دونالد ترامب، الرئيس الأكثر غرابة من بين الرؤساء الأمريكيين، يقضي عطلة رأس السنة في أجواء هادئة، على وقع الإغلاق الحكومي، يشتري بعض الوجبات السريعة ويشاهد مع ابنته إيفانكا وزوجها جاريد كوشنر بعض حلقات المسلسل الأمريكي ذائع الشهرة House Of Cards. لكنه بدلًا من أن ينهي ليلته في هدوء كما بدأها، يقرر قرع طبول الحرب؛ لقد تشرب ترامب بعضًا من ألاعيب فرانك أندروود، وجد فيها الدواء لكل داء تورط فيه.

جيف بيزوس، الرجل الذي تصنفه فوربس كأغنى رجل في العالم، فاجأ العالم مطلع هذا العام بخبر طلاقه من زوجته، بعد زواجٍ دام 25 سنة. الطلاق الفجائي جاء بناء على رسائل نصية حميمية تسربت، لبيزوس مع المذيعة السابقة لورين سانشيز. إلى هنا يبدو الأمر شخصيًّا تمامًا، لكن ما هو غير شخصي أن بيزوس، مالك واشنطن بوست، النافذة الإعلامية الأكثر شراسة في الهجوم على الرئيس الأمريكي دونالد ترامب،كشف في تدوينة له، نشرها على موقع Medium مساء أمس، عن عملية ابتزازٍ تعرض لها، متعجبًا من أنه لأول مرة يوضع في هذا الأمر.

يبدو أن الدواء بدأ مفعوله يسري في الجسد السياسي الأمريكي.


طبول الحرب

مذ قُتل الصحفي السعودي المعارض، جمال خاشقجي، في سفارة بلاده في إسطنبول، والصحيفة الأمريكية التي كان يكتب لديها خاشقجي لا تكف عن الحديث عن الواقعة، لا يكاد يخلو عدد إلا وخاشقجي حاضرٌ فيه، وهذا متفهم كون الصحفي السعودي كان من كُتاب الرأي البارزين لدى الصحيفة. المتابع لقضية الصحفي السعودي يرى في الدور الذي لعبته الصحيفة دورًا محوريًّا في إحيائها وتدويلها، واستخدمت السلطات التركية الصحيفة لإذاعة ما لا تريد أن يخرج عبر قنواتها الرسمية من البيانات والمعلومات التي تثبت تورط القيادة العليا السعودية في الجريمة، وبالأخص الأمير محمد بن سلمان.

في الكواليس، كانت الصحيفة تستغل الحادثة (كما رأى متابعون للشأن الأمريكي) لتصعيد الهجوم على ترامب، الهجوم الذي شنته على الرجل قبل أن يطأ حتى حديقة البيت الأبيض، باعتباره تهديدًا للمؤسسة الأمريكية الراسخة منذ عقود.

بدأت لعبة ترامب مبكرًا، حيث ارتبطت حملته الانتخابية بشركة (.AMI (American Media INC، وأحد مديريها التنفيذيين ديفيد بيكر، وبعدما وصل ترامب للرئاسة دعاه لعشاء البيت الأبيض، ما مهد له الطريق لتكوين شبكة قوية من العلاقات العامة، يقول بيزوس إنها – الشركة – منذ ذلك الوقت تعمل بالنيابة عن ترامب وحكام العربية السعودية.


الدفاع المتقدم لـ «جيف بيزوس»

قبل أسابيع فوجئ بيزوس ببعض رسائله الخاصة منشورة على صحيفة ناشيونال إنكوايرر (المملوكة لمجموعة أمريكان ميديا – AMI)، تضمنت الرسائل بعض المراسلات الحميمية بينه وبين المذيعة الأمريكية السابقة لورين سانشيز.

