الأصولية اليهودية: من ارتكب مذبحة الحرم الإبراهيمي؟
هكذا نعى الحاخام «إسرائيل آرئييل» باروخ جولدشتاين قبل بداية جنازته، ليؤكد أن مذبحة الحرم الإبراهيمي لم تكن استثناءً أو حالة فردية، وإنما كانت امتدادًا لتاريخ دموي من الإرهاب الإسرائيلي. ولكن، هل كان جولدشتاين وحده هو المسئول عن ارتكاب هذه المذبحة؟
الأصولية اليهوديةكلمة «أصولية» هي ترجمة حرفية لكلمة لاتينية تعني «الأساس» أو «الأصل». وقد تم استخدامها في اللغة الإنجليزية لأول مرة في سياق مسيحي، وأشارت إلى «حركة بروتستانتية أمريكية»، هدفت إلى إعادة تأكيد العقائد المسيحية الثابتة والأصلية مثل قدسية الكتاب المقدس، وارتبطت بالتفسير الحرفي والمباشر لنصوص الكتاب المقدس، والإيمان بالمعجزات. ثم طبقت هذه الكلمة على الاتجاهات التجديدية في الإسلام ثم الحركات الدينية المتطرفة في اليهودية.
وتُستخدم عبارة «الأصولية اليهودية» في الخطاب السياسي العربي والغربي للإشارة إلى شكل من أشكال التطرف الديني عادة.بدأت الأصولية اليهودية صغيرة، لكنها تحظى اليوم بدعم كبير بين أطياف المجتمع في دولة الاحتلال. ويمكن القول أن الحاخام «أبراهام إسحاق كوك» (١٨٦٥-١٩٣٥) أول من طرح فكرة الأصولية اليهودية المتقاربة من الصهيونية العلمانية، حتى أنه يُطلق عليه «أبو النزعة المتطرفة للأصولية اليهودية». وكان أبراهام أول راهب أشكنازي خلال فترة الانتداب البريطاني في فلسطين. ومن المعتقدات التي تبناها هو أن المخططات الصهيونية كمشاريع الاستيطان، بالإضافة لإعادة بناء اللغة العبرية والوعي السياسي اليهودي يشكلون سويًا بداية النهاية لمنفى اليهود التاريخي (الدياسبروا).وكان الحاخام كوك يقول: «إن الفرق بين روح اليهود وروح غيرهم -جميعهم وفي كل المستويات- أكبر وأعمق من الفرق بين الروح البشرية وأرواح الأنعام». وهذا التصريح الذي يؤمن به أناس كثيرون، من ضمنهم أولئك الذين قادوا حركة الاستيطان في الضفة الغربية، معتمد على «القبالة اللوريانية»، وهي مدرسة في التصوف اليهودي، انتشرت في اليهودية من نهاية القرن السادس عشر حتى بداية القرن التاسع عشر. ومن أهم المبادئ الرئيسة في هذه القبالة: «التفوق المطلق للروح والجسد اليهودي على الروح والجسد غير اليهودي». وترى هذه القبالة أن العالم إنما خُلق لأجل اليهود، وأن وجود غير اليهود ما هو إلا وجود ثانوي.وتقدم الأصولية اليهودية طرحان في الأساس:
- أن إنشاء دولة إسرائيل هو تجسيد للحلم التوراتي اليهودي القديم، رغم أن الحركة الصهيونية نفسها لم تكن حركة دينية، وهو ما أُطلق عليه (وعد ديني يتحقق على يد علمانيين).
- لا يمكن الثقة في الأغيار (غير اليهود)، بأي شكل، وأرض إسرائيل الكبرى هي أرض يهودية، ولابد للدولة اليهودية أن تعتمد على نفسها وحسب. ولذا لا يفهم أعضاء هذا اليمين الديني الموازنات الدولية حق الفهم.
