الغيرة سم قاتل: عن اغتيالات النساء في عصر المماليك
لم تغب المرأة عن الاغتيالات السياسية في العصر المملوكي، الذي غلبت عليه الفتن والقلاقل والاضطرابات، لذا كانت حاضرة سواء بـ «الفكرة»، أو بالتآمر المباشر، بل التنفيذ، كما حالت في بعض الأحيان دون وقوع مثل هذه الحوادث.
ولم يكن للنساء أن تلعب هذا الدور لولا النفوذ الواسع الذي تمتعت به، وكان ذلك سببًا في إثارة بعض فقهاء ذلك العصر، مثل الفقيه ابن تيمية، الذي كتب كثيرًا من التحذيرات من تدخل النساء في الحكم وإفسادهن له، محذرًا من طاعتهن لأن «أكثر ما يفسد الملك والدول طاعة النساء»، حسبما نقل الدكتور أحمد عبد الرازق في كتابه «المرأة في مصر المملوكية» عن «مجموع الفتاوى» لتقي الدين أحمد بن تيمية.
شجر الدر: زوال النفوذ والسلطة
تعد شجر الدر/ شجرة الدر بنت عبد الله أولى النساء اللائي لعبن أدورًا في الاغتيالات السياسية. ويذكر ثامر نعمان مصطاف في دراسته «دور المرأة في الحياة العامة في عصر المماليك البحرية» أن هذه السيدة كانت أول سلطانة لمصر من غير الأيوبيين، وكانت أرمينية الأصل، وقيل إنها تركية صاحبة دهاء إلى جانب كونها ذكية وجميلة، أهداها الخليفة العباسي المستعصم بالله (1242 – 1258) إلى الملك الصالح نجم الدين في عهد والده السلطان الكامل، فأنجبت منه «خليل» الذي مات صغيرًا.
وفي سنة 1249 توفي الملك الصالح لمرضه أثناء الحملة الصليبية السابعة على مصر بقيادة لويس التاسع ملك فرنسا، مُلقيًا على عاتق شجر الدر عبئًا ثقيلًا.
ولم يكن أمام شجر الدر خيار سوى إخفاء خبر وفاة زوجها، حرصًا على الروح المعنوية لجندها وشعبها، ولم يكن ذلك غريبًا عليها، فقد كان لها في حياة الملك الصالح غالب تدبير الديار المصرية، وكذلك في مرضه، وبعد موته، فأدارت الأمور على أكمل وجه.
وبحسب «مصطاف»، استقدمت شجرُ الدر تورانَ شاه ابنَ الملك الصالح أيوب، الذي كان يحكم بلدة تسمى حصن كيفا (في تركيا الآن)، ليتولى الأمر بعد أبيه، غير أنه وقف منها موقفًا غير حسن، وأعرض عن مماليك أبيه، وجعل أمر البلاد إلى أصحابه الذين قدموا معه، بل أرسل إلى شجر الدر يتهددها، ويطالب بأموال والده، ما دفع شجر الدر إلى التآمر عليه، لينتهي الأمر بقتله على أيدي المماليك البحرية.
وتروي الدكتورة إيناس حسني البهجي في كتابها «دولة المماليك: البداية والنهاية»، أنه بعد مقتل توران شاه التقت رغبة المماليك مع رغبة شجر الدين في إعلان الأخيرة حاكمة لمصر، فتفجرت ثورات الغضب في كل أنحاء العالم الإسلامي، لأنها كانت أول امرأة تتولى الحكم في العصر الإسلامي، حتى إن الخليفة العباسي المستعصم بالله عاب على المماليك ذلك وأرسل لهم قائلًا: «إن كان الرجال قد عدموا عندكم، فأعلمونا حتى نسير إليكم رجلًا».
وإزاء ذلك الأمر قررت شجر الدر الزواج من عز الدين أيبك التركماني الصالحي، أحد مماليك زوجها الراحل، الذي لم يكن له طموح في الحكم، وكان ينأى بنفسه عن الصراع على السلطة، حتى تتمكن من الحكم باطنًا، وتتنازل عنه ظاهرًا.
وعلى عكس ما توقعت شجر الدر، دعم عز الدين أيبك نفوذه، خلال سبع سنوات، وأراد أن يثبت أقدامه، فأراد أن يكوِّن حلفًا عسكريًّا في المنطقة، ورغب في أن يوثق ذلك برباط غليظ لا يفصم بسهولة، وذلك عبر الزواج من بنت حاكم الموصل بدر الدين لؤلؤ. ولما عرفت شجر الدر بهذا الزواج، أعمتها الغيرة ودفعتها للانتقام من عز الدين أيبك، وتآمرت على اغتياله.
