جيف هال: «لاعب الكرة» الذي أنقذ بريطانيا من شلل الأطفال
عام 1988، أطلقت جمعية الصحة العالمية قرارًا يهدف إلى استئصال مرض شلل الأطفال بتاتًا من العالم كله، بقيادة الحكومات الوطنية ومنظمة الروتاري الدولية والمراكز الأمريكية لمكافحة الأمراض والوقاية منها.
تُشير إحصائيات منظمة الصحة العالمية إلى أنه منذ ذلك الحين انخفضت معدلات الإصابة بشلل الأطفال في أرجاء العالم كافة بنسبة 99%، كما انخفضت حالات الإصابة بشلل الأطفال البري بنسبة تزيد على 99%.
شلل الأطفال هو مرض فيروسي شديد العدوى يغزو الجهاز العصبي، ويمكن أن يحدث شللاً تاماً في غضون ساعات من الزمن. يصيب هذا المرض الأطفال دون سن الخامسة بالدرجة الأولى، ولكنه يمكن أن يصيب أي شخص غير ملقح ضده بصرف النظر عن عمره.
فضل آخر بعد مبادرة الصحة العالمية في التوعية ضد هذا المرض، والحث على ضرورة أخذ جرعات اللقاح يعود إلى كرة القدم، فكيف ذلك؟
البداية من ويلسدن
تبدأ القصة بميلاد طفل يُدعى«جيف هال»، في قرية في أقاصي إنجلترا تُسمى «ويلسدن»، حيثُ درس جيف دراسته الأولية، قبل أن ينتقل لدراسة النجارة في مدرسة بينجلي التقنية الثانوية.
فتى متعدد المواهب يعزف الموسيقى، لدرجة أن والده نصحه باحترافها، لكن نداهة كرة القدم دعته، فما كان منه إلا أن يلبي النداء.
عزف جيف الموسيقى هذه المرة على أرضية الميدان، تارةً مع فرق المدرسة، وأخرى مع فرقة الجيش، في انتظار فرصة حقيقية للانطلاق نحو كرة القدم الحقيقية.
عام 1951، أتت الفرصة على يد أحد كشافي فريق «برمنغهام سيتي»، الذي كان يلعب حينها في دوري الدرجة الثانية، سُجل جيف في فريق الشباب على الفور بعد اليوم الأول للاختبارات، وظلَّ لمدة عامين يلعب في مركز الوسط، إلى أن تم تصعيده للفريق الأول، ونقله لمركز الظهير الأيمن.
نحو المجد من جديد
عام 1953 عاد «برمنغهام» مرة أخرى إلى دوري الأضواء، وتحت نور الدوري الإنجليزي لمع جيف بسبب شخصيته المحبوبة، وسلوكه المهذب، وقبل كل ذلك بسبب تألقه في مركز الظهير الأيمن.
في موسم 1955-1956، كان جيف أحد العناصر الرئيسية التي قادت برمنغهام إلى تحقيق المركز السادس في الدوري في إنجاز تاريخي حينها، وكذلك لنهائي كأس الاتحاد الذي خسره برمنغهام بنتيجة 3-1 أمام مانشستر سيتي، وعلى الرغم من الخسارة، كان جيف هو محرز هدف فريقه الوحيد في النهائي.
أدى تألق جيف إلى انضمامة لمنتخب إنجلترا، حيث شارك معهم في 17 مباراة دولية.
ولعلك الآن تتساءل عن دخل هذه القصة بشلل الأطفال؟ دعنا نجيبك.
لحظة وقوع الكارثة
في 21 مارس/ آذار 1959 كان برمنغهام على موعد مع فريق بورنسموث خارج ملعبه في إحدى جولات الدوري الإنجليزي.
في الليلة التي سبقت المباراة اشتكى هال من صعوبة في البلع. لم يكن هناك أي شيء سيئ بشكل ملحوظ في أدائه في اليوم التالي. لكن بعد المباراة، ظهر جيف –وفقًا للصحفي «دينيس شو» في سيرته الذاتية- بوجه شاحب، ذي عيون دامعة، ومرهق.
بعد المباراة، تم نقله إلى المستشفى، وتشخيص إصابته بشلل الأطفال على الفور، في كارثة هزت جموع الوسط الرياضي في إنجلترا كلها.
تم وضع اللاعبين من كل من برمنغهام وبورتسموث على الفور في الحجر الصحي، وأولئك من الأندية الأخرى الذين لعبوا معهم في الأسابيع السابقة.
تم وضع جيف على أجهزة تنفس، لكنه كان في حالة صحية حرجة، حيث غاب عن الوعي تدريجيًا، ثم توفي في الرابع من أبريل/ نيسان 1959، وهو في الـ29 من عمره فقط.
أقيمت جنازته في ويلسدن، ودفن هناك حيثُ كانت نشأته الأولى. رحل جيف وترك العالم بأثره في محاولة استيعاب هذه الصدمة، ولسان حال الجميع إن كان ذلك قد حدث لرياضي يلعب في هذا المستوى، فما بال البقية؟
قبل وفاة جيف
بحلول عام 1956، كان لقاح شلل الأطفال متاحًا، لكن تناوله كان بطيًئا للغاية. في البداية تم تقديمه للأطفال فقط، ثم بعد ذلك تم طرح اللقاح للبالغين، لكنه من بين ستة ملايين شخص مؤهل لأخذ اللقاح، حصل عليه 40 ألف شخص فقط.
