الفرعون والشاه: صراع السياسة والجغرافيا
في أواخر الخمسينيات وحتى نكسة 1967م، كانت مصر مأوى لكثير من الانقلابيين والمغضوب عليهم في بلادهم. تلك البلاد التي كان بينها وبين عبد الناصر عداوة وكراهة متأصلة، فكنت تجد في مصر «الأمراء الأحرار» الذين كان يخططون لعزل العائلة المالكة في السعودية، والضباط الأحرار الذين أرادوا الانقلاب على نظام الملك حسين، والطلبة البعثيين من العراق الذين عادوا نظام عبدالكريم قاسم، وإلى جوارهم، في قاعدة «أنشاص» العسكرية، كان عبد الناصر يساعد مجموعة من الانقلابيين الإيرانيين، الذين أرادوا الإطاحة بحكم محمد رضا بهلوي شاه إيران.
لم تكُن عداوة عبد الناصر للشاه وليدة موقف، بل كانت نتاجًا لتاريخ من العلاقة المترددة بين طهران الإمبراطورية وقاهرة الضباط الأحرار، وتلك العلاقة كانت قد انعكست على ساحة الصراع من المحيط الهادر إلى الخليج الثائر.
الطاووس يسترد عرشه
حين قامت ثورة يوليو، كان الشاه محمد رضا بهلوي جالسًا على عرش الطاووس بلا أي صلاحيات، فالبلد كان تحت حكم رئيس الوزراء الوطني محمد مصدق، الذي أحبه جمال عبد الناصر واستدعاه كثيرًا في معاركه مع الشاه، وسمى باسمه شارعًا في حي الدقي.
في انقلاب 1953م أعيد للشاه صلاحياته بالتعاون مع بريطانيا وأمريكا اللتين قادتا الانقلاب على الدكتور مصدق، ولم تحُدث ثورة يوليو في أولها خطرًا ذا بال على الشاه بهلوي، الذي رأى أن موقف أمريكا وبريطانيا تجاهها غير عدواني، إذن فيبدو أن هؤلاء الضباط على استعداد للدخول في لعبة التوازنات بشروط الغرب.
حتى 1955م، لم يصطدم عبد الناصر بالغرب وتمثلاته، ولكن عند تأسيس حلف بغداد «سنتو»، كانت الشرارة الأولى في نار العلاقة بين طهران والقاهرة، فقد رأى عبد الناصر في «سنتو» نفوذًا للتدخلات الغربية في شئون المنطقة، ستُغلب كل أمريكا وبريطانيا وإسرائيل.
أسس حركة عدم الانحياز مع نهرو وتيتو وسوكارنو كرد على «سنتو»، ولأن عدو عدوي صديقي، كانت حركة عدم الانحياز تتقارب في الأهداف والمصالح مع الكتلة الشرقية التي يمثلها الاتحاد السوفيتي، والاتحاد السوفيتي كان العدو الأول لرضا بهلوي في إيران، وحينما التقى بهلوي هيكل في لقائهما الذي حكاه هيكل في كتابه «زيارة جديدة للتاريخ» قال له: «لم يفهم عبد الناصر أن إيران محكومة بالجغرافيا بأن تتقارب مع الغرب، فعلى حدودها يقبع الاتحاد السوفيتي الذي لطالما سعى إلى تمزيقها والتوغل فيها».
إذن اختارت حكومة الشاه في إيران استراتيجية التقارب مع الغرب والتحالف مع إسرائيل، وأن تكون مكافحًا للتوغل الشيوعي في محيطها الإقليمي، وفي مصر، كان عبد الناصر ورفاقه قد وضعوا استراتيجيتهم على أساس القومية العربية والتقارب مع المعسكر الشرقي بقيادة السوفيت الشيوعيين، ومعاداة إسرائيل والغرب.
لذا، كان من الطبيعي أن تتأزم العلاقات بين زعماء البلدين بسبب التوجهات المتعارضة لديهما، التي اختارها كل زعيم لأمته.
حينما أمم عبد الناصر قناة السويس، لم تكن إيران معارضة لسيادة مصر على القناة، ولكنها شاركت في مؤتمر لندن الذي شُكل كرد على خطوة عبد الناصر بالتأميم، وبغرض توكيل إدارة القناة لجهة دولية محايدة بين أطراف النزاع. وحين خرج عبد الناصر من أزمة السويس منتصرًا، كان اسمًا يشكل خطرًا على الشاه في عرشه، فقد كان عبد الناصر حينها يمثل أحلام التحرر الوطني والتخلص من التبعية للاستعمار والتأميم وكل المُثل التي شكلها مصدق للشعب الإيراني من قبل، وكان الشاه صورة مضادة لها.
