المسألة اليهودية: من «قومية التاجر» إلى الانهيار والعزلة
أظن أن أشد طرق التفكير استقامة هي التخلي عن التحيُز للأيديولوجيات والقوميات، والاكتفاء بروح الحياد، والروح فقط، فالحياد ربما يجعل منك مسْخًا فكريًا خائفًا من التورط في إطلاق رأي فينتهي بك الأمر إلى التناول السطحي. أمّا التحلي بروح الحياد هو ما يمنحَك شيئًا من التوازن للنظر بصِدق. ومن هذا المنطلق سنحاول استقراء وتحليل الوضع الحالي من منظور التخلي عن الأحكام المُسبقة والتحيُز الديني والعِرقي، سعيًا لاستعادة الصورة المُمزقة المنسية عن توجيه الحلول في أزمِة «المسألة اليهودية» والتي كان من أسوأ نتائجها ولادة «الصراع العربي–الإسرائيلي».
المسألة اليهودية
ظهر مصطلح «المسألة اليهودية» قبل الثورة الفرنسية، ولم يحظَ بالنقاشات في الأوساط الفكرية إلا عام 1843، حين نشر الفيلسوف الألماني «برونو باور» كتابهُ «المسألة اليهودية»، والذي كان بمثابة جناح الفراشة الذي بدأ الإعصَار. فبِناءً على ما ورد في هذا الكتاب قام «كارل ماركس» بتأليف كتاب «حول المسألة اليهودية» لتحليل رؤية «باور». ومع كتاب ماركس بدأت الأزمة.
كان يهود أوروبا يحظون بمعاملة سيئة، ولا يجدون لها تفسيرًا واضحًا، ويُطالِبون بالتحرر من الأحكام المسبقة والاضطهاد، مما استدعى اجتهادات كثيرة من مثقفي أوروبا، بدايةً من القرن الـ 17، لتشخيص الأزمة بتجرد، فكان رأي «باور» أن اليهود يُطالبون بأن يكونوا مقبولين من المجتمع وهذا مستحيل، لأن هويتهُم الأساسية دينية، مما يعني أنهم يرون أنفسهُم شعب الله المختار وأنهُم مميزون وباقي البشر أقل منهُم. وفي الجهة الأخرىَ يقابلهُم الأوروبيون المسيحيون، المتجذِر في تفكيرهم أن اليهود هُم قتلة المسيح؛ لتكون الأزمة في منظور باور أساسها أن الدين هو العائِق أمام تحرُر أي مجتمع، لذلك فالحل يكمُن في أن يتخلىَ الإنسان عن الدين، وحينها لن تكون للدولة مرجعية دينية، وبالتالي لن يكون هناك تحيز، ولن يبقىَ إلا القانون، وحينها سَتكون النتيجة هي التحرُر للجميعْ.
ولكن «ماركس» اليهودي، المتحول للإلحاد، رفض تلك الرؤية تمامًا، لأنه لا يحق لنا أن نُطالِب اليهود أو أصحاب الأديان الأخرى بالتخلي عن أديانهم. [1] وأشار إلى أن حقوق الإنسان أساسها قائم على إعطاء البشر الحق في الشعور بالتميز عن غيرهُم، لا أن يكونوا نسخًا مكررة. ثم انتقل لتحليل الأزمة من منظور آخر، وتخلّى عن تحليل اليهود كمُتدينين، وتحوّل لتحليلهم كدنيويين، ونظر في احتياجاتهم وتصرفاتهم، ليكتشِف ما الذي يجعَل من وجودهم أزمة داخل المجتمع الأوروبي.
وصل ماركس إلى أن عبادة اليهود الدنيوية أصبحت هي الحاجة العملية والمنفعة التجارية، فصار إلههُم الدنيوي هو المال، مُفسِرًا ذلك بأن اليهود عاشوا مُشتتين بين البلدان طوال العصور، مما جعلهم يشعرون بأن القيمة الثابتة التي ستسْمح لهم بالاستقرار في أي مجتمع هي أن يتمحْور الاقتصاد حولهُم، وحينها لن يتم التخلي عنهُم، ولذلك جعلوا روح وجودهم في أي مُجتمع متمثلة في المال، فأصبحوا تُجارًا ومُرابين، وصارت قوميتهم الحقيقية هي «قومية التاجر» المُستغِل، لذلك صاروا مكروهين، ورأى أن تلك العقلية المادية تحولتْ لطريقة تفكير تبنتها المجتمعات، فتحولتْ للعمل بالفكر اليهودي المبني على فِكرة عبادة وتقديس المال.
