الاقتصاد الياباني إلى الركود: ماذا ينتظر العالم؟
صدماتٌ ثلاث متتالية لم يستفق الاقتصاد الياباني من إحداها، إلا واصطدم بالأخرى خلال عام ونصف مضى.
برزت الصدمة الأولى في أوائل عام 2019، حين تسببت الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين في تباطؤ النمو الاقتصادي العالمي، ومن ثم تأثر قطاع التصنيع الياباني. تفاقم ذلك الأثر الاقتصادي السلبي جرّاء الصدمة الثانية، التي نجمت عن زيادة ضريبة الاستهلاك من 8 إلى 10% في مطلع أكتوبر/تشرين الأول من العام ذاته.
وبينما كان الاقتصاد الياباني يحاول التعافي، تعرض للضربة الأكثر حدة على الإطلاق والتي أغرقتها في ركود كامل لأول مرة منذ عام 2015، وهي تفشي فيروس كورونا، وما خلفه من آثار اقتصادية مدمرة للاقتصاد العالمي، وهو ما لم تنج منه الاقتصادات المتقدمة بما فيها اليابان.
صدمة كورونا: الصدمة الأشرس على الإطلاق
شهد الاقتصاد الياباني، ثالث أكبر الاقتصادات في العالم، انكماشًا للربع الثاني على التوالي في الأشهر الثلاثة الأولى منه. ووفقًا لما تشير إليه بيانات منقحة، فإن الناتج المحلي الإجمالي قد تقلص بنسبة 2.2% في الفترة من يناير/كانون الثاني إلى مارس/آذار من العام 2020، وبهذا تكون قد دخلت اليابان في الركود الكامل رسميًا، حيث انخفض الاستهلاك الخاص والإنفاق الرأسمالي والصادرات.
جدير بالذكر، أن تلك النسبة هي أقل من نسبة الانكماش التي أشارت إليه البيانات الرسمية الأولية التي قُدرت بــ 3.4%، بعد انخفاض بلغ 7.3% خلال الفترة من أكتوبر/تشرين الأول إلى ديسمبر/كانون الأول من عام 2019.
وقد خلفت الأزمة آثارًا سلبية عديدة على الاقتصاد الياباني، ولعل ذلك يتضح في:
تضرر الشركات اليابانية
تحملت الشركات اليابانية الجانب الأكبر من الخسائر الناجمة عن انتشار فيروس كورونا، فوفق ما أظهرته بيانات الناتج المحلي الإجمالي، فإن الشركات اليابانية قد شهدت انخفاضًا حادًا في الصادرات بنسبة 6% في الربع الأول من عام 2020.
كما تراجع الإنفاق الرأسمالي بنسبة 0.5% في الربع الأول مقابل متوسط انخفاض بلغ 1.5%، مسجلاً تراجعًا للربع الثاني على التوالي.
في المقابل، انخفض نسبة نمو الطلب المحلي من الناتج المحلي الإجمالي بنحو 0.7%، في حين انخفض الطلب الخارجي بنسبة 0.2%، الأمر الذي شكل ضغطًا على سوق العمل وتسبب في ارتفاع معدلات البطالة إلى أعلى مستوياته، وانخفضت فرص العمل لأدنى مستوى لها منذ أكثر من ثلاث سنوات.
وقد تضررت المطاعم اليابانية وأجبر بعضها على الإغلاق، أما من بقي منها فقد واجه تراجعًا في نسبة المبيعات وأعداد الزبائن. ليس ذلك فحسب، فقد واجهت شركات تصنيع السيارات اليابانية أزمات عديدة منذ تفشي الوباء، وهو ما أكد عليه رئيس الجمعية اليابانية لمصنعي السيارات حين قال: «في هذه المرحلة لا يمكننا أن نتوقع ما ينتظر شركات صناعة السيارات».
فقد أوقفت شركة تويوتا ونيسان موتور وهوندا موتور في غمار تفشي الوباء مصانعها في أمريكا الشمالية حرصًا على صحة العمال، كما أوقفوا الإنتاج في العديد من المصانع في أوروبا تزامنًا مع إغلاق شركة هوندا لمصنعها في سويندون في بريطانيا حتى الخامس من أبريل/نيسان الماضي.
تضرّر قطاع السياحة
تأثر قطاع السياحة، الذي يمثل إحدى أبرز دعائم الاقتصاد الياباني منذ فترة طويلة، بشدة بفعل تفشي فيروس كورونا، إذ تسببت سياسات الإغلاق العالمية في خسارة اليابان للعديد من السياح الأجانب.
ففي شهر مارس/آذار الماضي، انخفضت نسبة السياح الأجانب إلى 93% وهو ما يمثل انخفاض قياسي على أساس سنوي. ووفق توقعات الاقتصاديين، فإن عدد الزوار الأجانب لليابان سينخفض بنسبة من 30% إلى 80% للعام بأكمله، وهو ما يمثل انتكاسة كبيرة لآمال الحكومة اليابانية في السياحة، خاصة وأنها كانت تخطط لجذب 40 مليون سائح هذا العام.