وتتجلى الأصولية اليهودية فبشدة في جماعات «الحريديم». وكلمة «حريدي» هي كلمة حديثة نسبيًا، وتعني الخشية أو الهيبة التي يشعر بها اليهودي أمام ربه، وتعود جذور هذه الجماعات إلى القرنين الثامن والتاسع عشر، حين بدأت الأفكار الليبرالية في الرواج، لا سيما مع صعود حركة الإصلاح اليهودي في ألمانيا تأثرًا بالحراك الفكري السائد آنذاك، والتي نادت باندماج اليهود بشكل أكبر في مجتمعاتهم وتخلصهم من عقلية الجيتو واهتمامهم بالتعليم العلماني إلى جانب الديني، وهي حركة رأتها قطاعات من اليهود باعتبارها انحرافًا عن الطريق الصحيح، متمسكين بتقاليدهم وشرائعهم، ليصبحوا مع الوقت مجتمع الحريديم.والحريديم في إسرائيل لا يُولون العناية في التعليم إلا للدراسات الدينية، دون سائر العلوم الدنيوية والدراسات الإنسانية واللغات الأجنبية. ومما يدل على عمق ولوجهم في الفكر الأصولي، وإيغالهم في التطرف العقدي، أن العديد من حاخاماتهم يرون أن الهولوكوست عقاب إلهي، يستحقه الكثير من اليهود، والسبب هو قبول اليهود الحداثة ومُفرزاتها، والتخلي عن الدين، وانحطاط الدراسة التلمودية في أوروبا، ووجود نساء منخرطات في السياسة.وقد أظهرت نتائج انتخابات الكنيست الأخيرة عام 2015، مدى التجذر الذي وصل إليه تيار الأصولية اليهودية داخل الحياة العامة في إسرائيل، وليس بين ثنايا المجتمع فحسب. حيث أصبح التيار الديني المتشدد يمثل ثقلًا نيابيًا في الكنيست، بعد أن حصلت الأحزاب الممثلة له على 31 مقعدا من ضمن مقاعد الكنيست الـ 120. حيث حصد حزب «البيت اليهودي» 8 مقاعد، وهو حزب ديني قومي متطرف، ينتصر غالبًا لغلاة المستوطنين. بينما نال حزب «شاس» 7 مقاعد، وهو حزب المتدينين «الحريديم» لليهود الشرقيين. أمّا حزب «يهودوت هتوراه» فقد حصل على 6 مقاعد، وهو الحزب الديني القومي الأكثر تشددًا، وحزب المتدينين المتزمتين «الحريديم» لليهود الغربيين «الأشكناز». وجاء حزب «كلنا» (كولانا) ليحصد 10 مقاعد، وهو الحزب الذي يجمع بين العقيدة الدينية القومية واليمينية المتشددة.
المذبحةنشأ باروخ جولدشتاين في مدينة بروكلين بنيويورك، وكان اسمه بنيامين، ويقول صديقه «أنتوني بيترسون» أنه غيّر اسمه خلال دراسته الجامعية الى اسم يهودي «باروخ». وينتمي جولدشتاين إلى عائلة أرثوذكسية متطرفة، وقد تلقى تعليمه في مدارس «يشيف الأرثوذكسية» في بروكلين، وخلال دراسته في المرحلة الثانوية بدأت عليه ملامح التعصب ضد العرب.درس الطب وعمل في مستشفى «بدوكريل» في بروكلين عام 1982. وكان دائم الترديد لعبارة من التلمود: «إذا كان عدوك يريد قتلك ابدأ أنت بذبحه». وفي عام 1983، هاجر جولدشتاين إلى «إسرائيل»، وعمل طبيبًا في الجيش، وعاش في مستوطنة «كريات أربع» في الخليل عام 1990.