كان الشاه يخشى عبد الناصر، وقال مرة لأحد السياسيين كما ذكر المفكر الإيراني موسى الموسوي في كتابه «الثورة البائسة» : «إنني أخشى من جمال عبد الناصر أكثر مما أخشى من روسيا، فجزء كبير من شعبي يتجاوب مع فكرة الوحدة العربية أكثر مما يتجاوب مع الشيوعية ومبادئها بكثير».
لقاء في بيروت
في الخمسينيات والستينيات، كان لبنان نقطة التقاء لكل الأطماع السياسية في العالم، وكان كأنه مدينة مفتوحة في أعقاب هزيمة. تصارع عبد الناصر والشاه فيها للمرة الأولى، في صدام غير مباشر.
في النصف الثاني من الخمسينيات، انحاز مسلمو لبنان من الشيعة والسنة، واليسار اللبناني، إلى الخندق العروبي الناصري، خصوصًا بعد حرب العدوان الثلاثي 1956م، والوحدة مع سوريا.
كانت الأزمة في لبنان نتاجًا لعديد من المواقف التي اتخذها شمعون، بدءًا بتقربه من حلف بغداد، ثم عدم مقاطعته للدول التي أعلنت العدوان على مصر، وانتهاءً بمطالبة بعضً من ثوار لبنان المسلمين الانضمام للجمهورية العربية المتحدة، وهو الأمر الذي اتهم فيه شمعون عبد الناصر وحكومته بالتخطيط له، وهو الأمر الذي أثبتت تحقيقات الأمم المتحدة عدم صحته.
في 1958م، كانت البلاد على شفا حرب أهلية، وكان شمعون يريد أن تمد له فترة رئاسية جديدة بعد كل هذا.
وقف الشاه في صف شمعون، بعث له مليون جنيه إسترليني، كما يذكر كاظم ياسين في كتابه «تاريخ الشيعة والطوائف في لبنان» وأمده بكميات كبيرة من السلاح، وكانت الطائرات العسكرية الإيرانية تقوم بإيصال صناديق السلاح إلى بيروت، وفي المقابل كان شمعون قد أعطى الشاه أربعة من الضباط الأحرار الإيرانيين الذين أرادوا الانقلاب على الشاه ولجأوا في لبنان، وقام الشاه بإعدامهم والتمثيل بجثثهم.
لكن لم يخرج شمعون ولا الشاه منتصران من تلك الأزمة، فرغم تدخل قوات أيزنهاور للسيطرة على الأوضاع في لبنان بناء على طلب شمعون، فإن عبد الناصر استطاع أن يتوصل إلى اتفاق مع روبرت ميرفي مبعوث الرئيس أيزنهاور في لبنان، يقضي بعزل شمعون، وتعيين المسيحي المعتدل فؤاد شهاب قائد الجيش.
غواية ديان وروح مُصدق
23 يوليو 1960م، القاهرة تحتفل بعيدها الوطني، ويبدو جمال عبد الناصر جاهزًا لإلقاء خطبة مليئة بالحماس والزهو بمنجزاته ومنجزات الثورة، ولكن خبرًا قرأه في الصباح قد صنع فورانًا في رأسه ودمه، فالشاه «محمد رضا بهلوي» في حوار صحفي له في جريدة «كيهان» الفارسية أدلى بتصريحات تحدد علاقته بإسرائيل، على أساس كونها علاقات طبيعية بين بلدين حليفين ليس بينهما أي عداوة. وستستأنف بينهما العلاقات على أساس رسمي بدءًا من هذا العام.
ولعلاقة طهران بإسرائيل والقضية الفلسطينية، قصة يجب أن تروى في هذا الصدد، فلقد كان لإيران دورها المؤثر في القضية الفلسطينية، حيث إنها كانت واحدة من الدول الإحدى عشرة التي كونت اللجنة التابعة للأمم المتحدة التي خولت بأن تجري تحقيقًا بالقضية، عام 1947م. وبينما كانت إسرائيل في مراحل تأسيس الدولة بعد نكبة 1948م، برز على الساحة الدولية شخص محمد مصدق.
لقد كان الزعيم محمد مصدق هو الصورة الضد من الشاه، التي آمل عبد الناصر أن يجد لها مثيلاً في السياسة الإيرانية في زمنه، فمصدق كان قد سحب الاعتراف الإيراني الأول بإسرائيل عام 1951م، وأعلن إغلاق قنصلية إيران في القدس التي لم يمر خمسة أشهر على فتحها، وهو القرار الذي كان له أصداء واسعة في الشارع العربي كما يذكر سعيد الصباغ في كتابه «العلاقة بين القاهرة وطهران تنافس أم تعاون؟».