وتروي نهلة أنيس مصطفى في دراستها «الصراع على السلطة وظاهرة العنف والاغتيالات في عصر دولتي سلاطين المماليك»، أن عز الدين أيبك خرج في أحد الأيام للعب الكرة، فلما عاد رتبت شجر الدر له الحمام ومعها بعض خدامها، ومنهم سنجر الجوجري، ونصر العزيزي، فدخلوا عليه وقتلوه أثناء استحمامه.
أم السلطان المنصور علي: الانتقام من «الضرة»
علم الجميع بجريمة القتل، فأسرع سيف الدين قطز قائد الجيش والذراع اليمنى للملك عز الدين أيبك، ومعه نور الدين علي ابن الملك الراحل من زوجته الأولى، وكان عمره 15 عامًا، ومعهما فرقة من المماليك المعزية (نسبة إلى عز الدين أيبك)، وألقوا القبض على شجر الدر، وطلبت أم نور الدين علي وزوجة أيبك الأولى أن يُترك لها الأمر في التصرف مع ضرتها، فأمرت جواريها أن يقتلن الملكة السابقة ضربًا بالقباقيب.
ويذكر خالد السعيد في كتابه «أشهر الاغتيالات في الإسلام»، أن جواري أم نور الدين علي أخذن شجر الدر بعد موتها وجردنها من ملابسها ورمينها من سور القلعة إلى الخندق، فمكثت جثتها ملقاة أيامًا حتى نتنت، ثم أُمر بعدها أن تُحمل في قُفة لتُدفن.
ورغم الأبعاد السياسية التي وقفت وراء اغتيال شجر الدر على يد والدة المنصور علي، لكن محمد عبد السلام عباس يقدم بعدًا آخر للواقعة في دراسته «دور المرأة في حوادث الاغتيالات السياسية في مصر خلال عصري الأيوبيين والمماليك»، فيذكر أن والدة المنصور نور الدين علي بن أيبك تشفت من قتل شجر الدر، لأن الأخيرة كانت تكرهها هي وابنها المنصور علي، ولما تزوجت شجر الدر من أيبك منعته من الدخول إلى امرأته الأولى بالكلية، بل لما تيقنت شجر الدر أنها مقتولة لا محالة، سحقت كمية من الجواهر النفيسة في الهاون لئلا تقع في يد المنصور علي وأمه ويستفيدا منها.
وبحسب «السعيد» في كتابه، يتردد أن أصل الحلوى العربية الشهيرة «أم علي»، يرجع إلى زوجة عز الدين أيبك، والتي احتفلت بمقتل ضرتها شجر الدر بتوزيع طبق كبير مكوناته سكر وعيش أبيض وحليب، لمدة شهر كامل على الناس، فارتبط اسم هذه الحلوى باسم «أم علي».
اغتيال وزير عز الدين أيبك
ولم يكن هذا الدور الذي لعبته والدة السلطان المنصور علي بن أيبك مقتصرًا على التحريض واغتيال شجر الدر فحسب، بل حرضت على قتل الوزير شرف الدين بن صاعد الفائزي، الذي تولى الوزارة لابنها المنصور علي (1257- 1259) أيامًا قلائل ثم قُتل الوزير شرف عام 1257.
ويذكر شهاب الدين أحمد النويري في كتابه «نهاية الأرب في فنون الأدب»، أن قاضي القضاة بهاء الدين السنجاري دخل ذات يوم على الوزير شرف الفائزي الذي سأله في إطلاق سراحه مقابل أن يدفع ألف دينار لمدة سنة، لكن والدة السلطان المنصور علي لم ترضَ إلا بقتله، لأنه تعاون مع زوجها المعز أيبك في إخفاء جواريه (أي جواري زوجها) عنده، ومن ثم أمرت بقتله، فقُتل.
وبحسب «عباس»، كان نفس شعور الغيرة الذي أدى إلى قتل المعز أيبك على يد شجر الدر من قبل، هو المحرك الأساسي الذي أدى إلى قتل وزيره شرف الصاعدي بأمر والدة المنصور نور الدين علي، والتي نقمت على الوزير لإخفائه جواري عنده للسلطان المعز أيبك من قبل.
ويذكر «عباس» أن تلك المرأة استمرت في ممارسة دورها التسلطي في تدبير شئون السلطنة المصرية في حكم ابنها الصغير نور الدين علي، الذي تشاغل باللهو واللعب ومسابقات الحمير، ومِن ثَم تسلطت على شئون الحكم، حتى قام الأمير سيف الدين قطز المعزي في عام 1258 بالقبض على السلطان الصغير وأمه وأخيه المدعو «قليج قان»، واعتقلهم في برج السلسلة بدمياط، ثم نُفي «علي» بعد ذلك إلى القسطنطينية في عهد السلطان الظاهر بيبرس.
