قانون أملاك الغائبين: القدس ينتفض ضد إستراتيجية التهويد
مئات المصابين الفلسطينيين سقطوا في باحات المسجد الأقصى، في مواجهات مع قوات الاحتلال الإسرائيلي هي الأعنف منذ انتفاضة الأقصى عام 2000، في ظل تضامن الرأي العالمي مع القضية الفلسطينية، بشكل غير مسبوق منذ دخولنا عصر السوشيال ميديا.
فقد بلغ المشهد ذروته في العاشر من مايو/أيار 2021، حينما اقتحمت قوات الاحتلال باحات المسجد الأقصى في محاولة إجلاء المقدسيين المعتصمين، ودخلت المقاومة الفلسطينية في غزة على خط المواجهة في تمام السادسة مساء نفس اليوم، حين أطلقت ما يقرب من 30 صاروخًا تجاه مستوطنات إسرائيلية، ما يمهّد –ربما- لحرب إسرائيلية جديدة ضد القطاع.
أمّا البداية فكانت من حي «الشيخ جرّاح»… وهو أحد أهم أحياء الجانب الشرقي من البلدة القديمة في مدينة القدس، احتلته إسرائيل عام 1967، وتسعى -منذ ذلك الحين- أن يكون الحي رأس حربة مخططاتها التهويدية والاستيطانية للقدس، فهو بوابة لباقي الأحياء، والاستيلاء عليه يعني تسهيل السيطرة على باقي أحياء القدس، ما يعني تفتيت المجتمع المقدسي وتذويبه وجعله أقلية.
وقد شهدت شوارع حي الشيخ جراح مواجهات عديدة بين فلسطينيين ومستوطنين صهاينة في الأيام القليلة الماضية، على خلفية دعوى قانونية طويلة الأمد ضد عائلات فلسطينية تواجه خطر الإخلاء من منازلها المقامة على أراض يُطالب بها مستوطنون بغير حق.
مشروع «الحوض المقدس»
يقع حي الشيخ جرّاح خارج أسوار البلدة القديمة في القدس مباشرة بالقرب من باب العامود الشهير، وتضم المنطقة العديد من المنازل والمباني السكنية الفلسطينية.
ومنذ عام 1967، ركزت سياسات الاحتلال الإسرائيلية في مدينة القـدس المحتلة على إستراتيجيتين مركزيتيــن: تمثلت الأولى في تعزيـز وجـود أغلبيـة يهودية في المدينة عـن طريـق إنشـاء المستوطنات، فيما ســعت الثانية إلى تحقيــق نفـس الهـدف عـن طريق الحد من النمـو السـكاني الفلســطيني وتقليـص أعدادهم باســتخدام سياســات مُمنهجــة تهدف إلى تهجير الفلسـطينيين بالقوة من مدينة القدس أو إعاقة تنمية وتطوير المجتمع الفلسطيني، بما يشمل سياسة الفصل المكاني الذي يعمل على عزل الأحياء والمناطق الفلسطينية عن بعضها البعض، مما سـيؤدي فـي نهايـة الأمر إلـى إلغـاء الوجـود الفلسطيني من القدس والحد من النمو السكاني الفلسطيني فيها.
ويعتبر زرع البؤر الاسـتيطانية في مناطق محورية داخل الأحياء الفلسطينية أحد أهم العناصر الرئيسـية للإسـتراتيجية الأولى التـي تتبعها سـلطات الاحتــلال في القدس المحتلة، حيث قامت حكومات الاحتلال المتعاقبة بدعم جهــود المنظمات الاســتيطانية فــي الاستيلاء على الأراضي والممتلـكات الفلسطينية داخـل هـذه الأحيـاء، باسـتخدام أساليب متنوعة منهـا نقـل ملكية الأراضي والممتلـكات التي تصادرهــا سلطات الاحتلال لصالح جماعات استيطانية.
ولذلك لم يتوقف الاحتلال عن استهداف حي الشيخ جرّاح، فمنذ بداية سبعينيات القرن الماضي، تحاول الجمعيات الاستيطانية ما تسميه «استعادة ملكية» العقارات التي كانت تسكنها عائلات يهودية قبل النكبة. وبالمقابل، لا يُسمَح للفلسطينيين اللاجئين في الشيخ جرّاح بالمطالبة بأملاكهم التي أُجبروا على إخلائها عام 1948. ونظرًا للموقع الإستراتيجي للحي، بذلت جماعات المستوطنين جهودًا كبيرة في الأعوام الأخيرة من أجل السيطرة على الأراضي والممتلكات لإقامة مستعمرات جديدة في الحي.