أضف إلى ذلك، تأجيل دورة الألعاب الأوليمبية في طوكيو حتى العام المقبل، الأمر الذي حول عام 2020 إلى عام قاتم للسياحة، وهو ما وجه ضربة قوية للاقتصاد الياباني.
تعطل سلاسل التوريد
تبلغ نسبة الواردات اليابانية المقبلة من الصين في السلع الرأسمالية نحو 50.3%، وهو ما يجعل اليابان معتمدة إلى حد كبير على الصين، وتتأثر بشدة بما يحدث فيها.
فبينما تسبب تفشي فيروس كورونا في تعطيل سلسلة التوريد في مدينة ووهان الصينية، والتي تتركز فيها العديد من قواعد الإنتاج في الصناعة التحويلية كالسيارات. فإن ذلك التعطل تسبب في تأخير توريد السلع الوسيطة الخاصة بإنتاج السيارات إلى اليابان، ومن ثم إيقاف خطوط الإنتاج في المصانع المحلية مؤقتًا في قطاع تصنيع السيارات اليابانية وبالتالي أضر بكبرى الشركات العاملة في ذلك المجال.
وما زاد الطين بلة، أن اليابان قد أصدرت حالة طوارئ في أبريل/نيسان الماضي، أثرت بشكل كبير على سلاسل التوريد والشركات العاملة فيها، والتي تعتمد على التجارة الخارجية بشكل رئيسي.
لاحتواء الأزمة: سياسات باهتة تبعها إنفاق ضخم
بدا رد بنك اليابان المركزي لاحتواء الأزمة في البداية محدودًا للغاية عن مقارنته بنظرائه في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، إذ عمدت إلى بعض السياسات التي اعتبرها الكثير من المحللين «باهتة» وغير كافية لاحتواء الأزمة.
ففي منتصف مارس/آذار من العام الجاري، بدأ البنك المركزي الياباني بضخ سيولة مؤقتة للبنوك التجارية بفائدة 0% مع استحقاق في غضون عام، مع تخفيف متطلبات الضمان حتى سبتمبر/أيلول 2020.
كما تم رفع الميزانية العمومية لبنك اليابان بنسبة 5 % فقط، بعد توفير السيولة بالدولار الأمريكي للبنوك عبر الاقتراض من الاحتياطي الفيدرالي، وفي المقابل، خفض بنك اليابان سعر الإقراض بمقدار عشر نقاط أساس.
فضلاً عن ذلك قام بنك اليابان بزيادة مشتريات سندات الشركات والأوراق التجارية بشكل معتدل، وذلك بغية دعم الشركات الكبيرة. بيد أن الشركات الكبيرة كان لديها بالفعل سيولة نقدية وودائع، فأضحى تأثير تلك المشتريات على تمويل الشركات محدود.
وذلك خاصة وأن حجم السوق صغير نسبيًا وهو ما يمثل نحو 11% من الناتج المحلي الإجمالي الاسمي، مقارنة بالقروض المصرفية لقطاع الشركات التي تبلغ 60% من الناتج المحلي الإجمالي الاسمي.
وفي نهاية أبريل/نيسان، وسع البنك المركزي الياباني مبلغ الشراء لسندات الشركات والأوراق التجارية، كما وسع عملية السيولة المؤقتة التي كان قد شرع فيها، غير أن تلك الإجراءات بدت غير كافية لتعزيز الزيادة في إقراض البنوك للشركات الصغيرة المتأثرة بأزمة كورونا.
تلك الانتقادات، دفعت بنك اليابان لعقد اجتماعًا طارئًا في مايو/آيار لتنفيذ برنامج قروض جديد للبنوك يحد من الائتمان للشركات الأصغر التي يقدم لها إعانات بفائدة منخفضة.
وقد وضعت اليابان الميزانية التكميلية الأولى، في أواخر أبريل/نيسان، والتي تضمنت صرفًا نقديًا شاملًا قدره مائة ألف ين، 930 دولارًا لكل مقيم، غير أنه بعد مرور أكثر من شهر على تلك الميزانية لم يحصل على الأموال سوى 35.9% فقط.
وفي خطوة أخرى، تم إقرار ميزانية تكميلية ثانية لتخفيف الأثر الاقتصادي لوباء الفيروس التاجي الجمعة 12 من يونيو/حزيران الجاري.
بلغت قيمة تلك الميزانية نحو 3.9 تريليون ين، بما يعادل نحو 300 مليار دولار، وهي أكبر ميزانية من نوعها في تاريخ البلاد. لكن بالرغم من كون الحكومة اليابانية قد شددت مرارًا وتكرارًا على التزامها بإنفاق الإغاثة منذ بدء تفشي المرض، فإن العديد من الشركات والأسر أشارت إلى عدم تلقيها أي مساعدة إلى الآن.