رغم الانقلاب على مصدق عام 1953م، ظلت علاقة إيران بإسرائيل غير واضحة في عدائها أو تحالفها، فإيران الشاه قد حلت الوكالة الإسرائيلية بإيران بناء على الدعاوى العربية من سفراء مصر والعراق وسوريا ولبنان في عام 1953م، ورفضت إيران طلبات إسرائيلية باستيراد بعض المحاصيل الإيرانية مقابل تصدير بعض منتجات إسرائيل على الرغم من حاجة إيران لتصدير منتجاتها.
لكن هناك ثلاثة متغيرات إقليمية إلى جانب قيام حلف بغداد وانضمام إيران إليه وانحيازها للغرب يذكرها الصباغ في كتابه هي التي أسهمت في إعادة تشكيل موقف إيران تجاه إسرائيل، وهي: «العدوان الثلاثي 1956م/الوحدة المصرية السورية 1958م/الانقلاب العسكري في العراق 1958م وانسحاب العراق من حلف بغداد».
حين ضربت الدول الثلاث «بريطانيا، فرنسا، إسرائيل» مصر في العدوان الثلاثي 1956م، أوقف الاتحاد السوفييتي صادراته البترولية إلى إسرائيل، وهنا تولدت فرصة للتقارب الإيراني الإسرائيلي مرة أخرى، وقال موشي ديان للشاه في طهران أثناء تلك الأزمة أنه يرغب في التقارب مع إيران، بخاصة وأن «عبد الناصر مصدر إزعاج لي ولك، وحالما تهزه هزة قوية فإنه سيتساقط قطعًا كأجزاء كالمومياء المصرية».
وفي أعقاب العدوان، زادت تلك المساعي، وزاد نشاط إذاعة إسرائيل الموجهة لإيران باللغة الفارسية، وكانت تنظم حفلة سنوية تستضيف فيها صحفيين من إيران لزيارة إسرائيل، على أن يعودوا بالدعاية الإسرائيلية في الشارع الإيراني.
أدت الاتصالات الإيرانية الإسرائيلية لتبلور شكل من التحالف في النهاية عام 1957م تصدر بموجبه إيران البترول إلى تل أبيب بسعر منخفض عن أسعاره آنذاك، وانعكس ذلك التطور في العلاقات على المجالات الأمنية والعسكرية والاقتصادية، بعد قيام الجمهورية العربية المتحدة 1958م التي رأت فيها إيران خطرًا يقوم على حدودها الغربية الجنوبية، بخاصة وأنها تحوي على كتلة من السنة الذين يتقاربون مذهبيًا مع العرب، وعرب خوزستان أيضًا.
أعادت الوكالة اليهودية بطهران فتح أبوابها مرة أخرى في يناير 1959م، وتعاون الموساد الإسرائيلي مع نظرائه الأمريكيين في تأسيس جهاز استخباراتي قوي آنذاك للشاه هو «السافاك». وأخذت إسرائيل في تصدير السلاح إلى طهران، وقوات الحرس الملكي.
في البداية، لم يقابل عبدالناصر تلك الخطوات بالعداوة كما هو متوقع، فقد حاول منذ أن لاحظ التقارب بين إسرائيل وإيران أن يتقرب من إيران، فأُبرمت اتفاقية ثقافية بين القاهرة وإيران عام 1958م وحاولت القاهرة أن تفتح أسواقها لطهران لتشتري منها ما تشاء بأرخص مما تشتريه من إسرائيل، ولكن تلك الخطوات تعكرت، حين وصلت الأخبار إلى القاهرة بأن قرارًا قد اتخذ بالفعل على أعلى مستوى بين الشاه وبن جوريون بإقامة علاقات رسمية بين البلدين، تُقنن بموجبها العلاقات المتسعة بينهما في كل المجالات، وتلك الأخبار التي تأكدت بالخبر الذي قرأه عبد الناصر في صباح عيد الثورة.
اعتبر عبد الناصر تلك التصريحات موجهة ضده وضد القضية الفلسطينية، وهي تلك المرة تأتي على لسان أعلى رأس في إيران، وليست اجتهادات مسئول أو وزير، ورأى عبد الناصر الكثير من الخطر في تلك الخطوة التي قد تصبح خنجرًا في ظهر الثورة العراقية، ومثالًا سيئًا للدول الإسلامية في علاقاتها بإسرائيل حين تعترف دولة إسلامية كبيرة كإيران بإسرائيل، كما أنها أصبحت بشكل عام مهددًا للمحيط العربي الذي تحيط به من كل جهة. وفي خطابه يومها هاجم عبد الناصر طهران بشدة، واتهمها أنها لطالما عادت القومية العربية وحركات التحرر العربي، وها هي اليوم تعترف بإسرائيل لتكمل نهجها العدواني تجاه العرب وقضاياهم.
