الجيش الياباني: ورثة الساموراي بين الوهم والحقيقة
ملازم ثانٍ «هيرو أونودا»، ضابط استطلاع في الجيش الياباني أثناء الحرب العالمية الثانية. كان قبل الالتحاق بالجيش يعمل في محل تجاري عادي، لا يوجد شيء مميز في حياته ولا في نشأته، بل هو مواطنٌ ياباني عادي للغاية انضم للجيش حين حان الوقت. المميز بخصوصه يظهر في خضم الحرب، أونودا لم يتوقف عن القتال أو يخرج من ثكنته إلا بعد انتهاء العالمية الثانية رسميًا بـ 29 عامًا.
أونودا تم تدريبه ورفاقه على أن يكونوا خلف خطوط العدو بسلاحٍ أقل تطورًا، وأن ينتهجوا نهج حروب العصابات كي يلحقوا خسائر قاتلة بالعدو بسرعة وسلاسة. في 23 ديسمبر/ كانون الأول 1944 تم إرسال أونودا إلى جزيرة لوبان في الفلبين. كانت الأوامر التي تلقاها من قائده الأعلى تمنع عنه الموت بيده، وتحظر عليه أن يقتل نفسه في لحظة يأس أو إحباط، فالحرب قد تستمر لسنوات عدة. وأنه مهما يحدث فإن القيادة ستعود لأخذ أونودا، لكن كل ما عليه هو البقاء على قيد الحياة إلى حين عودة القيادة بعد انتهاء الحرب.
أول ما دخل أونودا ورفاقه الجزيرة رأوا سيطرة قوات التحالف عليها فرفضوا الدخول إليها. قبل قلة من الجنود منهم أونودا ورفاقه، تفرقوا إلى مجموعات صغيرة تقطن الجبال مكونة من 4 أفراد. قُتل معظم هؤلاء إلا أن أونودا ورفاقه نجحوا في البقاء على قيد الحياة. لكن في أكتوبر/ تشرين الأول 1945 أسقطت الطائرات منشورات على الجزيرة تقول بأن الحرب انتهت في 15 أغسطس/ آب 1945. لكن الجنود لم يصدقوا تلك المنشورات وظنوا أنّها خدعة من العدو، لا بد أنها خدعة فاليابان لا تنهزم، وإن انهزمت فستعود لأخذ جنودها.
بعد عام أسقطت طائرةٌ أخرى منشورات جديدة على الجزيرة تطلب منهم الاستسلام. هذه المرة كانت المنشورات موقعةً باسم الجنرال المسئول عن أونودا ورفاقه، لكنهم لم يصدقوا هذه المرة أيضًا. لكن استمرت الطائرات في إسقاط صحف يابانية تنشر أخبار الهزيمة، وأذاعت في مكبرات الصوت تسجيلات من عائلات أونودا ورفاقه يطلبون منهم الخروج والاستسلام، لكن ظلت القناعة المسيطرة عليهم أن هذه خدعة من العدو.
رياح الآلهة
هيرو أونودا بعد استسلامه، وتقديمه سيف الساموراي الخاص به للرئيس الفلبيني فريدناند ماركوس.
حتى بعد أن خرج السكان المحليون لممارسة حياتهم العادية، وبدأ قوات العدو في التناقص، ظلت القناعة الراسخة أن كل هذا خدعة. محاولات كثيرة بُذلت لإقناعهم بالاستسلام لكنهم رفضوا. بعد 5 أعوام استسلم أحد الرفاق، وبعد 6 أخرى قُتل آخر، وبعد مرور 27 عامًا في 1972 قُتل آخر رفاق أونودا في اشتباك مع دورية فلبنية. وبعد 29 عامًا قرر قائد أونودا الأعلى الذهاب إليه، واستطاع أخيرًا إقناعه بأن اليابان قد هُزمت بسبب القنبلة النووية، وأن على أونودا الاستسلام هو الآخر.
