الأزمة الإيطالية الفرنسية: صراع ممتد أم زوبعة في فنجان؟
اندلعت قبل نحو أسبوعين أزمة دبلوماسية حادة بين فرنسا وإيطاليا، بعدما التقى نائب رئيس الوزراء الإيطالي لويجي دي مايو، نشطاء من حراك السترات الصفراء المناهض لسياسات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وهو ما عدته باريس تدخلًا إيطاليًا غير مقبول في شأنها الداخلي، واستدعت سفيرها في روما للتشاور.
ورغم أن الأزمة، التي وصفت بأنها أكبر خلاف دبلوماسي بين البلدين منذ الحرب العالمية الثانية، انتهت قبل أيام،بإعلان فرنسا إعادة سفيرها إلى إيطاليا، عقب مكالمة هاتفية تمت بين ماكرون والرئيس الإيطالي سيرجيو ماتاريلا بحثا خلالها «مدى أهمية الصداقة بين بلديهما، وكم يحتاج كل منهما إلى الآخر»، وهو ما اعتبره البعض «اتجاهًا لطيّ صفحة الخلاف»، فإن هناك العديد من الشواهد التي تشير إلى أن الأزمة بين البلدين هدأت لكن لم تنتهِ، وأنها أقرب للاشتعال مرة أخرى منها إلى الخمود الدائم.
اختلاف الأيديولوجيات
فشلت الأحزاب الإيطالية التقليدية، المنتمية إلى يسار الوسط ويمين الوسط، في إيجاد حلول للأزمات التي تعاني منها الدولة، وعلى رأسها أزمة اللاجئين التي تفاقمت خلال عامي 2015 و2016 ولا تزال ممتدة إلى الآن، واستمرار سياسات التقشف الاقتصادي القاسية، وهي مشكلات يعتقد كثير من المواطنين الإيطاليين أن الاتحاد الأوروبي – الذي تؤيده النخبة التقليدية – هو المسؤول عنها.
من رحم هذا الفشل، صعد اليمين المتطرف المناهض للمهاجرين والاتحاد الأوروبي، متعهدًا بحل الأزمات وإعادة إيطاليا قوية مرة أخرى. وعليه، تصدرت حركة «الخمس نجوم» الشعبوية وحزب «الرابطة» اليميني المتطرف نتائج الانتخابات البرلمانية، وشكلا حكومة مشتركة في يونيو/ حزيران الماضي، بقيادة جوزيبي كونتي.
اقرأ أيضًا: حلول منتهية الصلاحية: اليمين المتطرف على أعتاب روما
بالتزامن مع هذا، كان نجم إيمانويل ماكرون «الديمقراطي الليبرالي» يلمع في سماء فرنسا وأوروبا، خاصة بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وبات ينظر إليه على نطاق واسع أنه خليفة زعيمة أوروبا المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بكل ما يعنيه ذلك من الإيمان بأوروبا الموحدة والترحيب المشروط بالمهاجرين واستمرار السياسات الاقتصادية النيو ليبرالية.
اقرأ أيضًا: ماكرون «الأول» إمبراطورًا لفرنسا الجمهورية
يقف قيادات اليمين في إيطاليا والرئيس الفرنسي على طرفي نقيض، فبينما يناهض اليمينيون الاتحاد الأوروبي والمهاجرين، يسعى ماكرون إلى إقامة جيش أوروبي موحد ووضع سياسة مرنة للهجرة. وبينما تؤمن الحكومة الإيطالية بالمفاهيم القومية يقف ماكرون مع العولمة والسياسات النيوليبرالية.
كان طبيعيًا أن يكون نتاج هذا التناقض، حدوث أزمات بين البلدين. الأمر كان جليًا منذ وقت مبكر. ففي نفس الشهر الذي تولي فيه اليمينيون الحكم في إيطاليا،رفضوا استقبال لاجئين عالقين في البحر على متن سفينة الإغاثة أكواريوس، وهو ما نددت به فرنسا بشدة، إذ وصف ماكرون الموقف بـ«المعيب وغير المسؤول للحكومة الإيطالية»، بينما اتهم رئيس الوزراء الفرنسي إدوارد فيليب إيطاليا بعدم الوفاء بالتزاماتها الدولية.