استعاد عبد الناصر ذكرى مصدق في كلامه:
وبدأ عبد الناصر في تأليب الشعب الإيراني ضد شاهنشاهه قائلًا:
بناءً عليه قدمت الجمهورية العربية المتحدة مشروع قرار للجامعة العربية باستدعاء سفرائها من طهران ردًا على الموقف الإيراني. كانت الدول العربية مثل السعودية والعراق والأردن التي لديها علاقات دبلوماسية مع إيران لم توافق على سحب سفرائها، ولكنها هددت باللجوء إلى المقاطعة الاقتصادية ضدها.
كان رد الشاه قويًا وغير دبلوماسي بالمرة، فقد أصدرت خارجيته بيانًا رسميًا جاء فيه:
خط المؤامرة: أنشاص – طهران
في كتابها «الخطاب الصحفي في العلاقات المصرية الإيرانية» تستعرض هالة الحسيني لمحة مهمة من أساليب الصراع بين الرجلين، فقد أسس عبد الناصر محطة راديو باللغة الفارسية بغرض شن حملة عدائية ضد الشاه، يسمعها شعبه في إيران والدول المحيطة.
تحالف عبدالناصر مع معارضي الشاه الإيرانيين بأطيافهم من الإسلاميين واليساريين، حيث دعم الخميني بالمال والنصائح كما يذكر فتحي الديب في كتابه «عبد الناصر وثورة إيران» ويؤكده محمد هيكل في كتابه «مدافع آية الله».
واستضاف بعضًا من اليساريين في مصر لتلقي تدريبات عسكرية كان مقرها في «أنشاص» بغرض شن ثورة مسلحة ضد نظام الشاه، دعمهم عبد الناصر بالمال والسلاح.
لكن عبد الناصر كان قد فقد بعضًا من بريقه لدى الشعب الإيراني بسبب إعلائه القومية العربية كمضاد للقومية الفارسية، فقد كان عبد الناصر من أجل الضغط على إيران أكثر، قام بتغيير اسم الخليج «الفارسي» إلى الخليج «العربي»، وهي الخطوة التي استفزت الوطنيين الإيرانيين.
وأيضًا حينما أعدم سيد قطب عام 1966م الذي كان يعتبره الإسلاميون رمزًا فكريًا تقترب آراؤه من الفكر الشيعي الثوري، كانت خطوة أفقدته شعبيته لدى الإسلاميين، الذين حين علموا بذلك القرار أرسلوا تليجرفات للرئاسة المصرية تطالب عبد الناصر بعدم إعدام قطب، لم يستجب لها عبد الناصر.
انكسار ومهادنة
بهزيمة مصر في حرب الستة أيام 1967م، ضعف موقف الناصريين والقوميين العرب، ولم يعد الشاه يعتبر جمال عبد الناصر ومؤيديه خطرًا كبيرًا ذا بال، ومصر نفسها انزوت على نفسها منشغلة بإعادة الإعمار اقتصاديًا وعسكريًا، وأعاد عبد الناصر صياغة علاقاته من جديد مع الأنظمة والدول التي عاداها، فقد اعتمدت مصر على مساعدات السعودية في مرحلة البناء تلك، وهي البلد الذي لطالما ما عاداه عبد الناصر، ومن جانبه، رحب الشاه بتحسن العلاقات بين مصر والسعودية.
وفي عام 1968م راحت إيران تفكر في الاضطلاع بدور القوة الأولى في المنطقة، ورأت في تحسين علاقاتها مع مصر خطوة مهمة لإحباط اتحاد العرب المحتمل ضد إيران، بسبب تصديرها النفط لإسرائيل. بدأت إيران تبدي نوعًا من التعاطف الظاهري لمواقف مصر والعرب حيال إسرائيل، وطالبت بانسحاب إسرائيل من الضفة الغربية وقطاع غزة، ورحبت بتطبيع العلاقات مع القاهرة مقابل أن يعتذر عبد الناصر عن تصريحاته المشينة ضد جلالة الشاهنشاه، وهو الشرط الذي تنازلت عنه في ما بعد.
وقبل أن يتوفى عبد الناصر بشهر، كانت مصر وطهران أعلنتا رفع التمثيل الدبلوماسي بينهما إلى درجة السفارة، وفي 1 أكتوبر 1970م، شارك وفد على مستوى عال في جنازة ناصر ممثلًا لتعازي الشاه، ومواساته لشعب مصر في فقدانه ذلك الرجل «العظيم»، على حد وصف طهران وقتها.