«الصوت اليهودي للسلام»: يهود في مواجهة الصهيونية
في 19 أكتوبر/ تشرين الأول اعتقلت شرطة الكابيتول الأمريكية قرابة 300 شخص. كانوا يحتجون داخل القاعة المستديرة في مبنى الكونجرس الأمريكي. المظاهرة كان هدفها المطالبة الواضحة بوقف إطلاق النار في غزة، والتدخل العاجل لإنقاذ أهل غزة من الكارثة الإنسانية المُحققة، التي تزداد سوءًا يومًا بعد الآخر.
المُلفت في هذه الاعتقالات أن بعض المعقتلين يهود، وأن المظاهرة كان من أبرز منظميها يهود كذلك. تتضح الصورة شيئًا فشيئًا حين نجد اللافتات المرفوعة تحمل شعارات مثل ليس باسمنا، ومثل أحزاننا ليست سلاحكم. والعديد من حاملي تلك اللافتات، فضلًا عن كونهم يهودًا، هم أيضًا أحفاد لأفراد نجوا من الإبادة الجماعية النازية.
المنظمة التي تضم كل هؤلاء، والتي نسقت لتلك التظاهرة الاستثنائية، هى منظمة تحمل اسم الصوت اليهودي من أجل السلام. وقالت الناطقة باسمها، سونيا ميرسون، إنهم نظموا تلك الفاعلية ضمن فعاليّات ماضية مثل مظاهرة ضمت المئات أمام البيت الأبيض للضغط على الإدارة الأمريكية لإجبار إسرائيل للتراجع عن الغزو البري وإعلان وقف فوري لإطلاق النار.
وأخرى لاحقة، للمطالبة بوقف إطلاق النار كذلك. مثل المظاهرة التي ضمت الآلاف الذين توجهوا لمنزل زعيم الأغلبية الديمقراطية في مجلس الشيوخ، تشاك تشومر، في بروكلين. تشومر هو برلماني يهودي الأصل، وكان من المفترض أن يصل لإسرائيل رفقة عدد من البرلمانيين الآخرين في بدايات القصف الإسرائيلي على غزة. ورفعوا لافتات أمام منزله تقول إنهم يهود وأنهم يطالبون بوقف الحرب.
حركة يهودية يسارية
الحركة المعروفة اختصارًا بالحروف اللاتينية جي في بي، هي حركة تأسست في الولايات المتحدة، وتركز بشكل أساسي على الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. وتُعرّف نفسها باعتبارها حركة تضم طيفًا واسعًا من الناشطين الذين يستوحون عملهم من تقاليد اليهودية، ويهدفون إلى السلام والعدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان. ويطمحون في نهاية المطاف إلى الوصول لمنح حق تقرير المصير للفلسطينيين والإسرائيليين. بعد إنهاء الاحتلال الإسرائيلي في كافة مناطق الضفة الغربية والقدس الشرقية وغزة.
اقرأ أيضًا: بحثًا عن الحقيقة: هل تعادي حركة حماس اليهود؟
رغم أنها اسمها برز في الأخبار حديثًا إلا أنها حركة عتيدة تأسست في عام 1996. من أبرز مؤسسيها توني كوشنر ونعوم تشومسكي. كوشنر هو كاتب مسرحي وكاتب سيناريو ويعتبر من أبرز المؤلفين الأمريكيين. أما تشومسكي فهو أستاذ لسانيّات وفيلسوف أمريكي مرموق. وتصنّف الحركة نفسها بأنها حركة يهودية يسارية، تناضل من أجل تحرير كل الناس، ومنع الظلم في كل مكان.
وتنتقد منذ يومها الأول معظم الأعمال التي تقوم بها إسرائيل في فلسطين. وتصفها بأنها انتهاكات شديدة لحقوق الإنسان تمارسها إسرائيل بشكل يومي. فمثلًا انتقدت الحركة في مقالات عديدة بناء جدار الفصل العنصري، وكذلك هاجمت الحصار الخانق المفروض على قطاع غزة، والعمليات العسكرية الجارية عمومًا في الضفة الغربية وفي غزة.
