بيغوفيتش وأنا (2-2)
والأهم من ذلك أن موضوعاتها شديدة التنوّع ستصير موضوعًا للنقاش الدائم، ولفترة ليست بالقصيرة؛ بيني وبين المرأة التي أحببت، لدرجة شروعنا في ترجمة الكتاب في نفس الوقت،كلٌ إلى لغته؛ وتوقُّفنا حين نفدت طاقتنا الروحية اللازمة لهذا العمل. إذ كنت قد أدركت حينها، وبشكل نهائي؛ قيمة المكابدة في سبر غور النصوص الكبرى عمومًا، ونصوص بيغوفيتش خصوصًا؛ هذه المكابدة التي تلزمها طاقة روحيّة دافعة لا يُطيقها الإنسان في كل وقت.
إذ بعض المكابدة تولِّدهُا روح الإقبال، وبعضها نتاج لروح الألم؛ الأولى قد تدفع الإدراك بسهولةٍ من القوة إلى الفعل، أما الثانية فهي تحصُر الفعل كله في الإدراك مُجرَّدًا، وتحرق أشرعة كل مراكب الهمة؛ ليكتفي المبتلى بالفهم والتأمُّل والمراقبة، مع فقدان القدرة وانعدام الرغبة في أي فعل، ولو كان الذب عن أنفه!
ثم تولَّدت داخلي، نتيجة أحداث يناير/كانون الثاني 2011؛ طاقة روحيّة وفكرية هائلة، وهي طاقة لم أكن أعرف حتى بإمكانها حتى خبرتها. طاقةٌ قلبت كثيرًا من الموازين وهدمت كثيرًا من المسلّمات، وأعادت بناء بعض الأسس من جديد. هذه الطاقة نضبت سريعًا، كما احتشدت سريعًا؛ واستُنزفت في إعادة ترتيب ذرّاتي التي بعثرها الحدث نفسه، لذا؛ لم يتبق منها شيئ أكمل به ترجمة كتاب «بيغوفيتش»، الذي كنت قد قررت نشره بعنوان: «خواطر فيلسوف مسلم».
إذ كنت ولا زلت أكره أن أنقله للعربية ككتابٍ فلسفي بارد؛ في حين أنه كتابٌ عرفاني شعري مفعم بالحرارة، التي أجاد مترجمه إلى الإنكليزية نقل أكثرها. لكنني على الأقل حاولت مواصلة الترجمة، جنبًا إلى جنب مع حلقات عقدتها لشرح كتابه العمدة: «الإسلام بين الشرق والغرب». كانت أُلفتي لأفكار «علي عزت» قد بلغت ذروتها بعد تعدُّد القراءات، ونقلها لهيب عام 2011 في روعي نقلةً بعيدة. ولم تكتمل حلقات شرح كتاب بيغوفيتش كما لم تكتمل ترجمة الكتاب. بل وتداعى عالمي تقريبًا في صيف عام 2012.
كنت قد انتقيت صديقين مُقرَّبين، جنبًا إلى جنب مع بعض الشباب الذي بدا حينها واعدًا؛ لنبدأ في حلقات بيغوفيتش، التي كنا نعقدها، ربيع عام 2012؛ في أحد مساجد حي مصر الجديدة، بواقع مرة واحدة أسبوعيًا. استمرت الحلقات لعشرة أسابيع، وكان اللقاء الواحد يتجاوز الساعات الثلاث أحيانًا. وقد أفدت كثيرًا، وبشكل شخصي؛ من الشرح والبسط الذين اضطلعت بهما.
لم أكن أقرأ من الكتاب كما يفعل الشراح التقليديون، بل كنت أرى كل شيء أمامي بوضوح؛ هيكل أفكار بيغوفيتش، وكساؤه وحركته في الوجود. كُنتُ أستشعره وأجتهد لمعايشة القدر الأكبر منه.كذا؛ كنت أتناول النص من خلال تناصّه مع نصوصٍ أخرى، أدبيّة وفلسفيّة؛ وأؤكد أن المركزية ليست للنص ذاته ولا لبيغوفيتش، بل للمباديء التفسيرية الهامة التي يُمدك بها.
