«جان دومينيك بوبي»: الغواص رفيق الفراشة
قالها «بابلو نيرودا»، الشاعر التشيلي، الذي يتطابق اسمه مع إحدى الحقائق الأربع النبيلة في البوذية، فـ «نيرودا» تعني أن «المعاناة لها نهاية».
المعاناة صفة الحياة البشرية على الأرض، دفعت البعض للإيمان بعبثيتها، ودفعت البعض الآخر للتشبث بها رغم تأكدهم من تلك العبثية، وكلا الفريقين يحاول أن يجد -في خضم تلك المعاناة- أملًا في أن تنتهي يومًا.
ولكن هل تنتهي المعاناة بالفعل ليجد المرء نفسه وهدفه؟ أم هي ظلمات بحر لجي يغوص فيها أكثر وأكثر؟
تتجلى المعاناة في اعتلال الصحة بصفة عامة، وبصفة خاصة في حالة طبية نادرة تُدعى «متلازمة المنحبس» Locked-in Syndrome. فهي حالة شلل تُصيب كل عضلات الجسم مع بقاء العقل في حالة وعي كامل، خلّدها في الأدب «ألكسندر دوما» في روايته «الكونت دي مونت كريستو» بشخصية «نوارتييه»، الجثة الحية، مستودع الأسرار المخيف، الصامت الذي يقضي كل وقته على كرسي بعجلات ولا يتواصل مع الآخرين سوى بتحريك رمش عينه.
أشهر من أصيب بتلك المتلازمة كان الكاتب والصحافي الفرنسي «جون دومينيك بوبي»، إثر جلطة في القلب والأوعية، وأفاق بعد عشرين يومًا من غيبوبة ليجد نفسه غير قادر لا على الكلام ولا على الحركة، فقط وجد نفسه قادرًا على تحريك رمش عينه اليسرى.
هل هناك نهاية للمعاناة؟
لم يستمر بوبي في ذلك التساؤل طويلًا، فقد كان يستيقظ ليجد رأسه كالسندان وجسده تُكبِّله بذلة غوص ثقيلة، ورغم تفاؤله الأول بتحسن حالته الصحية، إلا أنه تأكد مع الوقت أن عليه أن يحيى حياة النبات، إذ سيستغرقه الأمر سنوات حتى يستطيع تحريك إصبع قدمه.
وبالرغم من حالته تلك قرر أن يكتب رواية بطريقة غريبة مُرهقة، كانت هي شفرة تواصله مع العالم، أهدته إياها إحدى طبيباته، كانت مساعدته تجلس بجواره مُرددة كل حروف الأبجدية بالترتيب، حتى إذا ما وصلت للحرف المنشود رمش لها بعينه اليسرى، في إشارة إلى أن هذا هو ما يريده، أملى عليها الحروف حرفًا حرفًا، وتحولت الحروف إلى كلمات، وتحولت الكلمات إلى جمل، والجمل إلى فقرات حتى انتهيا من كتابة الرواية.
كان يقضي ليلته يكتب في عقله ما يريد، ويظل يُعدِّل ويراجع الفقرات في رأسه حتى يمليها لمساعدته، فلم يكن هناك مجال للخطأ، لأن ذلك كان يعني مزيدًا من الجهد ودقيقتين ضائعتين في كتابة كلمة أخرى.
«بذلة الغوص والفراشة» هو اسم روايته، والتي اشتهرت بعنوانها الفرعي: «الرواية التي كتبت برمش العين اليسرى». اسمها يشير لحالته التي عاش بها، جسده المشلول بالكامل كجسد غوّاص حبيس في بدلة غوص ضيقة، في حين كان عقله فراشة حلّقت في كل مكان.
كان يركب إلى مملكة الأحلام مُحاطًا بدعوات مُحبيه الخارقة ليختلط حلمه بوعيه، ولكنه كان يستيقظ ليجد نفسه قد صار في الرابعة والأربعين، وهو يُحمَّم ويُقلَّب ويُنظَّف من الأوساخ، ويُقمَط مثل الرضيع. يتذكر كيف كانت تسير حياته بلا معاناة، باريس وأسفاره مع والده وحبيبته وزملائه، وكيف وهو يحيى الآن كمُشاهِد فقط دون أي رد فعل محسوس أو مرئي.
قضى وقته وهو يحلم ويجتر ذكرياته، ويُقلِّب بصره في غرفته التي صارت متحفًا ونصبًا تذكاريًا لكل ما يتركه الأصدقاء فيها، فهو لم يكن:
كان ما زال أبًا، وقضى يوم الاحتفال بعيد الأب وطفلاه حوله يحكيان ويغنيان له، في خوف فشلا في إخفائه. مسح ولده لعابه السائل بترقب حذر، وكان هو ساكن بلا أدنى تعبير عن كل ذلك الحب لهما، سوى بمزيد من البكاء.
فراشات بوبي
لم تنتهِ معاناة بوبي ولكن الإرادة القوية هي فقط التي ستساعدنا على تخطي المأساة التي نمر بها، وعلى المرء أن يجد طريقة ما للتأقلم مع وضعه الجديد مهما كانت صعوبته، عليه أن يتقبل وضعه من دون تحسر ورثاء لذاته، حتى لو تحول إلى فزاعة عصافير، حتى حين يكون لباس الغوص ضيقًا، على العقل أن يتحرر ليُحلِّق كالفراشة.
عليه أن يستمر في البحث عن معنى للحياة وعن السر الكامن في كل وجود، شاهدًا ومُشاهِدًا لانسياب الزمن في أحداث بسيطة، وينتبه إلى أنها هي مصدر إثارة عواطفه ومتعته، لا أن يكون أعمى وأصمًا أو ينتظر نور مأساة لينير له الطريق، ولكن المشكلة أن لا أحد يرى العيب مع أنه قابل للاكتشاف كما قال بوبي.
وبعد 137 صفحة و200 ألف إغماضة عين، أنهى بوبي روايته مُتسائلًا:
تمتم بوبي بذلك النشيد الذي كان هو معيار تقدمه في النطق، ولكن بعد ثلاثة أيام من نشر الكتاب ذهب ليبحث عن حريته في مكان آخر، بعد أن تغلب عليه المرض، وبعد أن ترك لنا رسالة هامة، طواها بين كلمات روايته، مُتمنيًا لنا الكثير من الفراشات.