وقد توالت مشاريع الاستيطان في الحي، وكلها تسعى لتحقيق الهدف ذاته، وهو تطويق البلدة القديمة بالاستيطان، وفصلها عن امتدادها الشمالي، ومنع اتصال الأحياء الفلسطينية واختراقها بامتداد استيطانيٍ طويل يبدأ من الجامعة العبرية شرقًا حتى يتصل مع شارع رقم 1 وأطراف غرب القدس.
وفي التسعينيات، طرحت بلدية الاحتلال في القدس مشروع تهويد المنطقة، الذي يُسمى بمشروع «الحوض المقدس»، ويشمل البلدة القديمة بكاملها وأجزاء واسعة من الأحياء والضواحي المحيطة بها، ومنها حي الشيخ جرّاح. ومنذ عام 2001، هناك تدفق واضح للمستوطنين إلى الحي، تنفيذًا لمشروع الحوض المقدس، وقد نجحوا في الاستيلاء على عدد من البيوت وإخلاء سكانها.
«قانون أملاك الغائبين»
خلال الفترة القريبة الماضية، زاد –بشكل كبير- حجم المضايقات من الجمعيات الاستيطانية الصهيونية، بدعم من حكومة الاحتلال، ونتيجة لذلك، فَقَدَ أكثر من 60 فلسطينيًا بيوتهم، ولا يزال هناك نحو 500 آخرون مُهددون بالطرد بالقوة، ونزع الملكية والتهجير.
فبعد إنشاء حي الشيخ جرّاح المقدسي عام 1956 بناءً على اتفاقية وُقِّعت بين الحكومة الأردنية ووكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) مع 28 عائلة فلسطينية لاجئة، بغرض توطينهم بعد أن هُجِّروا من أراضيهم الواقعة في الداخل المحتل عام 1948 إبان النكبة، وذلك مقابل نزع صفة اللجوء عنهم وحرمانهم من حق العودة وسحب ما يُعرَف بـ «بطاقات التموين» منهم.
وكان من ضمن بنود هذه الاتفاقية حينها، هو البند رقم 11، الذي قضى بأنه بعد مرور 3 أعوام من سكن هذه العائلات اللاجئة في حي الشيخ جرّاح، ستصبح البيوت التي سكنوها ملكًا لهم، على أن تدفع العائلات أجرة رمزية لحين إتمام البناء وتسجيل الملكية بأسمائهم، لكن ذلك لم يحدث أبدًا.
فبعد احتلال القدس عام 1967 وإعلان الاحتلال ضم الجزء الغربي منها، قامت محكمة الاحتلال بسن قانون حرمت بموجبه الفلسطينيين المقيمين في حي الشيخ جرّاح من حقوقهم التي منحتها الحكومة الأردنية -الوصية آنذاك على القدس ومقدساتها- وما زالت تواجه العائلات الـ 28 إجراءات قانونية في مراحل مختلفة.
كما أصدر الاحتلال «قانون أملاك الغائبين»، والذي –بموجبه- صادرت أملاك الفلسطينيين الذين كانوا خارج المدينة أثناء احتلالها، من أراضٍ وعقارات وأموال، لتستغلها لاحقًا بالصورة التي تخدم بها تهويد المدينة، أو تحويل بعض هذه الأملاك لإسكان المستوطنين. فحكومة الاحتلال الإسرائيلي لا تعترف بقانونية الاتفاقيات التي وقّعت عليها الحكومة الأردنية مع المواطنين الفلسطينيين عام 1956، وتعتبر إسرائيل أن الأهالي يسكنون في الحي دون وجه حق، بذريعة أن ملكية الأرض التي أُقيمت عليها هذه البيوت تعود تاريخيًا لجهات يهودية كانت هناك منذ زمن العثمانيين.
وترفض المحاكم الإسرائيلية النظر بقضية الملكية رغم وجود الدلائل بأنها لا تعود للجهات اليهودية، وقد رفضت البت في هذا الملف بدعوى وجود تقادم، وبأن التسجيل قديم ولا يمكن الاعتراف به الآن، لتبقي العائلات المقدسية بدون دفاع قانوني يُمكّنها من البقاء.
