«إيطاليكست» بعد كورونا: نحو عالم بلا اتحاد أوروبي
نكّست العديد من المدن الإيطالية أعلام الاتحاد الأوروبي ووضعت بدلًا منها علم الصين. قال مواطنون إن هذا تقدير منهم لدور الصين في دعم إيطاليا لمواجهة جائحة كورونا في الوقت الذي تخلى عنهم فيه الاتحاد الأوروبي. الإيطاليون يشعرون بأن العالم أدار لهم ظهره ولم يُبالِ بمعاناتهم مع الجائحة التي فتكت ببلادهم. ربما لم يكن هذا شعورًا فقط، فالواقع يقول إن أوروبا تحولت في مواجهة الوباء إلى جزر منعزلة، تهتم كل منها بنفسها فحسب دون مراعاة لمبادئ التضامن التي قامت عليها فكرة الاتحاد الأوروبي.
شعر الإيطاليون بأن الاتحاد الأوروبي قد أصيب بمرض مزمن لا مجرد أزمة طارئة، وأن حال الاتحاد لا يمكن إصلاحه حتى بعد زوال تهديد كورونا. ماوريتسو ماساري، سفير إيطاليا لدى الاتحاد، قال بأنه من الواجب على الاتحاد أن يتخذ إجراءات ملموسة ومؤثرة لمساعدة بلاده، وألا يكتفي بالاجتماعات وتبادل وجهات النظر. لكن لم يجد تصريحه صدى على أرض الواقع إذ رفض الاتحاد طلبات المساعدة التي قدمتها إيطاليا تباعًا.
سبستيان كورز، رئيس الوزاء النمساوي، صرّح هو الآخر بأن مبدأ التضامن والتكافل لا يعمل في أوروبا في ظل هذه الظروف الاستثنائية. الرئيس الصربي، إلكساندر فوتشيتش، كان أكثر جرأةً في تصريحاته قائلًا «قد رأينا أنه لا يوجد تضامن ولا تكاتف في أوروبا. أنا أثق في الصين فهي الدولة الوحيدة التي يمكن أن تساعدنا. أما بالنسبة للدول الأوروبية فنشكرهم على لا شيء»
تعددت التصريحات واختلفت مصادرها وصيغتها، لكنها تتفق في أن الذين علقوا آمالًا كبيرة على تضامن ووحدة أوروبا قد أصيبوا بخيبة أمل أكبر. وأن صورة الاتحاد الأوروبي كرمز للتعاون الإقليمي ونموذج يجب أن يحتذي به العالم قد اهتزت حتى توشك على التلاشي. وتشير الإحصائيات أن إيطاليا كانت أكثر المتألمين من الجائحة الوبائية، فمن المتوقع أن يتقلص اقتصادها بنسبة 12% العام المقبل، وهي أسوأ نسبة في دول الاتحاد كاملةً، ويبدو أنها أكثر المصدومين من رد الفعل الأوروبي، لذا تتخذ الدولة صاحبة المركز الثالث بين اقتصاديات الاتحاد، والمركز الثامن بين أقوى اقتصادات العالم، خطواتٍ على طريق بريطانيا، الخروج من الاتحاد الأوروبي.
الشعب يريد إسقاط الاتحاد
استطلاعات رأي في إبريل/ نيسان 2020 تظهر أن 71% من الإيطاليين يرون أن الاتحاد لم يدعم إيطاليا في أزمتها، و55% آخرون يرون ضرورة الخروج من الاتحاد ومن منطقة اليورو بالكامل.
الأحزاب اليمينية المتشددة استغلت بشدة الوضع الراهن في رفع نبرة المطالبة بالخروج من أوروبا. جورجيا ميلوني رئيسة حزب إخوة إيطاليا، حاصل على 13% من استطلاعات الرأي لنوايا التصويت، قالت إن الحكومة الإيطالية الحالية لا تدرك حجم قدرتها التفاوضية الحقيقية، لأن إيطاليا هي من تقرر إذا كانت أوروبا موجودة أو لا. ميلوني أردفت قائلةً بأنه لا وجود لأوروبا بدون بريطانيا وإيطاليا، وأنه لن يبقى سوى ألمانيا عظمى تسحق كل الدول الأخرى حتى فرنسا.