لكن المنظمة تقول بوضوح إنها لا تؤيد فكرة حل الدولة الواحدة، إما إسرائيلية أو فلسطينية. كما أنها لا تؤيد حل الدولتين كذلك. فالحركة لا ترى أن إسرائيل دولة يهودية حقيقية، بل يمكن لليهود أن يندمجوا في نظام حكم مشترك، أو يقرروا هم في استفتاء مباشر الطريقة التي يريدون الحياة بها، لكن في ظل نظام غير عنصري وإجرامي كالنظام الإسرائيلي الحالي.
تحاول الحركة إرسال رسائلها للعالم عبر أربعة مجالس متخصصة، للثقافة والأكاديميا والحاخامات والصحة. وعبر أنشطة الحركة المتزايد ارتفع تمويلها ليصل لقرابة 3 ملايين دولار عام 2016.
دعم بعد طوفان الأقصى
ومن أبرز مواقف الحركة دعمها الكامل لمنظمة غزة الحرة، وهي الحركة التي تأسس عام 2006 لإيصال مساعدات لغزة بعد حصار إسرائيلي مشدد عليها. ظلت منظمة الصوت اليهودي داعمةً لحركة غزة الحرة حتى عام 2012. في ذلك العام قامت جريتا برلين مؤسسة الأخيرة بنشر تغريدة تقول إن الصهاينة أداروا معسكرات الاعتقال، وأسهموا في قتل ملايين اليهود.
المنشور احتوى مقطعًا مصورًا ليوستاس مولينز، من منظريّ نظرية المؤامرة، يقول فيه إن الصهاينة هم المسئولون عن الهولوكست ومعجبون بهتلر. رغم أن جريتا حذفت المنشور واعتذرت عنه، فإن منظمة الصوت اليهودي قررت أن تنأى بنفسها بعيدًا عن حركة غزة الحرة، لما رأته في أن الحركة تعادي السامية، وتعادي اليهود لأنهم يهودًا.
وحاليًا تستمر الحركة في دعمها للشعب الفلسطيني بعد معركة طوفان الأقصى التي شنتّها حركة المقاومة الإسلامية حماس. وأكدت الحركة عبر موقعها الرسمي أنها ترفض الإبادة الجماعية التي ترتكبها الحكومة الإسرائيلية في حق الفلسطينيين الموجودين في غزة. وأوضحت الحركة أن أصل العنف وجذوره، على حد تعبير الحركة، هو القمع الإسرائيلي في المقام الأول، والفظائع المتكررة والمستمرة ضد الشعب الفلسطيني.
وقالت هانا لورانس، من أعضاء الحركة، أن الرئيس الأمريكي، جو بايدين، هو من يملك القدرة على الضغط على رئيس الوزراء الإسرائيلي لإنقاذ الأرواح البريئة التي تُزهق كل لحظة. كما صرّحت ليندا هولتسمان، يهودية متديّنة، بأنها تريد أن تقول لبايدن أن يفتح عينه ويرى المجازر التي يرتكبها الاحتلال، وإنه إذا أراد أن ينظر لنفسه في المرآة فعليه أن يضع حدًا للإبادة الجماعية.
كذلك قال جاي سابر، من اليهود المتظاهرين أمام منزل تشومر، إن 75 عامًا من الاحتلال العسكري الإسرائيلي والفصل العنصري هما الأسباب الجذرية لما قامت به حماس، وما سيقوم به الفلسطينيون دائمًا. وأن معالجة تلك الأسباب الجذرية هو الأمر الأهم.