ومنذ عام 2009، أخلت سلطات الاحتلال ثلاث عائلات فلسطينية من منازلها في حي الشيخ جرّاح، لصالح المستوطنين اليهود. وفي أواخر أكتوبر/تشرين الأول 2020، أصدرت «محكمة صلح الاحتلال»، غربي القدس، قرارين بإخلاء 7 عائلات فلسطينية من الحي، لصالح جمعيات استيطانية، وتنوي الآن إخلاء بقية العائلات.
ورفضت المحكمة استئناف تلك العائلات، وأصدرت في فبراير/شباط 2021 قرارًا ضد أربع عائلات، وفرضت عليهم تنفيذ الإخلاء في مهلة أقصاها مطلع مايو/أيار 2021، فيما أمهلت ثلاث عائلات أخرى حتى أغسطس/آب 2021 لإخلاء منازلها.
وبهذا فإن سلطات الاحتلال تسعى إلى خلق واقع سياسي وديموغرافي جديد في مدينة القدس، فالديموغرافية الإسرائيلية كانت على حساب الجغرافيا الفلسطينية من خلال مصادرة الأراضي، وبناء المستعمرات ومناطق خضراء، وسياسة هدم البيوت ورفض منح تراخيص البناء. وقد أدت مجمل هذه الانتهاكات الإسرائيلية بحق الأرض والشعب الفلسطيني إلى خلق خلل ديموغرافي، لاستخدامه كوسيلة للضغط في أية مفاوضات مع الطرف الفلسطيني لإنجاز اتفاقيات تخدم المصالح الإسرائيلية.
عمليات نوعية تُشعِل المقاومة الشعبية
على الرغم من أن سلطات الاحتلال الإسرائيلي لم تكف أبدًا عن فرض إجراءاتها العسكرية والأمنية والسياسية والتشريعية، بهدف بسط سيطرتها على جميع مناحي الحياة المقدسية، إلا أن الفلسطينيين في المدينة لم يتوقفوا عن مقاومة الاحتلال قدر استطاعتهم، وحسب الوسائل والأساليب المتاحة لهم.
فبعد أن تصاعدت الأحداث في حي الشيخ جرّاح خلال الأسابيع الماضية على نحوٍ مفاجئ، في ظل تحضير إسرائيلي لإخلاء منازل فلسطينية من أهلها وترحيلهم، شهد الحي مواجهات وصدامات هي الأعنف منذ انتفاضة الأقصى عام 2000، في ظل تجدد الاقتحامات من المستوطنين وأعضاء الكنيست الإسرائيلي للحي، وقعت اشتباكات مباشرة بالحجارة مع الأهالي، ما تسبّب في إصابات بصفوف الفلسطينيين والمتضامنين.
ومنذ بداية الاشتباكات وأهالي القدس يُظهِرون تطورًا نوعيًا في تصديهم لقوات الاحتلال، فحسب وسائل إعلام عبرية، وصل ثلاثة فلسطينيين ومعهم بنادق «كارلو»، وفتحوا النار باتجاه الجنود، الذين ردوا عليهم وقتلوا اثنين على الأقل.
وقد أكدت صحيفة «يديعوت أحرونوت» أن المقاومين الثلاثة، الذين أطلقوا النار تجاه قوات الاحتلال، على حاجز سالم قرب جنين، كانوا في طريقهم إلى الداخل الفلسطيني المحتل، مشيرةً إلى أنهم على ما يبدو خطّطوا لتنفيذ عملية فدائية كبيرة بالداخل المحتل. وبحسب الصحيفة العبرية، فإن الشبان كانوا على متن حافلة صغيرة تحمل لوحة تسجيل إسـرائيلية، وكانت تقل شبانًا فلسطينيين لا يحملون التصاريح بطريقهم إلى وسط فلسطين المحتلة. ولم تكن هناك أية معلومات مُسبقة عن هذه الحافلة. وتشير التحقيقات إلى أن سائق الحافلة لم يعرف عن حيازة الشبان للأسلحة.
وقد نشرت صحيفة «معاريف» الإسرائيلية أنه، منذ أعوام، لم تشهد الضفة ظهور خلايا تهاجم معسكرات جيش الاحتلال بالأسلحة في وضح النهار، واصفةً إياه بتطور عملياتي خطير.