ماتيو سالفيني، زعيم حزب الرابطة، قال إن رئيس الحكومة الإيطالية يريد بيع إيطاليا بثمن بخس. ورغم أن نجم سالفيني قد أفل بعد مغادرته للحكومة في أغسطس/ آب عام 2019 إلا أنّه عاد للسطوع بعد أزمة كورونا وحصل على 28.5% من نوايا التصويت.
كما أن الأحزاب اليمينة ترفض مقدمًا أي دعاوى أوروبية من أجل التقشف كما فرض صندوق إنقاذ منطقة اليورو على اليونان سابقًا، ويتفقون جميعًا أن هذه الإملاءات سوف تجعل إيطاليا في وضع خضوع مُهين. هذه الإهانة عبّر عنها الإيطاليون في حساباتهم على وسائل التواصل الاجتماعي بصور كاريكاترية تظهر فيها إيطاليا كامرأة تخاطب وحشًا يحمل اسم الترويكا بلباس أزرق، إشارة إلى الاتحاد الأوروبي، قائلةً «سنواجه الأمر وحدنا».
إيطاليا تتحول لقنبلة موقوتة
امتزج الغضب الشعبي بالنداءات السياسية فأطلق جيانلويجي باراجون، صحفي وإعلامي سابق وسيناتور حاليًا، حزبه الجديد «إيطاليكست». إطلاق الحزب أتى بعد يومين من اجتماع باراجون في لندن مع نايجل فاراج رئيس حزب بريكست وصاحب الدور الفعال للغاية في خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. باراجون أشار لاستطلاع أجراه معهد بيبولي في نهاية يونيو/ حزيران 2020 يؤكد أن 7% من الإيطاليين قد حسموا أمرهم في التصويت لصالح أي حملة حزبية تدعو للخروج من الاتحاد الأوروبي.
كما أن ريناتو مانهايمر، المحلل السياسي وخبير الاستطلاعات، يقول إنّه لا يمكن لإيطاليا الخروج من الاتحاد الأوروبي لأن نسبة ضئيلة فقط هي من ترغب، النسبة الضئيلة يقدرها مانهايمر بـ 30% وقد تصل إلى 40% في لحظات الغضب الشعبي. لكن مانهمايمر يغفل حقيقة أن تلك النسبة وُجدت دون توجيه سياسي للشعب، فإذا استطاع السياسيون صب مزيد من الخطابات والحماسة على تلك النسبة فقد ترتفع إلى درجة كافية بإخراج إيطاليا من الاتحاد الأوروبي.
ومما يُنذر بارتفاع الأصوات المطالبة بالخروج من الاتحاد أن الحكومة الحالية الائتلافية المنقسمة على نفسها قد فشلت في تحسين حياة الطبقة الوسطى الآخذة في التقلص، فليس من المُستغرب إذن أن يشعر ملايين الإيطاليين بالإحباط والقلق على مستقبلهم.
ربما يطول أمد محاولات الخروج من الاتحاد نظرًا لتعقد مسألة الانعتاق من معاهدات الاتحاد الأوروبي، فلا يمكن نقض أو إبطال معاهدات دولية بمجرد قيام استفتاء داخلي في إيطاليا. في البداية سيحتاج الراغبون في الخروج إلى نصف مليون توقيع وموافقة من محكمة النقض العليا، أعلى محكمة في إيطاليا، ذلك ليدخل مشروع القانون لأروقة البرلمان ويتم التصويت عليه بالقبول أو الرفض.
الانقسام العميق والاستقطاب السياسي في إيطاليا يجعل من تلك الخطوات بدايةً بلا نهاية قريبة، إلا أنها قد تؤدي لنهاية في آخر الأمر. خاصةً وأن المنحة المالية الضخمة التي أعلن عنها الاتحاد لإيطاليا سوف تستغرق عامين على الأقل حتى تصل إلى إيطاليا، ومزيدًا من الأعوام حتى يشعر بها المواطن الإيطالي، ما يعني أن المراهنة على الوقت ليست في صالح أي طرف.
