يهود مصر: اكتشفوا أم كلثوم وصلّوا في المساجد
الحكاية التي يرويها المترجم والمناضل الكبير «يوسف درويش» في مقدمة كتاب «تاريخ يهود النيل» لـ «جاك حسون» تقول، إن أول من اكتشف السيدة «أم كلثوم» هم جماعة من اليهود القرائين! ويقصد بذلك عائلة «ليتو باروخ»، التي كانت تملك المحلات الكبرى لبيع المجوهرات في شارع عبد الخالق ثروت بالقرب من ميدان الأوبرا في القاهرة.
وعائلة «ليتو باروخ» كانت تمتلك عزبة كبيرة من آلاف الأفدنة بالقرب من المحلة الكبرى، وكانت الطفلة فاطمة بنت الشيخ إبراهيم التي صارت في ما بعد «أم كلثوم» عاملة في تلك الأرض الزراعية، وتحديدًا في موسم جني القطن، وكانت تردد بعض الأغاني بصوتها، ما استرعى انتباه أحد أفراد تلك العائلة، فأتى بها إلى القاهرة ليقدمها إلى شركة «أوديون» لتسجيل وبيع الأسطوانات! هكذا انتهت الحكاية التي يرويها درويش.
حادث آخر يرويه المترجم الكبير كذلك حول الرئيس جمال عبدالناصر، إذ قال في ذات المقدمة إن الزعيم عندما كان شابًا، ويخشى من ملاحقة البوليس السياسي كان يلجأ كذلك إلى إحدى العائلات اليهودية القرائية في السكاكيني، وهي العائلة التي قامت بزيارته وهو في قمة السلطة تطلب عدم تنفيذ حكم الإعدام في «الدكتور مرزوق» الذي كان متهمًا في قضية «لافون»، ولكن الرئيس الراحل لم يمتثل لذلك مطلقًا.
حكايات أخرى (على عهدة) يوسف درويش، لم يذكرها إلا بقصد التأكيد على أن اليهود كانوا جزءًا من نسيج الشعب المصري في زمن ولى، مستعيرًا روح الجملة التي كان يذكرها دومًا مؤلف الكتاب جاك حسون، ونقلها عنه الأديب الراحل إبراهيم أصلان، أن «إسرائيل هي التي أفسدت كل شيء».
مفتاح الكتاب: تعريف الكاتب والمترجم
مفتاح كتاب «تاريخ يهود النيل» يكمن في الاقتراب أكثر من المؤلف والمترجم، فالمؤلف هو جاك حسون، والذي يُخبرنا تعريفه في آخر الكتاب بأنه طبيب نفسي مصري يهودي، هاجر إلى فرنسا مع أهله في سن مبكرة، ولكنه كان يحضر إلى مصر بانتظام. أسس في باريس جمعية الحفاظ على تراث يهود النيل، وله مؤلفات كثيرة، منها عن الإسكندرية (المولود فيها سنة 1936)، ومنها عن باريس المدينة التي مات فيها سنة 1999.
عاش حسون أغلب عمره في فرنسا بعد أن صار مطاردًا في مصر، وقيل إنه سُجن لنشاطه الشيوعي وكتاباته عن حرية التعبير. ما لم يذكره التعريف في الكتاب أن حسون له إسهامات أكاديمية كبيرة في دراسة نفسية المهاجرين، خصوصًا من الأطفال، ويبدو أن مسألة خروجه من مصر قد أثرت فيه، لذلك اهتم بهذا الجانب الأكاديمي.
أما مترجم الكتاب، يوسف درويش، فليس هناك أشمل وأهم من ما قدمه الكاتب الصحفي الكبير وائل عبد الفتاح من حلقات صحفية عنونها بـ«يوسف درويش.. رحلة الرجل الحديدي» لمعرفة الرجل. و«الرجل الحديدي» هو اسم يوسف درويش السري في التنظيمات اليسارية، وهو مولود في 1910 لأسرة يهودية، عندما كان حاكم مصر هو الخديو عباس حلمي، ووفقًا لوائل عبدالفتاح فإن يوسف درويش معروف كونه «يهوديًّا ضد إسرائيل».
كان لقاء وائل عبدالفتاح مع يوسف درويش يتزامن مع فترة ترجمته لكتاب «تاريخ يهود النيل»، إذ حكى عنه بحماس قائلاً: «أُترجم الآن كتابًا مهمًا جدًا، اسمه اليهود على ضفاف النيل، أعرف منه معلومات جديدة عليَّ تمامًا، عرفتُ أن اليهود كانوا وزراء ومسؤولين من الفراعنة، عرفتُ أيضًا أنه كانت لهم مناصب في الدولة المصرية، والمفاجأة أنني للمرة الأولى أعرفُ أن السلطات في مصر ألقت القبض على 300 يهودي بعد 1967».