وردت رئاسة الحكومة الإيطالية بأنها «لا يمكنها أن تقبل بتلقي دروس منافقة من بلد فضل إشاحة النظر عن مشكلة الهجرة»وألغت اجتماعًا بين وزيري الاقتصاد، الإيطالي ونظيره الفرنسي، وتم التلويح بإلغاء لقاء رئيس الحكومة الإيطالية جوزيبي كونتي مع الرئيس الفرنسي ماكرون. ولم تنتهِ الأزمة سوى بعد قبول إسبانيا استقبال السفينة.
الصراع على كعكة ليبيا
اختلاف الأيديولوجيات وتناقض الرؤى حول كيفية حل المشكلات الأوروبية، هو وجه واحد من الأزمة بين البلدين الجارتين، أما الوجه الآخر، فهو الصراع على النفوذ والنفط في ليبيا.
تنظر إيطاليا إلى ليبيا منذ عقود على أنها حديقتها الخلفية ومجال نفوذها الأفريقي الأول، وسوق واسعة لصادراتها وشركاتها بفضل النفط، والدولة التي يمكن أن تفتح عليها أبواب الجحيم إذا سمحت للمهاجرين بعبور المتوسط. قبِل زعماء روما الذل من أجل الحفاظ على علاقتهم بليبيا القذافي، فلا أحد ينسى مشهد رئيس الوزراء الإيطالي الأسبق سلفيو بيرلسكوني وهو يقبل يد الرئيس الليبي الراحل معمر القذافي في مشهد شديد الغرابة.
عقب سقوط معمر القذافي، بدعم قوي من فرنسا بقيادة نيكولا ساركوزي، طمحت باريس إلى ضم ليبيا لحظيرة مستعمراتها السابقة في أفريقيا، ونزع عقود النفط والتسليح الليبية الضخمة من يد إيطاليا، مستغلة الفوضى في ليبيا وضعف قادة روما.
دعمت فرنسا بقيادة فرانسوا هولاند، بشكل غير علني، اللواء خليفة حفتر، منذ ظهوره عام 2014.ولم يفتضح أمر هذا الدعم علنًا بشكل مباشر، سوى في صيف عام 2016، عندما قُتل ثلاثة ضباط فرنسيين عقب تحطم هليكوبتر عسكرية في مدينة بنغازي، مما اضطر فرنسا إلى الاعتراف بوجود قوات لها في ليبيا «لجمع معلومات استخبارية»، لكن القوات التابعة لحفتر، قالت إن القتلى «مستشارون عسكريون» لهم. ونقلت تقارير صحفية أخبارًا تفيد بأن «القوات الفرنسية تتعاون مع قوات موالية لحفتر ضد متشددين إسلاميين، وخصوم آخرين في بنغازي وغيرها من مناطق شرق ليبيا».
اقرأ أيضًا: غيابه مُربك كحضوره: قصة «حفتر» المثيرة للجدل!
بفضل الدعم الإماراتي – المصري – الفرنسي، نجح اللواء حفتر في السيطرة على شرق ليبيا و منطقة الهلال النفطي الذي تنتج حقوله نحو 60 في المائة من الإنتاج النفطي، وتضم أهم موانئ تصدير النفط. وبات حفتر بذلك الرجل الأقوى في ليبيا.
على الجانب الآخر، قررت حكومة روما، بقيادة زعيم الحزب الديمقراطي ماتيو رينزي، دعم حكومة الوفاق الوطني في طرابلس بقيادة فايز السراج، وهي الحكومة المعترف بها دوليًا. وعقب الكشف عن الدعم العسكري الفرنسي للواء حفتر،أقامت إيطاليا غرفة أمنية مشتركة مع حكومة الوفاق من أجل وقف عمليات الهجرة غير الشرعية، وتدريب قوات حرس الحدود، والتصدي للإرهاب والتطرف.
سار ماكرون عقب توليه رئاسة فرنسا، في مايو/ آيار 2017، على نفس نهج سلفه هولاند تجاه ليبيا. وفي إطار محاولاته لتلميع صورته وإظهار نفسه رجلًا حاسمًا وحازمًا، حاول حل الأزمة الليبية بعيدًا عن إيطاليا، و جمع حفتر والسراج بقصر «لاسيل سان كلو» التاريخي، في يوليو/ تموز 2017، من أجل الوصول إلى اتفاق ينهي الصراع. و تم التوافق على إبرام انتخابات رئاسية في ربيع 2018، واعتماد الحل السياسي كحل وحيد لإخراج ليبيا من أزمتها، لكن الاتفاق لم ير النور أبدًا.