جدير بالذكر، أن اليابان تعد الدولة الأكثر مديونية في العالم، والتي بلغت نسبتها نحو 235.96% من ناتجها المحلي الإجمالي، رغم كونها واحدة من أكبر الاقتصادات في العالم، وهو ما دفع الخبراء للتساؤل عن مدى قدرة اليابان على تحمل ذلك النوع من الإنفاق.
كيف يرتبط الاقتصاد الياباني بالاقتصاد العالمي؟
بالرغم من كون اليابان ثالث أكبر اقتصاد في العالم، فإنها تعاني من الانكماش وبطء النمو منذ التسعينيات، نظرًا لفشل السياسات التي اتبعها رئيس الوزراء الياباني «شينزو آبي» لتصحيح الأسعار المنخفضة والواردات الباهظة ونسبة الدين المرتفعة إلى الناتج المحلي الإجمالي.
الأمر الذي جعل اليابان تواجه تحديًا فريدًا في ظل ركود اقتصادها لعقود مقارنة باقتصادات المنافسين الأكثر ازدهارًا «الولايات المتحدة» و«الصين».
أضف إلى ذلك ما تسبب فيه فيروس كورونا من تراجع مبيعات أكبر علاماتها التجارية كشركات السيارات تويوتا وهوندا في جميع أنحاء العالم، إذ يرتبط الاقتصاد الياباني، المعتمد بشكل كبير على التصدير، بالاقتصاد العالمي وخاصة بالصين والولايات المتحدة باعتبارهما أكبر شريكين تجاريين لها.
ولعل ما تواجهه تلك الدولتان من أوضاع اقتصادية صعبة، يجعل من الاقتصاد الوطني الياباني عرضة للتراجع والاهتزاز نتيجة للانعكاسات السلبية الناجمة عن العلاقة الوثيقة التي تربطها بالاقتصاد الدولي.
فخلال الأشهر الثلاثة الأولى من العام الجاري، تقلص الاقتصاد الصيني بنسبة 6.8% مقارنة بالعام الذي سبقه، والذي مثل أول انكماش ربع سنوي منذ بدء التسجيل.
وفي الولايات المتحدة، بحسب أحدث التقديرات لبنك أتلانتا الاحتياطي الفيدرالي، فإنه تم الإعلان عن تقليص الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي في الربع الثاني من العام الجاري بنسبة 41.9%. فيما انفجر عجز الموازنة الأمريكية، والذي من المتوقع أن يبلغ نحو أربعة تريليونات دولار خلال العام الجاري. الأمر الذي يجعل الاقتصاديين يتنبئون بوقوع الولايات المتحدة في ركود وشيك في صورة سقوط ثم ركود طويل.
كذلك انزلقت ألمانيا في حالة ركود خلال الربع الأول من العام الجاري، وهو ما أظهرته بيانات تفصيلية صدرت في الخامس والعشرين من مايو/آيار الماضي. والتي أشارت إلى تراجع كل من الاستثمارات الرأسمالية بنحو 6.9%، والاستهلاك الخاص بنسبة 3.2%، والصادرات بمقدار 3.1%، مما نتج عنه انكماش بلغت نسبته نحو 2.2% خلال الربع الأول.
ومن المرجح جدًا أن يمر الاقتصاد العالمي هذا العام بأسوأ ركود تعرض له منذ عقود، متجاوزًا بذلك كل تداعيات الأزمة المالية العالمية منذ أكثر من عشر سنوات.
ووفقًا لتوقعات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، فإنه في حال تمت السيطرة على الفيروس، فإن الاقتصاد العالمي سينكمش خلال هذا العام بنسبة 6% وينمو خلال العام المقبل بنحو 5.2% العام المقبل، وأن الاقتصاد الياباني بالتبعية سينكمش بنسبة 6% خلال العام الجاري وسيعاود النمو في العام المقبل بنحو 2.1%.
أما إذا ضربت العالم موجة ثانية من الوباء، فسينكمش الاقتصاد العالمي بمقدار 7.6% هذا العام، وبنسبة 2.8% العام المقبل. وكذلك اليابان ستشهد انكماشًا بنسبة 7.3% هذا العام ونحو 0.5% خلال العام المقبل.
ختامًا، لعل تهاوي الاقتصاديات الكبرى ودخول بعضها في حالة ركود بينما ينتظر البعض الآخر دوره، يشير إلى تشابك الاقتصاد العالمي، الذي تكلف بفعل الفيروس التاجي نحو 8.8 تريليون دولار منذ بداية تفشيه، وهو ما يجعله على وشك الدخول في حالة ركود كاملة مثلما حدث في بعض الدول.