ماذا حدث لـ«يهود مصر» خلال العصور الإسلامية؟
الكتاب، مثلما قال درويش، يحتوي على معلومات لم تكن معروفة قبل وقت إصداره عن دار «الشروق» سنة 2007 فعلاً، وهو عبارة عن نصوص جمعها جاك حسون لمجموعة من أساتذة التاريخ في كبرى جامعات أوروبا، إضافة إلى نصوص بقلمه، تتبع خلالها حكاية اليهود في مصر، منذ عصر الأسرات، وحتى العصر الحديث، تشهد على فترات المجد التي تمتعوا بها، وعلى شتاتهم الذين عانوا منه، وما زالوا يشكون منه حتى الآن لأهداف سياسية يعلمها الجميع.
الفصل الأولى «يهود مصر في العصور القديمة.. الروائع الإغريقية ومواطن البؤس والهوان الرومانية» وهو بقلم جوزيف ميليز مودرزجويسكي، أستاذ التاريخ البلوندي والذي عمل في جامعة «السوربون» الفرنسية، يخبرنا بكثير مما هو معروف عن وجود اليهود في مصر، وفترة اضطهادهم المتزامنة مع وصول «نبوخذ نصر» الثاني إلى حكم القدس وبابل، وهروبهم إلى مصر ووجودهم في مناطق «جزيرة فيلة» وكذلك «الفيوم»، ثم فترة الشتات الأخرى وقت حكم الرومان، والذين اعتمدوا مفهوم المواطنة بالشكل الذي عرفوه: «إذا لم تكن رومانيًا أو مواطنًا من إحدى المدن الإغريقية في مصر، فأنت مصري من دون حق للمواطنة مهما كانت لغتك أو ثقافتك، كما تصبح خاضعًا للضريبة».
الفصل الثاني عن حياة اليهود منذ الفتح الإسلامي وحتى الحملة الفرنسية 1798، وهو منسوب لأفريد مورابيا، المولود بالقاهرة، ومدير قسم الدراسات العربية والإسلامية بجامعة «تولوز» الفرنسية، والذي يقر في بدايته بصعوبة التأريخ لليهود خلال هذه الفترة حتى اكتشاف وثائق «الجنيزة» أو دفتر أحوال معاملات اليهود، وهي التي أخرجت ما في بطن التاريخ عن أحوال الطائفة اليهودية في مصر خلال الفترة من القرن العاشر الهجري حتى القرن الرابع عشر.
ولكن ما يستخلصه مورابيا من وضع اليهود الاجتماعي في مصر خلال العصور الإسلامية أن هناك حالة من حالات التواصل بين الطبقة الحاكمة المسلمة والعضو اليهودي في المجتمع، سمحت له بالعمل والحركة اجتماعيًا واقتصاديًا وعقليًا كذلك، وذلك في مقابل الامتثال لقانون الدولة، من اعتبارهم أهل ذمة يدفعون الضرائب، ويجري عليهم ما جرى على المسيحيين. استمر الحال كما يعتقد أستاذ التاريخ الشهير هكذا حتى حدث انقلاب في العصر الفاطمي، تزامن مع ظهور طبقة «برجوازية» يهودية، استطاعت أن تسيطر على بعض طرق التجارة، وعلى مفاصل دقيقة في الحياة الاقتصادية، هو ما لم يكن مسموحاً به بكل تأكيد عند الدولة.
ويذكر مورابيا فترة حكم الخليفة «الحكيم» (يقصد هنا الحاكم بأمر الله) الذي تولى الحكم من 996 إلى 1020 ميلادية، وهو الذي أصدر أوامره لكل من يخالف المسلمين في الديانة بتخييرهم بين اعتناق الإسلام أو النفي، وقد عمد كثير من اليهود إلى اللجوء إلى النوبة والحبشة واليمن أو إلى المقاطعات البيزنطية، ولكنهم عادوا من جديد إلى مصر بعد رحيله.
وعلى عكس فترات حكم الأيوبيين والمماليك، شهدت حياة اليهود في مصر خلال العصر العثماني تحسنًا ملحوظًا، حيث توافد العديد من العلماء ذوي الأصل اليهودي إلى مصر، وكذلك تقلد اليهود مناصب مسؤولة في الدولة، خصوصًا وظائف محصلي الضرائب ومديري هيئة صناعة النقود، ومهمة الصيارفة الرسميين، وقد انتهوا إلى احتكار قدر كبير في هذا المجال، واستطاعوا تكوين ثروات كبيرة، ما أدى إلى انقلاب الأوضاع عليهم من الطبقة الحاكمة مرة أخرى.
فترات الصعود والهبوط
في مقال الألمانية المتخصصة في الأقليات جوردون كرومور وألفريد مورابيا الذي عرفناه في السابق، يصرح الأكاديميان بأن تصوير تاريخ اليهود في مصر خلال القرنين الـ19 والـ20 كان على شكل منحنى متصاعد في النصف الثاني للقرن الـ19، ثم يبدأ في الانحناء ببطء بداية من أربعينيات القرن الـ20، حتى يسقط بطريقة حادة في خمسينياته. ويقول الأستاذان، إن عدد اليهود الذين كانوا يعيشون في مصر بداية حكم محمد علي (1804) وصل إلى 6 آلاف يهودي، وهذا العدد تضاعف حتى وصل سنة 1890 إلى 30 ألف يهودي، نتيجة الازدهار الاقتصادي والتجاري والذي أدى إلى هجرات متتابعة من اليهود إلى مصر.
