بينما كان النبي محمد – صلى الله عليه وسلم- مُختليًا بنفسه في غار حراء يتعبّد كما اعتادَ، مؤخرًا، بُوغت بصوتٍ غريبٍ يهتف به: «اقرأ»، فأجابه على الفور: «ما أنا بقارئ»، تكرّر الأمر وتكرر الجواب مرتين بعدها، فعصر بطنه حتى كاد صدره يضيق بالنفس وبلغ منه الجهد مبلغه، ثم تلا عليه: «اقرأ باسم ربك الذي خلق»، ‏حتى بلغ: «‏علم الإنسان ما لم يعلم». وحين بلغ النبي منزله مرتجفًا حيث «زمَّلته» زوجته خديجة وسكنت روعه، لم يكن يعلم بعد أنه خاض لقاءه الأول مع شريكه المقبل في الرسالة، الملاك جبريل (عليه السلام)[1].

لم يكن هذا هو اللقاء الأول بينهما، فلقد روى أنس بن مالك عن النبي أن جبريل أتاه وهو يلعب مع الغِلمان وشقَّ له صدره كي يستخرج من قلبه «حظ الشيطان» منه[2]، إلا أن «موقف حراء» أسَّس لعلاقة فريدة استمرت أكثر من 20 عامًا بين الرسول والملاك جبريل.


عندما دنا وتدلى

لم أرَهُ علَى صورتِهِ الَّتي خُلِقَ عليها غيرَ مرَّتينِ، رأيتُهُ منهبطًا منَ السَّماءِ سادًّا عِظَمُ خلقِهِ ما بينَ السَّماءِ إلى الأرضِ.
محمد (صلى الله عليه وسلم)[3]

تجمع كتب التاريخ أن جبريل كان يتجسَّد للنبي في صورة إنسية معظم الأحيان، وفيما عدا ذلك لم يرَه الرسول على هيئته الحقيقية إلا مرتين، وفقًا لما رواه ابن مسعود، الأولى، ليلة الإسراء والمعراج فتجلّى له عند سترة المنتهى، وكان له «سِتُّمائةِ جَناحٍ يتَناثرُ منها التَّهاويلُ الدُّرُّ والياقوتُ»[4]، وفي رواية أخرى فإنه كان يرتدي «حلة من ياقوت قد ملأ ما بين السماء والأرض»[5]، أما الثانية، فكانت بناءً على طلبه الشخصي الذي دعا الله من أجل تحقيقه، فـ«طَلَعَ [جبريل] عَلَيْهِ سَوَادٌ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ» أخذ يرتفع وينتشر وفور أن رآه النبي صعق[6].

كانت مهمة التواصل أكثر من شاقة، فجَلال الكلمات ترتج له الأنفس وتقشعر له الأبدان، ليس في الأرض فقط وإنما في السماء أيضًا. يحكي النواس بن سمعان عن النبي أنه في اللحظة التي يقرر الله فيها تبليغ وحي إليه «تأخذ السماوات رجفة» من فرط الخوف ويخر أهلها سُجدًا، وأول مَن يرفع رأسه هو جبريل الذي يزوده الله بكلماته التي تكون مثار فضول بقية الملائكة، فكلما مرِّ بإحدى السماوات سأله أهلها «ماذا قال ربنا يا جبريل؟»، فيكتفي الأخير بإجابة مبهمة لا تريح: «الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ» حتى يغادر السماء ويصل به إلى الرسول[7].

أما عن الوقع على النبي نفسه، فيروي الحارث بن هشام أن الرسول أبلغه أن الوحي قد يأتيه بطريقة يسيرة كأن يتجسّد له جبريل في هيئة رجل ويكلمه فيعي ما يقوله، أو بطريقة أخرى أشدّ تكون «مثل صلصة الجرس»، هي بالتأكيد التي نوّهت إليها عائشة في حديثها: «لقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد، فيفصم عنه، وإنّ جبينه ليتفصّد عرقًا»[8].