وفي أولى تلك الحلقات أنطقني الله، للمرة الأولى؛ بمقولتي: «كل نص بشري لا يعود بك للوحي؛ فلا يُعوَّل علي». وقد استقام لي ترجمة فصلٍ تقريبًا من الكتاب، الذي قررت تسميته «خواطر فيلسوف مسلم»؛ على مدى هذه الأسابيع العشرة، لينتكس كل شيء بعدها.
وقد زاد من حنقي وإحباطي أن أساء أكثر الشباب الحاضرين إلى الفكرة نفسها، وبدت جديتهم أمرًا بعيد المنال؛ فبدلًا من أن تصير حلقاتنا حافزًا للإبداع والتأمُّل والتفكُّر، صار بعضهم يدون كل ما أقول كأننا انتكسنا إلى مدرسةٍ إلزاميّة، أما البعض اﻵخر فقد تلقف الكلام وسرى به مُستعرضًا، بغير وعي ولا إدراك ولا مكابدة؛ مع سريان كتابات بيغوفيتش وتحوّلها إلى موضة «فكرية» تعلَّق بها التافهون والتافهات.
إذ صار كتاب «الإسلام بين الشرق والغرب» واحدًا من أكثر الكتاب مبيعًا عند ناشره المصري، ولا حول ولا قوة إلا بالله! ولو كانت تلك الزيادة الهائلة في تداول الكتاب تعكس وعيًا حقيقيًا ومكابدة مخلصة؛ لكان حالنا اليوم في مصر غير الحال، لكنها كانت موضة وصيحة جديدة راجت بين الإسلاميين، خصوصًا أصحاب الخلفيات السلفية والأزهرية؛ الذين لم يسبق لهم اطلاع على الفلسفة ولا على ما يسميه الغرب ب«العلوم الإنسانية». وقد ساهمتُ للأسف، وبدون قصد؛ في هذا الرواج السلبي.
وقد انحدر الأمر للدرجة التي وظَّف فيها بعض الشباب المتفلِّتين من التجارب الحزبية الإسلامية، وحواشيهم؛ الكتاب للتأصيل للفن باعتباره دينًا جديدًا يستغنون به عن أديان أحزابهم وجماعاتهم «الإسلامية»، حتى صارت الأفلام السينمائية والأعمال الأدبية «مصدرًا لاهوتيًا» حقيقيًا في روع الكثيرين منهم؛ مصدرًا يستغنون به عن الدين «المرفوض»، الذي «احتكره» شيوخ فتنة ودعاة سوء كانوا قد بدأوا بالتساقُط على إثر عاصفة 2011.
بل كان الأنكى هو سعي حفنة من الإسلاميين اليعاقبة السُذج لتوظيف مشروع بيغوفيتش، بوصفه صاحب دولة؛ في مشروع دولتي «إسلامي»، مُتناسين أن جُلّ كتاباته التأسيسية قد أنتجها من منظور نقدي لطبيعة الدولة الحديثة وسلطتها (وهو ما يظهر مثلًا في إشاراته اللاذعة والسريعة لدولة باكستان «الإسلامية» في كتاب «الإعلان الإسلامي»)، بل وفي وقت كان إما مطاردًا من النظام الشيوعي اليوغوسلافي أو قابعًا في إحدى سجونه! وأن وصوله للسلطة في دولةٍ من هذا النوع كان في ظروف استثنائية فُرضت عليه ولم يسع لها، وإن اجتهد فيها بصدقٍ ليظل مُخلصًا لقيمه، على المستوى الفردي وأحيانًا المؤسسي؛ وإن عجز عن تنزيل أكثر هذه القيم في الواقع.
وقد نشر أصدقائي في الهند، قبل سنواتٍ قلائل؛ الطبعة الإنكليزية لكتاب بيغوفيتش، الذي اشتهر في العربية باسم «هروبي إلى الحرية». كما أعاد أصدقاء آخرون، وفي وقتٍ مُتزامنٍ تقريبًا؛ نشر الترجمة الإنكليزية لكتابه «الإسلام بين الشرق والغرب» في ماليزيا.
كنت قد سعيت قبلها لنشر الترجمة العربية لكتابي «الإسلام بين الشرق والغرب» و«الإعلان الإسلامي»؛ فزُرت الأستاذ «يوسف عدس» في منزله مطلع عام 2007، وصارت زياراتي له شبه دورية طوال فترات إقامته القصيرة في مصر، وحتى هجرته إلى استراليا للمرة الثانية، بصحبة ابنه؛ قبل حوالي الخمس سنوات.