كان التساؤل الأهم لدى بيزوس هو كيف تسربت تلك الرسائل الخاصة؟ وأي ضرر قد تُحدثه بحقه وحق أعمال؟ وللإجابة على هذين السؤالين جند فريقًا من المحققين، على رأسه «جافين دي بيكر»، وهو محقق أمريكي شهير، خدم لدى عدد من الرؤساء الأمريكيين السابقين. يقول بيزوس إنه عرض على «دي بيكر» ما يحتاجه من تمويل، لتعقب الحقيقة بشأن تلك المراسلات المسربة، وحمايته من أي مخاطر قانونية.

وأسرَّ بيزوس لـ «دي بيكر» أن ملكيته لواشنطن بوست تسبب له الكثير من المتاعب التي لا يمكنه تجنبها، ذلك أن الكثيرين ممن تشملهم تغطيتها يعتبرونها – خطأً – خصمًا لهم، والرئيس دونالد ترامب أحد هؤلاء. أحس بيزوس من اللحظة الأولى أن الأمر له دوافع سياسية، لكن شركة «أمريكان ميديا» المالكة للصحيفة أصرت على موقفها بأن الأمر يأتي كون بيزوس شخصية عامة، وليس الأمر بغرض تصفية حسابات سياسية.

لكن من خلف الكواليس، بدأت مفاوضات بين الجانبين، وعرض مدير AMI على بيزوس ودي بيكر الكف عن التحقيقات حول مقتل خاشقجي مقابل التوقف عن نشر صور خاصة ببيزوس ادعوا أنها بحوزتهم، ورسائل نصية أخرى لم تُنشر. بيزوس يقول إن محاميه أشاروا عليه بأن الصور التي بحوزتهم عديمة الفائدة، ذلك أنهم لا يملكون الحق في نشرها بغير إذن صاحبها، وإلا فسيخضعون للمساءلة القانونية، وعليه لم يتخذ بيزوس التهديد بشأن الصور على محمل الجد.

لتسريع الأحداث وتحريك المياه التي بدأت تركد، وأثناء استعداد واشنطن بوست للرد على ما نشرته ناشيونال إنكوايرر، فوجئ مارتن سينجر، أحد مستشاري جافين دي بيكر، بإيميل من هوارد ديلان، مسئول محتوى AMI، يصف له بعض الصور التي بحوزته لجيف بيزوس، فيما يمكن وصفه بالموجة الثانية من الابتزاز.

كان بيزوس في موقف لا يُحسد عليه، ذلك أن الشركة التي بناها في جراج بيته قبل 24 عامًا، وأدارها حتى باتت توظف 600 ألف عامل، أكثر ربما من تعداد مواطني بعض الدول، وصارت واحدة من أكبر وأهم خمس شركات حول العالم، باتت الآن مهددة، وأسهمها معرضة للخسارة في اللحظة التي يفقد المساهمون فيها الثقة في بيزوس.

لكن الرجل قرر الهرب إلى الأمام والدفاع من خطوط متقدمة. وبينما تلقى الموجة الثالثة من الابتزاز، والتي كانت أكثر جبنًا من سابقتيها؛ إيميل من فاين جون، نائب المستشار العام لـ AMI، إلى مارتن سنجر، يتفاوض معه على تصفير المشكلة، وأن يتخلى كل طرف عما في يده، بعدما أصبح لدى بيزوس عدد من المراسلات التي أُرسلت له بغرض الترهيب ودفعه للتوقف عن التحقيقات بشأن خاشقجي، وهنا أُسدل الستار من جانب بيزوس على القضية التي نالت من سمعته، وخسر على إثرها زوجته، وبعض الأموال جراء اهتزاز الثقة حوله.

وكانت صحيفة «وول ستريت جورنال» الأمريكية قد علقت على الأمر من جانبها، وقالت إن السلطات السعودية كانت قد تفاوضت مع وسائل إعلام غربية متعددة بغية تلميع اسم المملكة في الغرب، من بينها ناشيونال إنكوايرر، لكن المباحثات بهذا الشأن تعطلت بعد قتل الصحفي السعودي. تُفهم هذه الرواية على أنها تكميلية لرواية بيزوس، الذي اتهم أعداءه بأنهم باتوا على وشك الإفلاس لولا الأموال الخليجية.