أتى عزوف الناس عن أخذ جرعات اللقاح، كان بسبب انتشار المرض في الولايات المتحدة بعد تكثيف جرعات اللقاح.
وفقًا لموقع «Football 365»، فإنه كان من المنتشر حينها أن التمارين الرياضية الشاقة يمكن أن تساعد في نشر الفيروس في جميع أنحاء الجسم. تكاثرت الإشاعات والصخب حول الأمر؛ لذا كان هناك اهتمام كبير جدًا بين عموم الناس، وليس متتبعي كرة القدم فقط لحالة جيف.
كانت وفاة جيف هي نقطة التحول في وجهة نظر الشعب الإنجليزي، ومنه إلى باقي دول العالم تباعًا حول أهمية اللقاح.
داون تغير الدفة
قادت«داون هال» أرملة جيف حملة شرسة تدعو فيها الجميع للتوجه لأخذ اللقاح، وكان للمقابلة التلفزيونية الشجاعة التي أجرتها للحديث حول هذا الموضوع تأثير كبير جدًا. ففي غضون أسبوعين ظهرت تقارير تفيد بأن مخزونات اللقاح بدأت في الانخفاض، وكان لا بد من تعليقها في بعض أجزاء البلاد.
بدأت الصحف المحلية في برمنغهام بالإبلاغ عن زيادة كبيرة في عدد الأشخاص الذين حصلوا على لقاح شلل الأطفال في غضون أيام من وفاة جيف، وفي الأسبوع التالي لوفاته تمت قراءة رسالة مكتوبة مسبقًا من وزير الصحة «ديريك ووكر سميث» يحث كل الأشخاص الذين تقل أعمارهم عن 26 عامًا على الحصول على التطعيم دون تأخير.
كانت كرة القدم آنذاك رياضة للطبقة العاملة في الغالب، ووصلت الرسالة إلى المدرجات في المباريات، وكانت تلك الرسالة شديدة اللهجة: «مهما كانت مخاوفك بشأن اللقاح، فإن البديل قد ينتهي به الأمر مثل جيف هال».
تغير عالمي
وفقًا لمنظمة الصحة العالمية لا يوجد علاج لشلل الأطفال، فاللقاح هو الخيار الوحيد للوقاية، لكنه لم تذهب وفاة هال سدى.
من المستحيل تحديد عدد الأرواح التي ربما تم إنقاذها من خلال اندفاع الناس لأخذ التطعيم الذي أعقب وفاته، ولكن من المحتمل أن تكون الإجابة بالملايين داخل وخارج إنجلترا.
قبل تقديم اللقاح، كان وباء شلل الأطفال يؤدي إلى ما يصل إلى 7760 حالة شلل لأطفال في المملكة المتحدة كل عام، وما يصل إلى 750 حالة وفاة. كان موسم شلل الأطفال ظاهرة طبية معروفة في العالم كله.
ربما كانت معجزة تخفيض هذا العدد إلى الصفر هي شهادة على قوة اللقاحات، وإلى الحملات الإعلانية التي لم تكل في الترويج لها، لكن كل هذه الحملات كانت تدور حول جيف، فالترويج للقاح عن طريق أن لاعب كرة قدم محترف لم تكن حياته لتنتهي لو تمكن من تناولها، كان كفيل بدفع عموم الناس للإسراع في تناول اللقاح.
لقد أنقذت حملة داون للتطعيم ضد شلل الأطفال عددًا لا يحصى من الأرواح ليس فقط في إنجلترا وإنما في العالم أجمع، وهو ما استدعى تكريمها بميدالية الإمبراطورية البريطانية قبل وقت قصير من وفاتها في عام 2016.
وفقًا لمنظمة الصحة العالمية، في عام 1994، تم إعلان خلو الأمريكتين من شلل الأطفال، وتبعه إقليم غرب المحيط الهادئ في عام 2000، ثم إقليم المنظمة الأوروبي في حزيران/ يونيو 2002.
وفي 27 مارس/ آذار 2014، تم إعلان خلو إقليم جنوب شرقي آسيا التابع للمنظمة من شلل الأطفال، ويعني ذلك وقف سريان فيروس شلل الأطفال البري في هذه المجموعة المكونة من 11 بلداً والممتدة من إندونيسيا إلى الهند.
وفي عام 2020، أصبح الإقليم الأفريقي خامس إقليم يُشهد على خلوه من فيروس شلل الأطفال البري.
كانت موت جيف هال مأساويًا، لكننا لن نبالغ إذا قلنا إنه كان إحدى اللحظات التي تغير عندها تاريخ البشر، وكان شاهدًا أيضًا على أن كرة القدم كانت فاعلاً رئيسيًا في تاريخ البشر منذ نشأتها، بل وكانت أحيانًا كثيرة هي نقطة التحول في هذا التاريخ من الظلام إلى النور.