وأخيرًا ا ستسلم أونودا في 10 مارس/آذار 1975 بعد أن قتل أكثر من 30 فلبنيًا منذ انتهاء الحرب، وجرح 100 آخرين، ودمر آلاف الأفدنة الزراعية ظنًا منه أنها محاصيل العدو. لكن رغم هذا حصل على عفو رئاسي من فريدناند ماركوس، الرئيس الفلبيني آنذاك، احترامًا لنضاله وإخلاصه. عاد أونودا أخيرًا لبلاده وحصل على كل مستحقاته نظير خدمته لـ 30 عامًا، لكنّه تلقى صدمةً قويةً لما رآه من تغير القيم اليابانية والعادات الوطنية، فرحل إلى البرازيل هروبًا من انهيار القيم الذي رآه. وكان من جملة ما تغيّر الجيش الياباني ذاته، وعقيدته القتالية.
اقرأ أيضًا:«سيبوكو»: فلسفة الانتحار اليابانية
من مشاهد الحرب العالمية الثانية الأخرى التي تعكس عقيدة اليابان آنذاك،هجوم الكاميكازي. الكلمة تعني رياح الآلهة، إذ قرر الطيارون اليابانيون حين أيقنوا من الهزيمة أن يملئوا طائراتهم بالوقود والقنابل ويطيروا بها نحو سفن وآليات العدو. وبالفعل شهدت معركة أوكيناوا هجومًا لأكثر من 2700 طائرة وطيار على الأسطول الأمريكي المتجة لأوكيناوا.
استطاع الهجوم أن يفتك بـ80 سفينة، وأن يُصيب 195 أخرى، ويقتل 10 آلاف جندي أمريكي. لكن سرب طائرات أمريكيا ضل طريقه فوق المحيط فوصل متأخرًا إلى سماء أوكيناوا ووجد المعركة دائرةً فتدخل. ونظرًا لوجود الطائرات الأمريكية فوق اليابانية، كان قصفهم سهلًا وصار النصر حليفًا للجانب الأمريكي بعد أن أوشك على أن يكون من نصيب اليابانيين.
المادة التاسعة
ما لم يدركه أونودا وطيارو الكاميكازي أن الفخر بتضحياتهم لن يعادل الألم الناتج من الضربة النووية. لذا قررت اليابان أنها لن تتعرض لمثل هذه الضربة مجددًا، والحل هو أنها لن تدخل في أي حرب مرةً أخرى. والسبيل الأول هو تعديل عقيدة شعبها القتالية، لذا تم تعديل الدستور الياباني عام 1947 بإضافة مبدأ «نبذ الحرب». جاء تحت هذا المبدأ مادة واحدة تنص على أن اليابان تطمح إلى السلام الدولي القائم على العدل، وأن الشعب الياباني ينبذ الحرب كحق سيادي، كما يرفض التهديد أو استخدام القوة كوسيلة لتسوية الخلافات الدولية.
تُتبع المادة بتوضيح يقول إنه من أجل تحقيق هذا الهدف فإن القوات البرية والبحرية والجوية ووسائل الحرب المحتملة لن تبقى، ولا يعترف بحق الدولة في إعلان حالة الحرب. لذا حاليًا فالجيش الياباني رسميًا هو جيش دفاعي، دوره حماية أرضه من الداخل فقط.
المُلفت هنا ليس التغير الذي طرأ على المستوى الرسمي المكتوب، بل على المستوى الشعبي أيضًا. بعد اعتداءات سبتمبر/أيلول 2001 على الولايات المتحدة خرجت اليابان عن صمتها و أرسلت قواتها إلى أفغانستان. لكن اقتصر دورهم هناك على الدعم اللوجيستي فقط دون المشاركة في أي قتال. لكن رغم ذلك شهدت اليابان انتقادات واسعة من الداخل الياباني لما في إرسال الجنود من مخالفة للقوانين والأعراف اليابانية.
ومرةً أخرى اُختبرت العقيدة اليابانية بذبح هارونا يوكاوا، وكينجي جوتو على يد جنود «داعش» في العراق. لكن خذل الجيل الجديد من اليابانيين أونودا والكاميكازي مجددًا. صحيح، أن رئيس الورزاء ، شينزو آبي، قد سعى لتغيير المادة التاسعة من الدستور أو تعديلها لكن دون فائدة تُذكر.
معضلة الصين وكوريا الشمالية
الجيش الياباني حاليًا يُصنف الثامن على مستوى العالم من حيث القوة. يخدم فيه 310 آلاف جندي من بين 127 مليون مواطن هم عدد سكان اليابان. يمتلك 1500 طائرة قتالية، منها 84 مقاتلة و 404 طائرات تدريب. ولأنه يهتم بالدفاع فإنه يمتلك أكثر من 3200 نوع من الصواريخ ومعدات القتال الجوي. ويتألف أسطوله البحري الحالي من 131 أصل بحري. وميزانيته إجمالًا تبلغ 44 مليار دولار أمريكي.
لكن رغم هذا العتاد فإنه يواجه أزمة مع الصين وكوريا الشمالية. أما عن الشمالية فلطموحاتها النووية وصعوبة تحديد مدى جديتها في الحديث عن الحروب. أما الصين فهى مصدر التهديد العسكري والتجاري الأول لليابان في البحر الشرقي. ومحاولات شينزو آبي لاستعادة الروح القديمة للجيش الياباني لم تؤت ثمارها حتى الآن، ولا يبدو أنها ستفعل في المستقبل القريب.
اقرأ أيضًا:استعدادا للعهد «الترامبي»: اليابان تُذخّر أسلحتها
ومع هذين العدوين قد يحتاج آبي إلى تطوير عقيدة جديدة تمامًا. خاصةً أن البنية العسكرية اليابانية نادرة في المناطق المتنازع عليها مع الصين. وقدرة الصين الصاروخية بجانب الدعم الأمريكي بحريًا يجعل الغلبة للجانب الصيني في حالة نشوب نزاع بين الدولتين.
ديانة جديدة
يمكننا تبسيط العقيدة العسكرية إلى ثلاث مراحل، هي: الدفاع الأمامي، ثم الإنكار النشط، ثم العقاب. «الدفاع الأمامي» تقوم على مهاجمة العدو خارج حدود اليابان أو قرب الحدود بضربات مُوجعة وسريعة. أما «الإنكار النشط» فتعتمد على منح العدو انتصارًا وهميًا في البداية ثم القضاء عليه حين سنوح الفرصة . أما العقاب فيتم إنزاله بالعدو عبر ضربات قاصمة في آليات ومواقع عسكرية حيوية لا يمكن للعدو الاستغناء عنها.
هذه العقيدة لخصتها اليابان في نظرية «الدرع والرمح»، وهو مبدؤها في الحروب الباردة وما تلاها. إذ تقوم القوات اليابانية «الدرع» بتأخير الأعداء وتعطيلهم حتى تصل القوات الأمريكية «الرمح» لتقوم بالفتك بهذا العدو. لكن لم يعد بالإمكان الاعتماد على النظريات القديمة في ظل العتاد الصيني الهائل والقادر على اختراق الدرع وكسر الرمح.
لذا فإن أفضل حل لورثة الساموراي أن يعتمدوا نظرية الإنكار النشط فحسب. أن يقنعوا أعداءهم أن أي هجوم على اليابان سيتحول إلى صراع طويل الأمد تخسر فيه جميع الأطراف. فبينما تتلقى القوات اليابانية الضربات، فإنها ترد بضربات أشد قسوة. وبينما يظن العدو أنه سيطر على مواقع عسكرية يابانية، فإنه سيُفاجأ بتحويل المطارات المدنية، المُجهزة مسبقًا، إلى قواعد حربية كاملة الأركان.
هذا بجانب أن اليابان ستقوم بوضع خطوط حمراء للقتال مثل ألا تتم السيطرة على أي أصل حكومي أو عسكري حيوي. كما أنها ستقوم بإهلاك أي قوات للعدو تدخل في قلب الأراضي اليابانية. كذلك فإن من الواجب القيام بهجمات مضادة لاستعادة ما يستولي عليه العدو.
ختامًا، فإن يابان اليوم عليها أن تجد منطقة وسطى بين عقيدة الساموراي المؤمنة بالدفاع ضد كل عدو مهما كلف الأمر، وأن القتل بيد العدو أو بيد نفسك هما الاختياران الوحيدان المتاحان في المعارك ما لم يتحقق النصر. وبين المادة التاسعة التي تسلب من اليابان حقها في الدفاع عن نفسها وتمنعها من أن تخوض حربًا استباقيةً أو خارج أرضها ضد عدو يترصدها. وإذا لم تتحق تلك المواءمة فإن اليابان ستبقى مهددةً بفقدان أراضيها لصالح عدويها الصين وكوريا الشمالية.