وبعيدًا عن المظلة القرآنية التي أطَّرت العلاقة بينهما، وحادثة الإسراء والمعراج التي تُعتبر أبرز ما شهداه سويًا، فإن التاريخ حفظ لنا عددًا من المواقف التي أنبأت بـ«صداقة» قامت بين الطرفين، لعب بها الروح الأمين في لحظات مفصلية من حياة النبي أدوارًا متعددة تشعبت إلى النصح والمواساة والمؤازرة.


جبريل مقاتلًا

يحكي ابن عباس أنه بينما كان الصحابة ينظّمون صفوفهم استعدادًا لقتال المشركين في «بدر»، أشار الرسول إلى رجل مسلح التحق بهم راكبًا على جواد مهيب، وقال لهم: «هذا جبريل»[9]. وعند ذلك أيضًا ينقل طلحة بن عبيد الله حديث الرسول أن الشيطان ما أن رأى جبريل ضمن صفوف مقاتلي المؤمنين حتى لَمْ يُرَ يومًا «أصغر ولا أحقر ولا أدحر»[10].

وعندما أراد قوم من قبيلة جهينة مباغتة النبي وأصحابه وقتالهم خلال أداء صلاة العصر، كان جبريل هو من أفشى هذا النبأ للرسول، فظهرت «صلاة الحرب» لأول مرة وصلّوا تِباعًا كي لا ينصرف انتباههم بالكلية عن الأعداء[11].

أما يوم أحد، فيروي سعد بن أبي وقاص أنه رأى في لحظات احتدام القتال، عن يمين الرسول وشماله رجلين عليهما ثياب بياض ما رأهما من قبل ولا بعد، وكان يعني بهما جبريل وميكائيل[12].

وبعدما فشلت أحزاب مكة في اختراق المدينة بغزوة الخندق، رجع الرسول إلى داره كي يغتسل ويضع السلاح، فظهر له جبريل مستنكرًا: «قد وضعت السلاح؟!»، ثم دعاهم للخروج إلى يهود بني قريظة بعدما خانوا العهود التي كانت بينهم وبينه وحاولوا تسهيل دخول المشركين إليهم، فحمل النبي سلاحه وخرج إليهم[13].

كما تروي عائشة أنه بعدما حشد الرسول صحابته وساروا ناحيتهم، مرَّ بهم دِحية الكلبي «علَى بغلةٍ شهباءَ تحتَهُ قطيفةُ ديباجٍ»، فأوضح لهم النبي أنه ليس صديقهم وإنما: «جبريلُ أُرسِلَ إلى بني قريظَةَ ليُزَلْزِلَهُم ويقذِفَ في قلوبهمُ الرُّعبَ»[14].


«يا محمَّدُ، اشتكَيْتَ؟»

جبريل[15]

لم يقتصر دور جبريل في حياة النبي على نقل الكلمات المقدسة وحسب، وإنما حفلت المرويات بمواقف سانَدَ فيها الروح الأمين «صاحبه» بنصيحة أو بتشجيع أو حتى بتجسّد مباشر يصرف عنه خطر الشيطان.

عن أنس بن مالك، أن بعض أهل مكة ضربوا الرسول حتى تخضَّب بالدماء فجلس حزينًا منعزلاً، عندها نزل له جبريل ليُطيِّب بخاطره وسأله: «أتحب أن أريك آية؟»، ثم طلب منه أن يدعو شجرة انتصبت وراء الوادي، فلما فعل النبي جاءته مشيًا، ثم بعد ذلك أمرها لتعود فرجعت، فتحسنت نفسية الرسول، وقال لجبريل مكتفيًا بما فعل لأجله: «حسبي»[16].