وفي فجر يوم الجمعة في شهر رمضان الموافق 25 فبراير عام 1994، سمحت القوات الإسرائيلية التي تقوم على حراسة الحرم الإبراهيمي بدخول جولدشتاين إلى الحرم الشريف، وهو يحمل بندقيته الآلية وعددًا من خزائن الذخيرة المجهزة. وعلى الفور شرع جولدشتاين في حصد المصلين داخل المسجد. وأسفرت المذبحة عن استشهاد 60 فلسطينيًا فضلًا عن إصابة عشرات آخرين بجراح، وذلك قبل أن يتمكن من تبقَّى على قيد الحياة من السيطرة عليه وقتله.ولقد تردد أن أكثر من مسلح إسرائيلي شارك في المذبحة إلا أن الرواية التي سادت تذهب إلى انفراد جولدشتاين بإطلاق النار داخل الحرم الإبراهيمي. ومع ذلك فإن تعامل الجنود الإسرائيليين والمستوطنين المسلحين مع ردود الفعل التلقائية الفورية إزاء المذبحة التي تمثلت في المظاهرات الفلسطينية اتسمت باستخدام الرصاص الحي بشكل مكثف، وفي غضون أقل من 24 ساعة على المذبحة سقط 53 شهيدًا فلسطينيًا أيضًا في مناطق متفرقة ومنها الخليل نفسها.كان لمذبحة الحرم الإبراهيمي نتائجها وآثارها السيئة على الفلسطينيين، فبعد المجزرة تعطلت الحياة الفلسطينية العامة في العديد من الأحياء والأسواق القديمة، ومنها سوق الحسبة والذي استولى عليه المستوطنون كليًا، والسوق القديم (العتيق)، وسوق القزازين وخان شاهين وشارع السهلة والشهداء. كما تعطلت الدراسة في العديد من المدارس الفلسطينية التي تقع داخل البلدة القديمة في الخليل، بسبب أعمال العنف التي قام بها المستوطنون، وفرض نظام منع التجول، ومنع سلطات الاحتلال وصول المدرسين خلال تلك الأحداث.ومع فداحة الخسائر الفلسطينية وعظم المجزرة، إلا أنها لم تمر مرور الكرام على القائد المهندس يحيى عياش وقتها حيث كان مطارِدًا للاحتلال. فقد قرر عياش الثأر من الاحتلال وكان له ما أراد؛ فقام بسلسلة عمليات استشهادية أوجعت الاحتلال بوقوع العشرات من جنود ومستوطني الاحتلال.
جولدشتاين بطل قوميكافة المجتمعات الإنسانية هي عُرضة للتطرف، بكافة صوره ودرجاته، ولكن هناك مجتمعات تعاني من التطرف بشكل فردي استثنائي، بحيث تمتلك القدرة على مواجهته وتحجيمه، وهناك مجتمعات أخرى، تُساهم في صنع هذا التطرف، بل وترعاه وتدعمه.
ويمكن اعتبار المجتمع الإسرائيلي أحد هذه المجتمعات التي ترعى التطرف، وهو ما تجلى بوضوح في مذبحة الحرم الإبراهيمي، التي ما كانت أن تحدث، أو تخرج بهذه الصورة، لو دعم المجتمع للأصولية والتطرف. وفيما يلي الأحداث التاريخية والشواهد، التي تؤكد تورط المجتمع الإسرائيلي في مذبحة الحرم الإبراهيمي وليس باروخ جولدشتاين وحده:
- خلال الثمانيات، وأثناء خدمة جولدشتاين كطبيب بالجيش الإسرائيلي، قام مرارًا وتكرارًا بخرق نظام الجيش من خلال رفضه معالجة العرب، حتى الذين يخدمون في الجيش الإسرائيلي. وذكر أحد التقارير الصحفية التي نُشرت في أعقاب المذبحة؛ أنه بعد هجرة جولدشتاين إلى إسرائيل بوقت قليل، وتكليفه بالعمل في إحدى كتائب المدفعية العاملة في لبنان كطبيب، رفض علاج الأغيار، وصرّح قائلًا: «إنني لا أرغب في علاج أي شخص غير يهودي، فأنا لا أعترف سوى بسلطتين دينيتين ميمون وكاهانا (مائير كاهانا هو حاخام متطرف أسس جماعة إرهابية)».
- عندما أصبح واضحًا لقادة جولدشتاين رفضه لعلاج غير اليهود، أرادوا محاكمته وطرده من الخدمة، خاصة أنه تخرج من البرنامج العسكري للضباط الأطباء، ولم يحصل على تدريب ضابط مقاتل. ولكن فشل قادته في ذلك، حيث رُفض طلبهم نتيجة تمتع جولدشتاين بحماية أشخاص في مناصب عليا بالوزارات المهمة، والذين طلبوا أن يخدم جولدشتاين في «كريات أربع» بدلًا من الخدمة في كتيبة قتال.