لذلك، ارتأى ماركس أن الحل الأمثل يكمُن في التخلُص من الرأسمالية ومن عِقلية التاجر واحتكاره، وحينما تنجح المُجتمعات في ذلك، سينتهي حُب المال، ولن يجِد اليهودي ديانتهُ الأرضية الرأسمالية، وسيعود ومعُه المجتمع لطبيعتهم الإنسانية، وقال في ذلك جملتهُ الشهيرة:
وكانت تلك الجملة سببًا في الهجوم الشديد عليه، واتهامه بأنهُ مُعادٍ للسامية، بل إن البعضْ ما زال يتهمهُ بأنه كان سَببًا في زيادة نبرة العداء تجاه اليهود داخل المجتمع الأوروبي، واتهامه بأنهُ تسبّب في الهولوكست بعد أن تأثر هتلر بأفكاره وقام بتنفيذ مضمون الجملة بطريقته.
والحقيقة أن ما قصدهُ ماركس لم يكن إلا دعوة للتخلُص من الروح الرأسمالية، التي نالت من المجتمع بهدف تحريره ومعه اليهود، وليست دعوة للقضاء على اليهود. لكن هذا التوضيح لم يكُن أبدًا كافيًا، حيث إن بعض الترجمات قامت بتحريف عنوان كتابه إلى «عالم بلا يهود»، استنادًا على جملته الشهيرة، مما أشعل سوء الفهم، وكان سببًا في ازدياد النظرة السطحية لرؤيته.
ولكن هل أصاب ماركس في تحليله أن رأسمالية اليهود هي سبب أزمتهم؟
رأسمالية اليهود
قبل ظهور المسيحية والإسلام، يمكننا تمركز جزء من يهود العالم في روما، والتي كانت مناسبة لعملهم، وهو التجارة، فأهلها من الأثرياء المُستهلِكين الكسالى، واقتصادها قائم على نهب ثروات البلاد المحتلة، ولم يكُن هناك إنتاج داخلي، حيثُ كانت الفتوحات التدريجية لإيطاليا تستوعب فائض رأس المال وفائض السكان، ولم تكن هناك حاجة للعمل في التجارة أو الصناعة. [3]
كان شعب روما يحتقر العمل في التجارة، لذلك شغل اليهود أغلب الوظائف التي ابتعد أهل المدينة عنها، وقد حظر القانون على الشيوخ وأولادهم والطبقة الأرستقراطية في روما أن يمتلكوا بواخر تجارية، وتم حرمانهم من مُمارسَة التِجارة، وجدّد يوليوس قيصر هذا الحرمان حينما تولّى الحُكم. [4]
فجأة تغير الوضع مع انهيار الإمبراطورية الرومانية، وصار النظام الاقتصادي العالمي إقطاعيًا، قائمًا على الزراعة والتجارة الاستعمالية بدلًا من التبادلية، أي أن ما يتم إنتاجه هو للاستهلاك فقط، ولا يوجد فائض للتجارة الخارجية، فبدأت مصادر دخل يهود في الغرب تنحدر.
ومع ظهور الديانة المسيحية وانتشارها، ضاق الخناق على اليهود، لأن النظام الإقطاعي المسيحي يتطلب -للمشاركة فيه- أن تكون مسيحيًا، ملتزمًا بيمين الولاء المسيحي، وهو الأمر الذي كان غير مُتاح لليهود، فأصبحوا غرباء تمامًا، فهُم ليسوا مسيحيين، وبالتالي ليس لهُم حقوق المواطنين، وأيضًا ليس لهم حق العمل في الفلاحة. وقد قام ملوك أوروبا بالاعتماد في تلك الحالة على العُرف البدائي القديم، واعتبروا اليهود ملكية خاصة، واستعملوهم كأداة لجمع الضرائب وشئون التجارة الداخلية، فأصبح العامة يكنون لليهود الكُره نتيجة عملهم المرتبط دائمًا بالشئون المالية وتحصيل الضرائب، بالإضافة إلى الصورة الذهنية عن اليهود أنهم هم «قتلة السيد المسيح» والسبب في صلبه؛ ثم ظهر الإسلام وانقسَم العالم لقسْمين، الإسلامي والمسيحي، وأصبح التبادل التجاري صعبًا، لذا كان اليهود هُم حلقة الوصل الوحيدة بينهُمَا. [5]
بدأ اليهود نتيجة لخبراتهم السابقة بالتجارة في تكوين الثروات، بسبب وساطتهم بين المسلمين والمسيحيين، فصار أساس وجودهم قائمًا على التجارة والوساطة، وأمست التجارة العالمية قائمة على مجهوداتهم، حيثُ أتقنوا الفارسية والرومانية والعربية والفرنكية والإسبانية والسلافية، وتنقّلوا بين الغرب والشرق، برًا وبحرًا، وجلبوا من الغرب الخصيان والنساء والعبيد والصبيان والحرير والفراء والسيوف، ومن الشرق جلبوا المسك والعود والكافور والقرفة. [6]
وبعد الشقاء الذي اعتصرهُم مُنذ انهيار الإمبراطورية الرومانية، حظي اليهود من جديد بمكانه طبيعية بين الشعوب دون عنصرية تجاههم أو منهم تجاه الآخرين، فهُم تجار ومُرابون ووسطاء بين الشعوب، يمثلون منفعة للجميع وينعمون بالتعايُش.
ولكن يجب هُنا الإشارة إلى أن وضعهم في الجزء المسيحي من العالم كان يتطلب بعض التوصيات من الأساقفة، حيث يترفّق النبلاء في معاملة اليهود، ومن ثَمَّ يقتدي بهم العامة. ويتضح هذا في رسالة «سيدوان أبولينير» إلى أسقُف مدينة «تورني»، حين طلب منه الرفق في مُعاملة اليهود، لأنهم قوم يتعاطون أعمالًا مفيدة [7]، وهو ما يعكس أن وضعهُم في المجتمع المسيحي كان تعايشًا مبنيًا على نفعهم الاقتصادي بشكل عام، لامتلاكهم رأس المال.
ولكن وضعهم في المجتمع الإسلامي كان مختلفًا، فقد تأسس على التعايش الحقيقي، حيثُ تم اعتبارهم من أهل الذمة، وتم احترامهم، حتى أن حاخامهم الأكبر كان يناديه المسلمون «سيدنا ابن داوود». وكانت تقضي التقاليد بأن ينهَض اليهود والمسلمون وسائر الناس عند مروره من أمامهم، بل وعليهم تحيتهُ واحترامه وعقاب من يخالف ذلك 100 جلدة. وكان يسير وأمامهُ الفرسَان ومنادٍ ينادي في الناس «أفسحوا الطريق لسيدنا بن داوود». وكان حين يلاقي الخليفة يلثم يدُه فيقف له خليفه المسلمين ورجال الحاشية احترامًا له حتى يجلسْ. [8]
ونحن هُنا نشير إلى التباين في وضع اليهود بين المجتمعين المسيحي والإسلامي فقط لاستقراء التاريخ بكل موضوعية، لأن ما هو قادم قائم على ما نقوم بإيضاحه الآن.
إذن فَعجلة التاريخ والتقلبات الاقتصادية والاجتماعية هي منْ قادتهُم إلى الاعتماد بشكل كبير على التجارة والوساطة بين الشعوب، ومن الواضح أيضًا أنهم تمتعوا بحياة طبيعية ومستقرة؛ لكن كيف تغير الوضع؟
الانهيار والعزلة اليهودية
ورغم امتلاكهم للثروات ورأس المال، فإن طرق التجارة لم تعُد مفتوحة أمامهُم كالسَابق، فلم يبقى لهُم إلا التجارة الداخلية والإقراض بالرِبا وجباية الضرائب، ثم تقلّصَ دورهُم مرة أخرى وأُسنِدت الوظائف الإدارية كجباية الضرائب للمسيحيين، ولم يبقَ لليهود إلا التجارة الداخلية والإقراض بالربا، وبالرغم من أنه كان نظامًا معمولًا به قديمًا بين كل الشعوب، فإنه مع النشاط التجاري وضخ الأموال في السوق الأوروبي، انحسر النشاط الربوي وارتبط باليهود فقط، وتبدّل وصفهُم من تجار إلى مُرابين، وصارت كلمة مكروهة بعد أن كانت جزءًا من النظام الاقتصادي.
وكما دارت عجلة التاريخ من قبل لصالح اليهود، دارت ضدهُم هذه المرة، فأصبح يهود الغرب فائضًا بشريًا في المجتمع الأوروبي، الذي تحوّل من الإقطاع الزراعي إلى الرأسمالية، ولكنها رأسمالية مختلفة عن رأسمالية اليهود؛ فالأوروبيون كانوا يتاجرون فيما يصنعونه ويزرعونه، أمّا رأسمالية اليهود كانت متمثلة في الوساطة، فلديهم رأس المال، به يبتاعون من هُنا ويبيعون هناك، أي أنهم ليسوا متحكّمين في الإنتاج، لذلك تفوّق عليهم رأس المال الأوروبي، لأنه امتلك وسائل الإنتاج والدعم.
استمر الوضع مُسْتقرًا حتى ظهر ما يُسمى بـ «الرابطة الهانزية»، وهي تحالف تجاري قوي، ظهر في ألمانيا في القرن الـ 13، وتبعهُ تحالفات إنجليزية صغيرة وأساطيل تجارية لجنوىَ والبندقية، وجميعها بخلفية مسيحية، مما منح تلك التحالفات الدعم الغربي، وبالتالي بدأ دور اليهود في التجارة والاقتصاد العالمي يتقلص.
وبعد تضاؤل دور اليهود الاقتصادي، أصبح وجودهم غير مرغوب به، وما جعل الأمر يزداد سوءًا، هو اعتمادهم على النظام الربوي، حيثُ إن رأس المال لديهم كان كبيرًا بسبب مكاسبهم السابقة، وبالتالي اُختزلت الصورة النمطية في العقل الأوروبي عن اليهود بتصورهم كقومٍ انتهازيين، يعتمدون على الربا، بالإضافة إلى الصورة الدينية القديمة القائمة على أنهم قتلة المسيح. وجرى تدريجيًا طرد اليهود من أوروبا والغرب، وهاجر آخرون إلى أوروبا الشرقية الإقطاعية والمجتمعات الإسلامية، أمّا منْ بقي منهُم فقد سكنوا في الجيتوات، التي بدأ تأسيسها وظهورها كمناطق عزل لليهود في تلك الفترة.
ومن ذلك الوقت بدأ اليهود في شكواهم مما يلاقونه من معاملة سيئة واحتقار، ونتيجة لذلك ظهرت في أوروبا «المسألة اليهودية».
وعلى صعيد آخر استمر وضع اليهود داخل المجتمع الإسلامي في التفاوت، ما بين فترات جيدة وأخرى سيئة، ارتباطًا بمبدأ الثواب والعقاب وتعايشهم كأهل ذمة، فحتى مع تقلُص دورهم الاقتصادي، لم تتغير نظرة المجتمع الإسلامي والمسيحي لهم كمرابين.
وخلال عصور الأزمات، كان اليهود يرددون دومًا، في أعيادهم وخلال لقاءاتهم اليومية، جملة:
وبالرغم من هذا، لم يكُن في نيتهم أبدًا اتخاذ القرار بالتوجه إلى القدس، إلا لرحلات الحج وما شابه من أغراض السفر، دون التفكير في إنشاء دولة. ولكن لماذا وكيف تغير ذلك؟
- كارل ماركس، “حول المسألة اليهودية”، الطبعة الثالثة، منشورات الجمل، كولونيا، 2003، صـ15.
- المرجع السابق، صـ61.
- An economic history of Rome to the end of the republic, Tenney Frank, JHU Press, Baltimore, 1920, P89.
- إبراهام ليون، “المفهوم المادي للمسألة اليهودية”، الطبعة الثانية، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، 1973، صـ20.
- عبد الوهاب المسيري، “الصهيونية والحضارة الغربية”، دار الهلال، القاهرة، 2003، صـ14.
- ابن خرداذبة، “المسالك والممالك”، مطبعة بريل، ليدن-هولندا، 1889، صـ153.
- إبراهام ليون، “المفهوم المادي للمسألة اليهودية”، مرجع سبق ذكره، صـ29.
- بنيامين التطيلي، “رحلة بنيامين التطيلي”، ترجمة: عزرا حداد، الطبعة الأولى، المجمع الثقافي، أبو ظبي، 2002، صـ301 – 302.