صحيحٌ أنني تعرفت إليه بعد أسبوعٍ واحدٍ من توقيعه عقد نشر ترجماته لصالح دور نشر أخرى، إلا أني وجدت في لقاءه والجلوس إليه ومحاورته راحة نفسية وفائدة روحية قل نظيرهما؛ فالرجُل مكابدٌ عميق الفكرة رقيق القلب عظيم التواضُع لله شديد الاستقامة الأخلاقية، قد نبذ الدنيا وراءه ظهريًا؛ فلا يرجو من عمله إلا وجه الله. أحسبه من الأولياء ولا أزكيه على ربّه. وقد كان يتكرَّم علي بالتوجيه، ويعتبرني صديقًا له؛ برغم أنه في عُمر جدّي رحمه الله. وقد أفدت منه كثيرًا في إدراك قيمة المكابدة، وفي تعلُّم الترجمة.
كان أستاذنا «المسيري» قد ألح على الأستاذ يوسف عدس بضرورة إعادة نشر ترجمة «الإسلام بين الشرق والغرب»، بعد انقطاعها لأكثر من عقد من الزمان. وقد بلغ اهتمام المسيري بنشر الكتاب أن طلب إلى ممثلي دار «الشروق» المصرية زيارة الأستاذ يوسف عدس في منزله ومعهم العقد مُعدًا، وألا يكبدوه أية مشقة، وأرسل إليهم بالمقدمة التي دبّجها للكتاب. لكن ظل الكتاب حبيس أضابير دار الشروق طويلًا، ولم يُفرج عنه إلا بعد وفاة المسيري، رحمه الله؛ بعدة أعوام.
أذكر في مرة أني سألت الأستاذ عدس عن سبب عدم استطاعتي استظهار فصول أو فقرات من كتب بيغوفيتش، كما حدث لي مع كتاب آخرين؛ مع طول معايشتها وامتداد صحبتي لها. فأجابني رحمه الله أن هذا يعني تغلغلها إلى العظم واختلاطها به، وهذا لعمرك جلّ ما كان المؤلف ينشده. واستشهد بأمثلة من آرائي في بعض الأمور، وقال لي: في كذا وكذا من الشئون؛ يبدو تأثرك به واضحًا، كما يبدو تأثرك بالدكتور المسيري واضحًا في كذا وكذا. فسألته وأنا أطيل النظر إلى غلاف أحد مجلدات تفسير «في ظلال القرآن» الموضوع على حامل مجاور، ويبدو أنه جزء من ورده اليومي؛ ألا تجد لقطب أثرًا فيّ يا أستاذنا؟ فأجاب: لقطب وجودٌ كامن في خلفيّة كل مسلم قرأ له يا بني.
لم يكُن هدفي تقديم «قراءة» لأفكار بيغوفيتش، كما يفعل بعض المهووسين حين يطرحون قراءة لمشروعات عشرات من مفكري الإسلام في مقال واحد؛ فهذه القراءة مما تُفرد له الكتب وتفنى فيه الأعمار. لكني أردت تسليط الضوء على بعض ملامح صورة المفكر البوسنوي والمكابد المسلم العظيم علي عزت بيغوفيتش عندي، كقارئ وسالك مسلم عربي مصري؛ وذلك من خلال تتبُّع بعض معالم رحلتي معه، وطريقة تعرُّفي إليه وإفادتي منه.
وهذا، في رأيي؛ أكثر أهمية، لمن يريد صادقًا سبر غور فكر الرجل؛ من تقديم قراءتي له. ذلك أن مثل هذه الكتب لا تقرأ بالعين ولا بالعقل، وإنما بالوجدان كله. ولن يستطيع قارئ الإفادة مما أطرح من قراءة أو تأويل؛ إلا إن تشابهت قلوبنا وتقاطعت مكابداتنا، وهذا قليل بطبيعة الحال، والأولى أن يجتهد ليتقاطع من بيغوفيتش؛ فقد أفضى إلى ما قدَّم. ورضي الله عن «ابن مسعود»؛ حين قال: من كان مُستنًا، فليستن بمن مات؛ فإن الحي لا يؤمن عليه الفتنة. نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن.