نبوءة يسوع: أزمة أوكرانيا مزّقت أمة المسيح
في فبراير 2016م، وفي كوبا، التقى فرانسيس بابا الفاتيكان بكيريل بطريرك الكنيسة الأرثوذكسية الروسية حيث تبادلا إعلانًا مشتركًا بـ«الوحدة الدينية».
كان هذا أول لقاء بين قُطبي الكنيسة المسيحية من ألف عام، لذا عدّه الكثيرون خطوة تاريخية علّها تُصلح ذلك الشقاق التاريخي الذي شطر المسيحية إلى نصفين منذ عقود.
وعلى الرغم من تبنّي البابا فرانسيس لخطة طويلة الأمد لتحسين العلاقات مع الكنيسة الأثوذكسية الروسية منذ انتخابه عام 2013م، والتي بدأها بتوثيق علاقته ببرثلماوس الأول البطريرك المسكوني في القسطنطينية، والذي أعرب له في رسالة عن أمله في تحقق «الوحدة المسيحية ببركة الروح القدس».
وبالطبع كان فرانسيس يُمنّي نفسه بتحقيق المزيد من الانصهار بين أتباع المسيح، لكن يبدو أن هذا الحلم بات مستحيلاً هذه الأيام بسبب التباين الحاد في المواقف بين الفاتيكان والكنيسة الروسية، بشكلٍ أكّد البون الشاسع في وجهات النظر بين الطرفين بشكل قد يستعصي على الحل والصُلح مستقبلاً عقب انفضاض غبار المعارك.
الخلاف لم يبدأ اليوم ولا أمس
في عام 1054م وقع الانقسام المروّع في الكنيسة المسيحية كنتيجة مُرة للخلافات المتراكمة بين الشرق الإغريقي والغرب اللاتيني حول قضايا لاهوتية كانت رأس جبل الجليد من هوّة الخلافات العميقة بين مسيحيي غرب أوروبا وشرقها.
ومن وقتها تصاعد التراشق بين الكنيستين؛ القسطنطينية وروما، بلغ الخلاف بين مسيحيي الشرق والغرب ذروته عندما وقعت الحملة الصليبية الرابعة عام 1204م والتي استولت فيها الجيوش الكاثوليكية على القسطنطينية.
وبعد فتح السُلطان العثماني محمد الفاتح للقسطنطينية اعتبرت كنيسة موسكو نفسها وريثة شرعية لحق رعاية الأرثوذكس حول العالم بعد تضعضع مكانة الكنيسة الشرقية الأم، وبالتالي ورثت معها روح العداء التي صبغت بها مسيحيتها تجاه كل ما هو آتٍ من الغرب، وهو ما يفوح من كل خطابات البطريرك الروسي الحالي حتى هذه اللحظة.
هذا الميراث الكبير من عدم الثقة أحدَث المزيد من الانقسام داخل الأمة المسيحية بعدما تباينت مواقف قادتها بين مؤيدٍ أو معارض للحرب ولروسيا ولأوكرانيا.
الكنيسة الروسية: بوتين معجزة من الله
منذ اندلاع القتال، أيّد البطريرك كيريل بوتين على طول الخط ووصفه ذات مرة بأنه «معجزة من الله»، وهو ما ينسجم مع علاقتهما الشخصية الوطيدة، برّر كيريل الحرب بأنها «جزء من الكفاح ضد الخطيئة ولمقاومة الليبراليين الساعين لنشر المثلية في روسيا».
وبعكس فرانسيس، رفض كيريل القيام بأي دور دبلوماسي لحلحلة القضية بسبب قناعته بأن الغرب ارتكب خطأ فادحًا بإصراره على توسيع نطاق حلف شمال الأطلسي شرقًا بشكل يمثّل تهديدًا فادحًا لأمن روسيا.
ويخضع للكنيسة الروسية الأرثوذكسية قرابة 150 مليون مواطن، وهو ما يمثل قرابة نصف المسيحيين الأرثوذكس في العالم، ما يجعلها رقمًا لا يُستهان به أبدًا في أي معادلة حل سياسية للأزمة الأوكرانية.
ويعيش في أوكرانيا قرابة 30 مليون أرثوذكسي، كما توليها الكنيسة الروسية أهمية عميقة بِاعتبار أراضيها «مهد الحضارة الروسية».
ولهذا تمثّل مواقف كيريل المؤيدة للعدوان صدمة ليس فقط لأتباع الكنيسة في روسيا وإنما في أوكرانيا ذاتها، فالعديد من الكنائس الأرثوذكسية الأوكرانية تعتبر نفسها تابعة روحيًّا للكنيسة الروسية، وهو ما دفع العديد من القساوسة الأوكرانيين لتجاهل الإشارة إلى البطريرك كيريل في صلواتهم وعِظاتهم الحالية، كما طالَب البعض بإعلان الاستقلال التام عن كنيسة موسكو، وهي خطوة -إن حدثت- ستمثّل شقّاقًا إضافيًّا في بنية العلاقات المسيحية الأوروبية.
فبهذه الخطوة لن يقتصر الصدع على الخلاف المعتاد بين الكاثوليك والأرثوذكس، وإنما سيمتدُّ إلى البيت الأرثوذكسي الأوروبي ذاته.
وبحسب تقارير إعلامية، فإن 15 أبرشية أرثوذكسية أوكرانية حذفت اسم البطريرك الروسي من صلواتها، وهو ما أكده القس ميكولا دانيلفيتش، الذي شغل منصب المتحدث باسم الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية حين صرّح بأن «العديد من الكهنة توقفوا عن استعمال اسم البطريرك كيريل خلال عبادتهم».
ومن جانبه انتقد القس سيريل هوفورون، أستاذ العلاقات الدولية والحركة المسكونية في جامعة كوليدج ستوكهولم، تصريحات كيريل قائلاً إنها «أظهرته كما لو أنه يعيش في قفص ذهبي»، ثم أضاف «كيريل وفّر الدعم الأيدولوجي الذي استخدمه بوتين للهيمنة على المنطقة مقابل الدعم الحكومي الذي تلقّاه كيريل طيلة فترة الحرب».
هذا الصدع لم يتوقف على أوكرانيا فقط وإنما بدأ يظهر في أوروبا الغربية أيضًا، بعدما أعلنت كنيسة هولندية تابعة للبطريركية الأرثوذكسية الروسية أنها ستقطع العلاقات مع كنيسة موسكو، معتبرة أن هذا الارتباط «لم يعد قادرًا على توفير بيئة روحية للمؤمنين».
وهنا يجب التأكيد على أن هذه لن تكون أول مرة تثير أوكرانيا فيها شقاقًا من هذا الحجم في البيت المسيحي الأرثوذكسي، ففي عام 2018م قطعت الكنيسة المسيحية علاقتها بنظيرتها في القسطنطينية بعدما أعرب البطريرك بارثولوميو الأول عن اعتزامه الاعتراف بالكنائس الأوكرانية التي سترغب في الاستقلال عن المرجعية اللاهوتية الروسية.
وهو الحدث الذي لم يتردد قادة الكنائس الأوكرانية في اعتباره «جزءًا من الاستقلال الذاتي للبلاد، وضمن الإستراتيجية العليا لأوكرانيا المؤيدة لأوروبا».
وفي بيان حاد انتقدت الكنيسة الروسية ما أسمته بـ«زحف البطريركية القسطنطينية على الأراضي الكنسية التابعة لروسيا» وأعلنت قطع علاقتها بالبطريركية بسبب «قراراتها الحمقاء ذات الدوافع السياسية»، كما اعتبر الروس أن تلك الأحداث تنبأ بها يسوع المسيح حينما تحدث عن ازدياد الشر في العالم الذي ستبرد فيه المحبة من قلوب الناس (متى 24:12).