حق العودة والمقاومة
لذا نجد الحركة تدعم بشكل واضح حق العودة للفلسطينين، وضرورة لم شملهم مع عائلاتهم ومجتمعاتهم. وتنتقد سياسات الحركة الصهيونية الرامية إلى محو تاريخ الشتات ولغاته وتقاليده، تقول الحركة إن الصهيونية تهدف بذلك إلى الإيحاء إن لم يكن لهم دولة أو تاريخ قبل قيام إسرائيل. لكن الحقيقة، كما تقول الحركة، إن هناك آلاف السنين من التاريخ اليهودي وطقوس وأشعار ومسرح وأفلام، وكل ذلك دون أن يرتبط اسم اليهود بحكومة الفصل العنصري، على حد وصف الموقع الرسمي للمنظمة.
في ظل كل ما سبق ليس مستغربًا أن تكون الحركة ضمن القائمة السوداء الإسرائيلية. فمثلًا قالت صحيفة تايمز أوف إسرائيل في تقرير قديم أن المنظمة تتبع استراتيجية متطرفة ومناهضة لإسرائيل. وذكرت الصحيفة أن الحركة تتبنى الافتراءات المعادية للسامية. اشتعلت نيران النقد بعد قيام الحركة عام 2017 بسبب أنها دعت الناشطة رسمية عودة لتكون متحدثًا متميزًا في مؤتمر المنظمة الذي ينعقد كل عامين. رسمية عودة هى عضو سابق في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ومدانة بالأحكام الإسرائيلية لدورها في تفجير سوبرماركت عام 1969 أدى لمقتل اثنين إسرائيليين.
لكن ذلك لم يمنع الحركة من الاستمرار في مسيرتها المناهضة للصهيونية. وفي عام 2019 أصدرت المنظمة بيانًا واضحًا حول موقفها من الصهيونية. لم يكن البيان يحمل مفاجآت بخصوص موقف الحركة المُعلن منذ لحظة تأسيسها، لكنه أتى في لحظة انتخاب دونالد ترامب رئيسًا للولايات المتحدة الأمريكية، ويُعرف ترامب بدعمه المُطلق لإسرائيل، فكأنما أرادت الحركة أن تُعلن عن وجودها وعن أنها مستعدة لبذل أي شيء لكبح جماحه.
في ذلك البيان، الذي بدأ باقتباس من الكاتبة الأمريكية ميلاني كاي يقول إن التضامن هو النسخة السياسية من الحب، قالت المنظمة إن الصهيونية ليست سوى حركة أيديولوجية ظهرت في القرن التاسع عشر كرد فعل على اضطهاد اليهود والتمييز ضدهم في أوروبا. لكن الصهيونية التي نراها اليوم، كما يقول البيان، ليست إلا حركة استعمار استيطاني تؤسس لدولة فصل عنصري توفر لليهود حقوقًا أكثر من غيرهم.
ويضيف البيان بشكل واضح أن إسرائيل تأسست على قاعدة أرض بلا شعب، وأنهم سيعملون على تهجير وإفراغ فلسطين من أهلها جيلًا بعد جيل. لذلك يقول البيان إن الوجود الفلسطيني في حد ذاته مقاومة، لأنه يتصدى لهذا الحلم الصهيوني. وقال البيان أيضًا إن الصهيونية أفسد التاريخ الطويل لليهود وتعايشهم المشترك مع بعضهم ومع الآخرين، ذلك الإفساد حدث لأن الصهيونية خلقت هرمية عنصرية تضع على رأسها اليهود الأوروبيين.
ولخّص البيان المبدأ الذي تقوم عليه إسرائيل بقوله في إحدى فقراته إن الصهيونية تجعل اليهود يشعرون أنهم وحدهم في العالم، وأنهم كي يتغلبوا على معاداة السامية فعليهم ألا يثقوا في الآخر إطلاقًا. وأن يرى اليهودي نفسه عرضة دائمًا للهجوم، وأن الخوف هو ما يجب أن يشعر به كل يهودي، وأن الرد الأمثل في مواجهة الخوف هو سلاح أكبر، وجدار أعلى، وحواجز تفتيش أكثر إذلالًا.