- رغم سجل جولدشتاين العسكري الحافل بالمخالفات، فقد أظهر مقال نُشر في صحيفة «معاريف» الإسرائيلية في 8 مارس 1994، أن «سجل الخدمة العسكرية لجولدشتاين كان مميزًا بدرجة تجعله مؤهلًا لنيل ترقية شرفية؛ لينتقل من رتبة كابتن إلى رتبة ميجور، وقد كان من المقرر أن يمنحه رئيس إسرائيل هذه الترقية في 14 إبريل 1994، ولكن موت جولدشتاين في المذبحة منع ذلك».
- في أعقاب المذبحة، كان الخط الرسمي الإسرائيلي في التعبير عن الصدمة هو أن «ما حدث عمل فردي». وخلال الساعات الأولى بعد المذبحة، أصرت القيادة الإسرائيلية أن جولدشتاين؛ إمّا أنه مختل عقليًا، أو أنه طبيب مخلص، ولكن أصابه خلل عقلي مفاجئ، نتيجة تعرضه لضغوط ذهنية لا تُحتمل؛ لأنه كان مضطرًا لرؤية الكثير من الجرحى والقتلى، ومن بينهم عرب. وذكرت إحدى المقالات التي نُشرت في أعقاب المذبحة في صحيفة «يديعوت أحرونوت» أن «خلال ساعات تم بناء صرح من التبرير المنطقي، وبذلك، أصبح العرب مذنبين. ومعنى هذا أن العرب هم من اغتالوه، وأنه لم يغتالهم، وأنه تصرف لمصلحة العرب عندما جعلهم يدركون في النهاية أن الدم اليهودي لا يمكن أن يُسفك دون عقاب».
- يبدو أن ما فعله جولدشتاين كان مصدرا للفخر والاعتزاز في أغلب الأوساط الإسرائيلية؛ وهو ما يمكن ملاحظته من خلال التنظيم الرسمي لجنازة جولدشتاين التي رُتبت بعناية فائقة. كما أنه خلال اليومين اللاحقين على المذبحة، تمت تغطية حوائط الأحياء الدينية في القدس الغربية، وغيرها من الأحياء الدينية الأخرى، بالملصقات التي تمجد فضائل جولدشتاين، وتأسف لأنه لم يقتل المزيد من العرب. وقام أطفال المستوطنين اليهود الذي جاءوا إلى القدس بارتداء ملابس رياضية لمدة شهور بعد المذبحة كُتب عليها «جولدشتاين شفى أوجاع إسرائيل»، كما تحول العديد من الحفلات الموسيقية الدينية ومناسبات أخرى إلى تظاهرات لتحية جولدشتاين. وقامت الصحافة العبرية بتسجيل هذه الاحتفالات الشعبية بكافة تفاصيلها. ولم يقم أي سياسي بارز بالاحتجاج على هذه الاحتفالات.
- إسرائيل شاحاك ونورتونميزفينسكي، "الأصولية اليهودية في إسرائيل"، الجزء الثالث، ترجمة: ناصر عفيفي، (القاهرة: مكتبة الشروق الدولية، 2004).
- "الأصولية اليهودية"، موسوعة المسيري.
- عبد الرحيم البخاري، "عن الأصولية اليهودية وبعض رموزها"، موقع التقرير، 18 إبريل 2015.
- فريق التحرير، "الحريديم: عالم الأصولية اليهودية من الداخل"، موقع نون بوست، 26 مايو 2015.
- نادية سعد الدين، "سطوة اليمين: دلالات وتداعيات نتائج انتخابات الكنيست الإسرائيلي"، موقع السياسة الدولية، 24 مارس 2015.
- "اليوم ذكرى مذبحة الحرم الإبراهيمي"، موقع شبكة فلسطين للحوار، نوفمبر 2007.
- "مذبحة الحرم الإبراهيمي (25 فبراير 1994 – الجمعة الأخيرة في رمضان)"، موسوعة المسيري.
- "مذبحة الحرم الإبراهيمي"، موقع قصة الإسلام، 6 فبراير 2013.
- "مجزرة الحرم الإبراهيمي.. جريمة لا تسقط بالتقادم"، موقع المركز الفلسطيني للإعلام، 23 فبراير 2013.