قدمت حكومة اليمينيين في إيطاليا وهي تكاد تميّز من الغيظ من المساعي الفرنسية للسيطرة على ليبيا. كان هذا واضحًا في خطاب قيادات حكومة جوزيبي كونتي، إذ قالت وزيرة الدفاع الإيطالية إليزابيتا ترينتا لنظيرتها الفرنسية، فلورنس بارلي: «القيادة في ليبيا لنا»، كما حملت فرنسا المسؤولية جزئيًا عن الأزمة في ليبيا بسبب تدخلها العسكري ضد القذافي عام 2011، و«وضع مصالحها الخاصة قبل مصالح الشعب الليبي وأوروبا نفسها».
ووجه وزير الداخلية الإيطالي رئيس حزب «الرابطة» ماتيو سالفيني، نفس الاتهام إلى فرنسا، منتقدًا في الوقت ذاته مساعي ماكرون لإجراء انتخابات رئاسية في ليبيا أواخر العام 2018. فيما دعا نائب رئيس الوزراء الإيطالي، لويجي دي مايو، في يناير/ كانون الثاني الماضي، الاتحاد الأوروبي إلى فرض عقوبات على باريس بسبب سياساتها تجاه أفريقيا، قائلًا، إن «الاتحاد الأوروبي ينبغي عليه فرض عقوبات على فرنسا وجميع الدول التي تحاكيها في إفقار أفريقيا وحمل الأفارقة على مغادرتها لأن الأفارقة ينبغي أن يكونوا في أفريقيا، لا في قاع البحر المتوسط».
اقرأ أيضًا: بين إيني وتوتال: صراع إيطالي فرنسي على النفوذ في ليبيا
فرنسا وإيطاليا إلى أين؟
دفع الخلاف الأيديولوجي بين قادة فرنسا وإيطاليا، وكذلك الصراع على النفوذ والثروة في ليبيا، بسياسيي روما إلى دعم مظاهرات السترات الصفراء في فرنسا، التي اندلعت أواخر العام الماضي. و وصف ماتيو سالفيني، الرئيس الفرنسي ماكرون بأنه «صنيعة مختبر اخترع لمنع التغيير الوحيد الذي كان يرتسم في الأفق»، وقال إنه يدعم المواطنين النزيهين الذين يحتجون على «رئيس يحكم ضد شعبه».
ووجّه لويجي دي مايو، كلمة إلى المتظاهرين الفرنسيين قائلًا: «السترات الصفراء، لا تتراجعوا .. الحكومة الفرنسية كغيرها من الحكومات تسعى إلى تمثيل مصالح النخبة، أولئك الذين يتمتّعون بامتيازات أكثر من مصالح الشعب .. حكومة ماكرون ليست على مستوى التطلّعات، وتنتهج سياسات خطيرة ليس فقط بالنسبة للفرنسيين، ولكن أيضًا بالنسبة لأوروبا .. لقد توصّلنا في إيطاليا إلى قلب هذا التوجّه»، ودعا المحتجين إلى القيام بالأمر نفسه.
هذه الهجمة الشرسة من مسؤولين رفيعين في الحكومة الإيطالية كانت سابقة، ورغم الاستهجان والتنديد الفرنسي، فإنها استمرت وتفاقمت حد لقاء لويجي دي مايو بنشطاء من حراك «السترات الصفراء»، في إطار سعيه إلى خوض انتخابات البرلمان الأوروبي، مما دفع باريس إلى استدعاء سفيرها.
ورغم إعادة ماكرون لسفير بلاده إلى روما، بعد مكالمة ودية مع نظيره الإيطالي سيرجيو ماتاريلا الذي يشاركه العداء لليمينيين المتطرفين، فإن الخلاف لم ينته والأمر لا يعدو كونه سحبًا للأزمة من التداول العلني الذي يصب في مصلحة التحالف الشعبوي – اليميني المتطرف الحاكم في إيطاليا. وببساطة فطالما استمر نفس التحالف على رأس الحكم في إيطاليا، واستمر ماكرون على رأس الحكم في فرنسا، وطالما استمر الصراع على ليبيا مشتعلًا بين البلدين، فالخلاف سيتواصل والأزمة مرجحة بشدة للتفاقم مرة أخرى.