يناير الثورة العظيمة والواقع الصعب
«تنتهي الثورات بانتهاء أسبابها» هذه الحقيقة الراسخة والمبدأ المسطور في تاريخ الأمم، فالثورة روح تنتقل من جيل إلى جيل، أمل يسري في عروق مناصريها، تنتصر أحيانًا وتنحسر أحيانًا أكثر، إلا أن الحقيقة التي لا فكاك منها أنها باقية حتى تُحقق مطالبها، فهي معركة طويلة الأمد متعددة ومتنوعة المراحل، ولعل أهم أسباب نجاحها إدراك أبطالها موضع أقدامهم في كل مرحلة من مراحلها، أين هم وأين هي وكيف تغيرت الظروف المُحيطة بهم وبها، وكيف أضحت قواها والقوى المعادية، فالفرق كبير بين الثبات على المبدأ والثبات على الوسيلة، فأما المبدأ لا يتغير، وأما الوسائل فتتغير طبقًا لكل مرحلة على حدة، ويبقى في النهاية الأمل الذي لا يُمكن هزيمته طالما تشبث به أصحابه.
يناير 2011
في يناير/كانون الثاني 2011، استقبلت مصر عامها الجديد بظروف معيشية صعبة، كان من أهم أسبابها استبداد شديد وفساد عميق من الطغمة الحاكمة، والعملية السياسية تخطو نحو الجمود التام بعد انتخابات برلمانية شهدت تزويرًا فجًا لم يسبق له مثيل، نتج عنها برلمان سيطر عليه بالكامل الحزب الوطني، الذراع السياسي لديكتاتور عجوز بلغ من العمر عتيًا، وشاخت دولته التي كانت تستعد بكل قمع وقوة لتسليم مقاليد الحكم لوريثه وحاشيته الفاسدة الجديدة التي كانت تُسيطر على أقوات الناس وتنهش أرزاقهم.
كما أرادت أن تستولي على الحكم والمال والقوة وكل شيء حتى جعلت أغلب القوى السياسية وحتى الكرتونية منها خصمًا وعدوًا، كل ذلك وسط حذر وترقب من المؤسسة العسكرية التي كانت تخشى هي الأخرى من الوريث وحاشيته على مصالحها ونفوذها الاقتصادي ولكنها كانت بمنأى عن الصراع السياسي إلى حد ما، كل ذلك وسط صوت عال ومطالبات من المجتمع الدولي بالحفاظ على حقوق الإنسان والديمقراطية وتداول السلطة.
ثم جاء يناير حاملاً رياح الأمل في التغيير قادمًا من الحبيبة تونس، والتي ألهب انتصارها على الديكتاتور ابن علي حماس المصريين ودفعهم للحلم بواقع جديد والارتقاء بمطالبهم وطموحهم من المطالبة بتحسين شروط الحكم إلى تغيير النظام بالكامل، وهو ما أضاف مزيدًا من الواقعية لمطالب اللاعب الجديد الوافد حديثًا لساحة المعارضة، والذي كانت ترى فيه القوى السياسية أملاً في إحداث رجة للمياه الراقدة وقوة ضد النظام الحاكم لما يتمتع به من مكانة دولية وعلاقة قوية بحكم منصبه السابق كمدير للهيئة الدولية للطاقة الذرية.
كل ذلك أدى إلى توحد الجميع نحو أمل وهدف بتغيير هذا الواقع السيئ، ذلك الأمل الذي أقنع عشرات الملايين من الشعب فخرجوا لمناصرته بكل ما يملكون من قوة وبالوسائل التي ارتجلتها قواهم، حتى تحقق النصر لموجة عظيمة من الثورة، استطاعت من خلالها إزاحة الديكتاتور من العرش، وإبهار العالم ودفعه لتأييدها والاعتراف بنصرها العزيز.
يناير 2017
وبعد 6 سنوات من تلك الموجة العظيمة، باتت مصر في واقع أسوأ مما كانت عليه سابقًا، فقر أشد وفساد أضخم وقمع أقسى، عملية سياسية تجمدت في شتاء عسكري قارس، رئيس يحكم ببزته العسكرية لا يعترف بحق ولا حرية، وكل مطلب عادل في حياة كريمة أو صرخة ألم من فقر مدقع أو جوع مؤلم يتم دهسها تحت جنازير المدرعات، ومع كل أزمة تمر يخرج بين جنوده مُهددًا الشعب بمصير أسود كالذي تعيشه الجريحة سوريا من جراء وحشية ديكتاتور مُجرم طحن شعبه وسلم بلده لقوى أجنبية فقط للحفاظ على عرشه ومصالح طائفته، حتى بات الأمر واضحًا صريحًا بلا أي تجميل أنه ممثلاً عن مؤسسة مُسلحة، وأن أي مواجهة ستكون ضد قوات الجيش والشرطة معًا، وكذلك مُحذرًا القوى الغربية من أزمة لاجئين جديدة أشد من تلك التي حدثت نتيجة الحرب في سوريا إذا ما اهتز عرشه.
إن الواقع الجديد الذي تعيشه مصر، داخليًا وخارجيًا، هو موضع الأقدام الذي يجب أن يتحسسه المؤمنون بالثورة والقابضون على مطالبها، والذي يتطلب وسائل تناسبه وتناسب القوى التي تقف في وجههم. فخلال الأعوام المنقضية تبدل الوضع وتغيرت موازين القوى، رموزٌ خذلت الناس ولم تعِ ظروفهم ولا طبيعتهم جيدًا ولم تكن على قدر طموحهم ولا آمالهم، وأخرى اُستهلكت من فرط استعراضها وأخطائها وأصبح تصدرها للمشهد مُضرًا أكثر من نفعها.
وهناك قوى كانت داعمة وشريكة فشلت وأخطأت أخطاء جسيمة وتم تهشميها حتى بات أعضاؤها في معاناة وبطش شديد، حتى لم يبقَ إلا سبيلٌ واحد لإنقاذهم وإنقاذ الجميع، وهو التخلي عن أوهام الماضي والاعتراف بكل خطأ وجُرم، والتعامل مع الواقع الجديد بأساليبه المناسبة وبحكمة وعقلانية ضرورية، فالواقع الجديد يفرض على الجميع أرضًا جديدة، تبدأ بالاعتراف بإدراك الواقع والتنسيق والتحالف على أرضية الهدف الأكبر وهو إزاحة الاستبداد الحالي وصنع نظام ديمقراطي حر يتم التمهيد له والعمل عليه من الآن ولكن بحكمة ودون صدام قد يزيد السواد سوادًا.
فالأمر صار أشبه بالسير على الأحبال فوق لهيب الجمر، لا مفر من الوصول ولكن يجب ألا نقع في شركهم وفي مصادمات يخططون لها جيدًا، فالمواجهة يجب أن تكون على أرض محايدة وأمام العالم وبصورة سلمية، دون صدام ولا استعداء من كل الأجهزة، وإنما بالتخطيط بعيد المدى، فتكون كل مرحلة مهما كان شكلها تمثل درجة من درجات الوصول للهدف المرجو وتحقيق مطالب الثورة، والتي ما من شك أنها ستتحقق رغم أنف أعدائها ولكن موعدها مرهون بمدى إدراك جنودها لكيفية تحقيقه.