غير أن محمد فتحي عبد العال يشير في كتابه «تأملات بين العلم والدين والحضارة»، إلى أن الثلاثة (الأم وابنيها) تم ترحيلهم إلى دمياط، ومنها نُفوا إلى بلاد الأشكري البيزنطية، وذكر المؤرخ شمس الدين الذهبي في كتابه «سير أعلام النبلاء» نقلًا عن «قان» أن أخاه المنصور علي تنصر هناك وتسمى ميخائيل بن أيبك، وتزوج وأنجب هناك.
خوند بنت صرق: اغتيال أحد الأمراء
أيضًا، كان لبعض النساء دور غير مباشر، ولكنه فعال، في حدوث اغتيالات سياسية استهدفت بعض الشخصيات المملوكية، ومن أمثلة ذلك الدور الذي لعبته المرأة المدعوة «خوند بنت صرق»، طليقة السلطان الناصر فرج بن برقوق (1397- 1412)، في اغتيال أحد الأمراء المماليك في ذلك الوقت، حسبما نقل «عباس» عن الحافظ شمس الدين السخاوي في كتابه «الضوء اللامع لأهل القرن التاسع»، دون ذكر لهوية المملوك المقتول، أو تفاصيل قتله.
ويروي تقي الدين المقريزي في كتابه «السلوك لمعرفة دول الملوك»، أن السلطان فرج بن برقوق قتل هذه السيدة بيده عام 1411، وقتل معها الأمير شهاب الدين أحمد بن محمد الطبلاوي، كاشف الشرقية (أي المشرف على طرقها وجسورها وجامع ضرائبها)، بعد أن بلغته الأخبار أن هذه المرأة تأتي هذا الأمير في منزله ويمارس معها الفاحشة.
خوند سعادات: الانتقام من السلطان
ومن النسوة اللائي لعبن دورًا في الاغتيالات السياسية في العصر المملوكي أيضًا خوند سعادات بنت صرغتمش، أرملة السلطان المملوكي المؤيد شيخ المحمودي، الذي أنجب منها «أحمد»، ثم تزوجها الظاهر أبو الفتح ططر الظاهري.
ويذكر يوسف بن تغري بردي أبو المحاسن في كتابه «النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة»، أنه بعد وفاة السلطان مؤيد شيخ تولى السلطنة الظاهر ططر عام 1421، بعدما ألقى القبض على الأمير الطنبغا الذي كان وصيًّا على الطفل أحمد الصغير بن المؤيد شيخ، إذ لم يكن يبلغ من العمر وقتها سوى سنة واحدة وثمانية شهور، وفي سبيل انفراد «ططر» بالسلطنة وفق مسوغ شرعي تزوج من أرملة المؤيد شيخ وأعلن وصايته على ابنها الصغير.
وبعد انفرد الظاهر ططر بالسلطنة، قام بتطليق زوجته أرملة المؤيد شيخ المحمودي، وحبس «أحمد» بالإسكندرية حتى مات الطفل بمرض الطاعون عام 1421، لكن سلطنته لم تدم سوى بضعة أشهر إذ مرض ومات في نفس العام، وقيل إن مطلقته أرملة المؤيد شيخ المحمودي هي التي دست له سمًّا أثناء مرضه انتقامًا لما فعله بها وبولدها وتنكره لهما، حسبما روى تغري بردي في كتابه المذكور.
حظية السلطان حسن بن قلاوون: منعت قتل مملوك
مثلما تسببت نساء في بعض عمليات الاغتيال السياسي في العصر المملوكي، كانت هناك حالات أخرى لنساء أخريات لعبن دورًا واضحًا في منع حدوث تلك الاغتيالات، ومن أمثلة ذلك ما قامت به إحدى حظايا السلطان الناصر حسن بن قلاوون، الذي تولى السلطنة مرتين، الأولى بين (1347- 1351)، والثانية (1354 – 1360).
وروى تقي الدين المقريزي في كتابه «السلوك لمعرفة دول الملوك» أن الناصر بن قلاوون بلغه أن الأمير يلبغا الخاصكي يتربص لقتله واغتياله، وأنه لا يدخل إلى خدمة السلطان إلا وهو لابس آلة الحرب تحت ثيابه، ومِن ثَم أمر السلطان حسن باستدعائه أثناء وجوده مع حريمه ونزع عنه ثيابه كلها وكتف يديه، حتى شفعت فيه إحدى حظايا السلطان – لم يذكر اسمها – ومن ثم أخلى سبيله وتركه.