ليست أول دولة تخرج، ولن تكون الأخيرة
المثير للسخرية أن موقف الاتحاد الأوروبي بدلًا من أن يكون داعمًا لـجوزيبي كونتي، رئيس الوزراء الحالي والمؤيد للاتحاد، فقد دفع موقف الاتحاد الحكومة ومعارضيها للاصطفاف سويًا ضد الاتحاد.
إذا كان الصوت الإيطالي هو الأعلى حاليًا فإن ذلك لا يعني أنه الوحيد الذي يهمهم بالخروج من الاتحاد، فالاتحاد يواجه مصيرًا غير واضح المعالم بعد انتهاء أزمة كورونا. فأروربا منذ سنوات وهي عاجزة عن تحقيق تنسيق مشترك في القضايا الحيوية والمهمة. كما أن قيام الاتحاد الأوروبي بتقديم منح مالية لدولةٍ ما يُشعل الانتقادات في الدول الأخرى، لأن جميع الدول الأوروبية تعاني من تداعيات جائحة كورونا.
كما أن الاتحاد لم يساعد أوكرانيا حين احتلت روسيا شبه جزيرة القرم لا سياسيًا ولا عسكريًا. كذلك بان التباين بين وجهات النظر الأوروبية في التعامل مع مسألة اللاجئين إلى حد تعليق بعض الدول اتفاقية شينجن، المكسب التاريخي للاتحاد، لمدة عامين.
واللآن أتت جائحة كورونا لتظهر مدى الهشاشة الأوروبية، حتى إذا تجاهلنا الآثار المباشرة للوباء وتبعاته الاقتصادية، فإن أهم أثر له أنه سيُعيد تعريف الطريقة التي ينظر بها الأوروبيون لأنفسهم، على المستوى المحلي والأوروبي. فكما يقول الكاتب الأمريكي دوج باندو إنه باستثناء عدة أشخاص قليلين في بروكسل فلا يوجد أي أوروبي يُعرّف نفسه أنه أوروبي. يضيف باندو أنه لا أحد يُحيي علم الاتحاد الأوروبي، أو يُغني نشيد الاتحاد الأوروبي.
وما لم يذكره باندو أنه حتى في كافة المحافل الرياضية والتنافسية يظهر الانتماء الوطني للدولة، لا أحد يُشجع الآخر بحجة أن جميعهم أوروبيون.
كورونا بريء
لذا فكورونا بريء من تهمة تفتيت الاتحاد الأوروبي، فرغم أن طبيعته الوبائية تجعله يفتك بالبشر وأجسادهم، إلا أنه لم يفتك بكيان الاتحاد الأوروبي، ولم يفعل سوى أنه كشف تناقضات الاتحاد والشقوق التي تزداد يومًا بعد الآخر في هيكل الاتحاد.
كذلك فإن كورونا قد أكد لكل فرد على أهمية الدولة القومية فقط، وكشف عوار كل النماذج التي تُقدم نفسها ككيانات فوق الوطنية والقومية، فكل دولة أغلقت بابها وخاضت معركتها منفردة، لم تنفعها السوق الأوروبية المشتركة ولا العمالة الرخيصة في دولةٍ أخرى، ولا حتى الجيش الأوروبي المشترك.
ما يعني أنه بعيدًا عن الآثار المباشرة لكورونا على الاقتصاد والحياة الاجتماعية، فإنه يمكن أن يؤدي لرد فعل شعبي عنيف يصنع شبكةً أوروبيةً من الحكومات الشعبوية المتطرفة التي تكفر بقيم أوروبا الواحدة ولا تؤمن سوى بقوميّتها وبأن كل شيء في الدولة وهو مسألة أمن قومي يجب أن تمتلكه الدولة وتُجيده منفردةً دون دعمٍ من أحد.
لقد أخطأ الاتحاد الأوروبي حين ترك إيطاليا تتألم منفردةً، وأخطأ البنك المركزي الأوروبي حين رفض تقليص سعر الفائدة على الدين الإيطالي، فتُركت إيطاليا وحدها في مواجهة الموت والانهيار الاقتصادي. ويبدو أن الإيطاليين عازمين على معاقبة أوروبا فور انتهاء الأزمة.