبلوماسية أجنبية (القنصلية الإيطالية بالقاهرة)، بينما فضلت المجموعات المؤيدة لتنظيم القاعدة أن تتبع نهجًا أكثر تريثًا، وأن تعمل على توسيع نطاق انتشارها باستقطاب وتجنيد أفراد جدد وإعدادهم لمرحلة الصدام المسلح مع الجيش والشرطة في مصر.
وخلال السنوات التالية، تراجع نشاط المجموعات الموالية لداعش في القاهرة والمحافظات المصرية خارج شمال سيناء بفعل الضربات الأمنية القومية، بينما ظلت المجموعات المرتبطة بالقاعدة كجماعة المرابطين التي تولى إمارتها هشام عشماوي، قبل إعدامه، وجماعة أنصار الإسلام التي قادها الضابط السابق عماد عبد الحميد، تلوح في رسائلها الدعائية بأن للقاعدة وجودًا في مصر، قبل أن ينكشف لاحقًا أن التنظيم كان يُدرب ويُجهز خلايا جهادية في القاهرة والجيزة وغيرها لتنفيذ هجمات إرهابية موسعة.
وتبين أثناء التحقيق مع المتهمين في القضية رقم 975 لسنة 2017 حصر أمن دولة عليا (قضية الواحات) أن الخلايا المحسوبة على القاعدة، ومنها خلية كبيرة تسمت بـ «أنصار الشريعة» اعتمدت على تلقي توجيهات التنظيم من خلال إصداراته الدعائية، وكانت تنتظر إشارات واضحة لتبدأ العمليات الإرهابية، ولعل تلك الاعترافات تميط اللثام عن جزء يسير من الدوافع الكامنة وراء مهاجمة «أواب بن حسن الحسني» ومؤسسة السحاب القاعدية؛ إذ يبدو أن التنظيم يرسل رسائل لأتباعه ويحاول العودة للعمل في مصر، ولو على حساب دماء «إبراهيم عيسى» التي دعا لسفكها، تمامًا كما دعا من قبل لكتم أصوات مخالفيه ومناوئيه.