وكان أقصى تعداد لليهود في مصر خلال منحنى الصعود، كما يزعم مورابيا وجوردون، هو 75 ألف مواطن يهودي، وكان ذلك في عام 1930، ذلك نتيجة لسيطرة الاستعمار البريطاني على مصر، ليبدأ من بعد ذلك التاريخ منحنى الهبوط، إثر التوجه العروبي لقضية فلسطين، فضلًا عن قيام ثورة يوليو 1952.
طائفة اليهود القرائين (الذين يؤمنون بالتوراة فقط) استحوذت على اهتمام جاك حسون نفسه، وهذا الاهتمام نابع من مسألة أن هذه الطائفة تحديدًا تجسد ما يمكن وصفه بجملة: «شتات داخل الشتات»، فهي الطائفة التي كان تعدادها يقل عن 8% من أعداد اليهود في مصر (معظم الباقي «ربانيون» يؤمنون بالتوراة والكتب الأخرى وأهمها التلمود)، وقد تشتتوا في كثير من البلاد بعد الخروج في فلسطين المحتلة، وتركيا، وروسيا، وأمريكا، وفرنسا.
يوميات اليهود في مصر
كذلك اهتم حسون بأحوال اليهود اليومية التي شاهدها بنفسه في مصر، وحاول أن يكتب عنها بأسلوب أدبي رائع، ولكنه يصفهم بعدة صفات، أولها الفقر الشديد إلى حد التسول، وثانيها التمسك باللغة العربية إلى حد العشق. يصف صباحات أيام الأحد بأنهم يندفعون نحو المحطات الرئيسية للسكك الحديدية في القاهرة والإسكندرية، وهم يحملون معهم عديدًا من الحقائب المليئة بعينات السلع التي يعرضونها للبيع، ويغطون أجساهم برداء للوقاية من الأتربة والأمطار، ويعلو رأسهم طربوش مستقر عليها. يجمعون أنفسهم في القطار وقت الصلاة، ولكن أحيانًا يجدون أنفسهم في بعض المدن معزولين، لا يجدون صديقًا رفيقًا أو بيتًا للمأوى أو كنيسًا للصلاة، وهنا يتوجهون إلى المساجد للصلاة فيها، وفقًا لما أوصى به «موسى بن ميمون»!
يتحدث حسون عن 43 يهوديًا كانوا يعيشون في «المحلة» سنة 1936 موزعين على عشيرتين، فيما انحسرت في تلك الفترة طائفة «زفتى» في عائلة «شولال»، وقد سيطرت عائلات «وهبة، وسلامة، ورومانو» على طائفة «ميت غمر»، وهي العائلات التي تخصصت في صناعة الفطير الخالي من الخميرة.
يحكي حسون عن يوم الحج لليهود، والذي يتضمن صلاة الصباح فيه إنشاد أحد التراتيل الجماعية، والتي لها نظير في كل الأديان تقريبًا، وهذا الترتيل يقول:
فصل الحياة اليومية للطائفة اليهودية يحكي بدقة كيفية احتفال اليهود بموالدهم ومناسباتهم الدينية الأسبوعية كصلوات مساء الجمعة وأيام السبت، والموسمية كعيد الفصح وغيره من الأعياد، التي سعى اليهود المصريون إلى الحفاظ على تأديتها كجزء من نمط حياتهم العادية، وكجزء من التمسك بما هو يساعد على ترابطهم كطائفة صغيرة.
من بين الطقوس التي كان يؤديها اليهود في مصر، وهو أغربها في الواقع، هو طقس «إعادة شراء الطفل البكري»، ويحدث فيه أنه في اليوم الـ31 بعد ميلاد الطفل، تحتفي به أسرته بمشهد تمثيلي، حيث يعدون وليمة كبيرة، وفي وسط انعقاد الوليمة يأتي رجل كبير (عادة ما يكون اسمه «كوهين») ليسرق الطفل، وبالفعل ينجح في سرقته، ويتوجه به إلى أقرب كنيس يهوي، فيهرع الأب والأم إليه، ويعيان شراء الطفل بمبلغ من المال يتفقان عليه مع الرجل السارق!
أما طقوس الموت، فهي تتشابه إلى حد كبير بطقس الموت عند المسلمين المصريين، وهي كما نبه جاك حسون في فصله الرائع، أن طقوس الموت تمتزج بالتقشف، إذ عندما يتأكد أهل المتوفى اليهودي من موته فإنهم يتخلصون من كل الماء الموجود في المنزل، وعادة ما يُكفن الميت بثوب أبيض، ويضعونه في تابوت خشبي بسيط، ويتوجهون به إلى أقرب كنيس لإقامة الصلاة، ثم يدفنونه في نفس الليلة، وبعد عودة أهل المتوفى إلى المنزل، يتناولون وجبة محتواها البيض المسلوق والحمص.
كتاب «تاريخ يهود النيل» يُعتبر وثيقة تأريخية مهمة لحياة اليهود المصريين، بعيدًا عن مسألة «إسرائيل التي أفسدت كل شيء»، كما ذكر حسون.