وعندما تعرّض لاعتداء آخر من أهل الطائف بعدما خرج لهم بصحبة زيد بن حارثة يدعو أهلها للإسلام فأبوا وطردوه من بلدهم وسلطوا عليه سفهاءهم وعبيدهم يرمونه بالحجارة حتى تخضب نعلاه بالدماء وأصيب زيد في رأسه، وسار النبي في طريقه عودته لمكة حزينًا مكسور الخاطر، وعندما بلغ «قرن المنازل» تجلّى له جبريل وملك الجبال، يطالبانه بأن يسمح لهما بإطباق جبلين على أهل مكة وإفنائهما ثأرًا له فرفض الرسول قائلاً: «أرجو أن يُخرِج الله – عز وجل- من أصلابهم من يعبد الله»[17].

يستهزئ الوليدُ بنُ المغيرةِ والأسودُ بنُ عبدِ يغوثَ الزُّهريُّ وأبو زمعةَ الأسوَدُ بنُ المطَّلبِ بنِ عبدِ العزَّى والحارثُ بنُ عَيطَلٍ السَّهميُّ والعاصُ بنُ وائلٍ من النبي، فيشكوهم لجبريل فيجيبه بكلمة واحدة: «كفيتهم»، وبعدها ماتوا جميعًا بصورٍ شتّى[18].

مرة أخرى، لا يأتيه الخطر من أهله وإنما من عالم آخر؛ شياطين تتحدّر من الأودية والشعاب وبيد واحد منهم شعلة يريد حرق وجه الرسول، يظهر جبريل كالعادة في الوقت المناسب ويعلّمه ذِكرًا يطفئ نارهم: «أعوذ بكلمات الله التامات»[19].

يحكي ابن عباس أن الرسول اشتكى ضيق حال أهله لجبريل قائلاً: «ما أمسى لآل محمد سفّة من دقيق»، فأرسل الله إليه إسرافيل عارضًا عليه مفاتيح خزائن الأرض، ومخيرًا إياه بين أمرين: «نبي ملك» أم «عبد رسول؟»، فأوعز إليه جبريل بإشارة فهمها النبي وقال: «بل عبدًا رسولًا»[20].

قبيل هجرته بساعات، خطَّطت قريش للتجمع حول بيت النبي وقتله فيتشتت دمه ويضيع ثأره؛ خطة «شيطانية» مُحكمة بدا للجميع أنها مضمونة النجاح لولا أن جبريل أتى النبي ونصحه ألا يبيت في مكانه ففعل الرسول ونجح في الخروج من داره والنجاة من مكرهم[21].

حتى في علاقاته بزوجاته، كان لجبريل أحيانًا موقف من قرارات النبي فيها، فهو أول مَن أشار على النبي بالزواج من عائشة بنت أبي بكر بعدما جاء له بصورة لها في خرقة من حرير أخضر مؤكدًا له أن صاحبة الصورة «زوجته في الدنيا والآخرة»[22]. وعندما غضب على زوجته حفصة بنت عُمر وقرر تطليقها، أتاه جبريل وطالبه بأنه يراجعها لأنها «صوّامة وقوّامة وزوجتك في الجنة»[23].

عندما كان يتأخر في القدوم عليه كان النبي يشتاق إليه، ويصيبه الوجوم على غيبته. تروي ميمونة بنت الحارث، زوج النبي، أن النبي أصبح واجمًا منكرًا لكل ما يرى بسبب عدم قدوم جبريل إليه كما وعده، ولما لقيه بعده أنبأه: «إنَّا لا ندخُلُ بيتًا فيهِ صورةٌ ولا كَلبٌ»[24]. يسأله النبي مرة: «يا جبريلُ، ما يمنعُك أن تزورنا أكثرَ مما تزورنا»، فتنزل الآية الكريمة: «وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ» [مريم: 64][25]، لهذا يكون النبي في غاية سعادته خلال شهر رمضان حيث يلقاه جبريل بشكل منتظم ليعرض جبريل عليه القرآن. يحكي ابن عباس أنه وقتها يكون «أجود بالخيرِ من الريحِ المرسلةِ»[26].

يخبره اليهود أن ملاكه الحارس عدوهم، فيتحداهم قائلاً: «وليي جبريل ولم يبعث الله نبيًا قط إلا وهو له ولي»[27].

ومن فرط علاقة النبي به، بدأ الصحابة صلاتهم بصيغة تشهد أولية تبدأ بـ«السلام على جبريل»، قبل أن يأمرهم الرسول بتعديلها لاحقًا[28].

ولم تكن تدخلاته تنحصر في النوازل الكبرى وحسب، فعندما مرض النبي أتاه وسأله: «يا محمَّدُ اشتكَيْتَ؟»، ولما أجابه بالإيجاب رقاه بنفسه: «باسمِ اللهِ أَرقِيك من كلِّ شيءٍ يُؤذِيك»[29]، وربما كانت هي ذات الكلمات التي كانت تدعو له بها عائشة لحظات مرضه الأخير، بينما كان رأسه في حِجرها، وهو يخبرها كلما أفاق «لا بَلْ أسأَلُ اللهَ الرَّفيقَ الأعلى مع جِبريلَ وميكائيلَ وإسرافيلَ»[30].


إلى جبريل ننعاه

قلّبْتُ مشارقَ الأرضِ ومغاربَها فلم أجدْ رجلًا أفضلَ من محمدٍ.

كانت أول علامة علم بها النبي أن رحيله قد اقترب، عرض جبريل القرآن عليه مرتين خلافًا لما اعتاداه[31]. ولمدة 3 أيام متتالية، كان جبريل يتنزَّل عليه ليسأله عن حاله. ولما آنَ وقت الوفاة، حضر ملك الموت بصحبة جبريل، وأخبره الأخير أنه يستأذن جبريل له قبل الدخول، ولما قُبضت روحه ودّعه الروح الأمين قائلا: «هذا آخِرُ وَطئي الأرضَ إنما كنتَ حاجَتي منَ الدنيا»[32]، وكان لافتًا أن فاطمة – عليها السلام- ما أن علمَتْ بالخبر لم تنسَ صاحبه الجليل في رثائها فقالت: «جنةُ الفِردَوسِ مَأواه إلى جِبريلَ نَنعاه»[33].

المراجع
  1. صحيح البخاري (حديث رقم 3)
  2. صحيح مسلم (حديث رقم 268)
  3. صحيح مسلم (حديث رقم 291)
  4. التوحيد لابن خزيمة، باب «أخبار ابن مسعود»، وأصله في البخاري.
  5. صحيح ابن حبان (حديث رقم 59)
  6. مسند أحمد (حديث رقم 2881)
  7. مجمع الزوائد (7/ 94)
  8. صحيح البخاري (حديث رقم 2)
  9. صحيح البخاري (حديث رقم 3773)
  10. فضائل الأوقات للبيهقي (حديث رقم 172)
  11. صحيح مسلم (حديث رقم 308)
  12. صحيح مسلم (حديث رقم 2306)
  13. صحيح البخاري (حديث رقم 3833)
  14. المستدرك على الصحيحين (حديث رقم 4332)
  15. الجامع الصغير (حديث رقم 6074)
  16. سنن ابن ماجه (حديث رثم 4027)
  17. صحيح مسلم (حديث رقم 1795)
  18. سيرة ابن هشام (2/ 163)
  19. مسند أحمد (حديث رقم 15157)
  20. مسند أحمد (حديث رقم 6987)
  21. سنن الترمذي (حديث رقم 3880)
  22. الطبراني (حديث رقم 934)
  23. صحيح البخاري (حديث رقم 5615)
  24. صحيح البخاري (حديث رقم 7017)
  25. صحيح البخاري (حديث رقم 2308)
  26. مسند أحمد (حديث رقم 2483)
  27. صحيح ابن حبان (حديث رقم 1948)
  28. صحيح مسلم (حديث رقم 2186)
  29. صحيح ابن حبان (حديث رقم 6591)
  30. صحيح البخاري (حديث رقم 1759)
  31. البوصيري، إتحاف الخيرة المهرة، 2/ 525
  32. صحيح البخاري (حديث رقم 4193)