كما تم صباح الخميس 6 مايو/أيار 2021، اعتقال فلسطيني يُدعى منتصر شلبي قرب مدينة رام الله وسط الضفة الغربية، مُتهمةً إياه بتنفيذ عملية إطلاق نار وقعت قرب حاجز «زعترة» العسكري جنوبي نابلس، شمال الضفة الغربية. وقبل إعلان إسرائيل نبأ اعتقال شلبي بفترة وجيزة، توفي إسرائيلي، متأثرًا بإصابته خلال عملية إطلاق النار المذكورة. وبعد إعلان إسرائيل اعتقال منتصر شلبي، تفاعل رواد التواصل الاجتماعي مع شلبي، وما قام به، كما وجهت حركة حماس له التحية، واصفةً إياه بـ «أيقونة المقاومة الفلسطينية». فقد جاء هذا الهجوم جاء بعد فترة من الهدوء التي غابت عنها مثل هذه الهجمات عن الضفة الغربية.
ويرى مراقبون أن «سيناريو الفوضى» الذي كان متوقعًا حدوثه بدأ الآن يُترجم على الأرض بوتيرة أسرع مما كانت تتوقعه إسرائيل، فعملية نابلس أحدثت زلزالاً في مؤسستها الأمنية والعسكرية، نظرًا لأن موقع العملية يُعد من أكثر الحواجز تحصينًا وانتشارًا مقارنةً بباقي مناطق التماس، كما أن جرأة المنفذين في إطلاق النار بشكل مباشر على رؤوس المستوطنين من مسافة صفر دفعت «الشاباك» إلى إعادة النظر في التقدير الأولي الذي كان يشير إلى أن منفذي العملية تحركوا من تلقاء أنفسهم وهم غير منظمين في فصائل مسلحة.
وتأتي خشية إسرائيل من أن تكون حادثة إطلاق النار في نابلس حافزًا لتكرار مثل هذه العمليات نظرًا لحالة الغضب الشعبي لما يجري في مدينة القدس، مما يُعزِّز فرص الانتقام لدى الشباب الفلسطيني، كما أن إسرائيل في هذا التوقيت غير مستعدة للتعامل مع سيناريو اشتعال الضفة الغربية، كما حدث في الأعوام الأخيرة، نظرًا لأولوياتها في الجبهة الشمالية التي استنزفت قدرات الجيش والاستخبارات.
وكانت صحيفة «معاريف» العبرية، قد أكدت على وجود حالة من الخوف والقلق المتصاعد لدى جهاز الأمن الإسرائيلي، من حدوث تصعيد مع قطاع غزة بسبب المواجهات في حي الشيخ جرّاح بمدينة القدس المحتلة، رفضًا لطرد الفلسطينيين من بيوتهم لصالح المستوطنين. وذكرت الصحيفة أن «أوساطًا في جهاز الأمن تصف الأيام القريبة القادمة، بأنها متوترة جدًا وذات إمكانية كامنة للتصعيد، حيث تواصل القدس كونها بؤرة اشتعال من شأنها أن تؤدي لتصعيد في قطاع غزة الذي تديره حركة حماس».
ورأى جهاز الأمن الإسرائيلي أن تصريح قائد الذراع العسكري لحماس «محمد الضيف»، وهو نادرًا ما يُلقي تصريحات، هو مؤشر خطير على مستقبل الأيام القادمة، حيث أكد الضيف أنه يتابع عن كثب الأحداث في الشيخ جرّاح، وهدّد بأن الذراع العسكرية لحماس «لن تقعد مكتوفة الأيدي».
وبالفعل، في 10 مايو/أيار، قال أبو عبيدة، الناطق باسم كتائب القسام، في بيان مقتضب:
وما إن وصلت الساعة إلى السادسة مساءً، حتى أطلقت سرايا القدس نحو ٣٠ صاروخًا باتجاه مدينة سديروت المحتلة، وردت قوات الاحتلال الإسرائيلي بغارات على غزة، خلّفت عشرات الشهداء ومئات الجرحى.
ويبدو أن المشهد يتجه إلى مواجهة عسكرية –قد تكون محدودة- في غزة، وربما شهد انتفاضة شاملة في القدس، وقد تمتد إلى كافة ربوع فلسطين.