الفاتيكان: نصلّي لأجل أوكرانيا
عادة ما ينأى باباوات الفاتيكان بأنفسهم عن التعليق بشكلٍ مُباشر على الأحداث العامة، ولعل أشهر مَن فعل ذلك بيوس الثاني عشر بابا الفاتيكان خلال الحرب العالمية الثانية، والذي تجنّب خلالها انتقاد هتلر وستالين وموسوليني بشكلٍ مباشر، وإنما التزم بخطابات عامة تندّد بالحروب وأهوالها وتدعو الجميع لقسم التسامح والإخاء.
وهو التقليد الذي تجاوزه البابا فرانسيس -قليلاً- حينما انسجم موقف الفاتيكان مع المجموعة الأوروبية الغربية التي رفضت الغزو بشكلٍ قاطع منذ اللحظات الأولى لوقوعه، آخرها ما صرّح به البابا فرانسيس منذ أيام حينما انتقد «الإساءة الفادحة لاستخدام السُلطة» في روسيا، ودعا بوضوح إلى مساعدة الأوكرانيين الذين يدافعون عن أرضهم ويتعرضون لهجوم بربري بسبب رغبتهم في الحفاظ على «هويتهم وتقاليدهم وتاريخهم».
ومرة أخرى تعرّض البابا فرانسيس في خطابه الأسبوعي للجمهور والذي دعا فيه للصلاة من أجل أوكرانيا والدعاء إلى الله لحماية أطفالها ولطلب المغفرة لمن شنّوا تلك الحرب.
كما سبق وأن أُعلن عن قيام البابا فرانسيس ببعض الاتصالات الديبلوماسية فور وقوع الحرب مثل زيارته للسفير الروسي واتصاله هاتفيًّا بالرئيس الأوكراني، وأيضًا هاجَم البابا فرانسيس نظيره الروسي بشكلٍ غير مباشر حينما صرّح بأن مَن يُبرّر العنف بِاسم الدين «يُدنس اسم الله».
ورغم هذه التصريحات المتتالية فإن فرانسيس امتنع عن تسمية بوتين أو روسيا في أحاديثه كآخر بقايا إرث الحياد البابوي الأزلي في جهوده لمتابعة الحرب.
حينما التقى الرجلان ماذا جرى؟
يوم الأربعاء الماضي، اشترك البابا فرانسيس مع البطريرك كيريل في لقاءٍ عبر تقنية الفيديو، ووفقًا للتسريبات الصحفية فإن كيريل تعرّض لتقريع من جانب البابا فرانسيس الذي أخبره أن «مفهوم «الحرب العادلة» (الذي استعمله الروس لتبرير الغزو) قد عفا عليه الزمن، لأن الحروب لا يُمكن تبريرها أبدًا، وأن القساوسة يجب أن يُبشروا بالسلام وليس بالسياسة.
وبحسب بيان الفاتيكان عن فحوى ذلك اللقاء، فإن الرجلين اختتما لقاءهما بالاتفاق على «عدم استخدام لغة السياسة وإنما لغة المسيح»، والعمل سويًّا على تشجيع مفاوضات وقف إطلاق النار.
وهو ما ردَّ عليه كيريل بخطبة وعظية طويلة حول أن الهدف الأساسي من تلك الحرب هو إعادة توحيد الشعبين الروسي والأوكراني، اللذين خرجا من «معمودية واحدة» على حدِّ تعبيره.
بعض رجال الدين الكاثوليك اعترضوا على هذا اللقاء بالأصل، أبرزهم أسقف أبرشية أوديسا -تقع داخل أوكرانيا- وطالبوا البابا فرانسيس بأن يكون أكثر حزمًا مع الكاردينال المؤيِّد للحرب.
وبغضِّ النظر عن مدى احتمالية اتّخاذ البابا هذا الموقف أم لا، لكن المؤكد أن الأزمة الأوكرانية قسمت العالم بأسره حولها، وهو ما فعلته بشدة في المسيحية، الأمر الذي يؤكد أن أماني البابا فرانسيس بتوحيد الكنائس بأسرها معًا تحت راية واحدة أصبح من المحال، وبلا شك فإن الاجتماع الذي كان مخططًا له أن يتم بين فرانسيس وكيريل هذا العام لن يتمّ أبدًا.